أثار الهجوم على منشأة نطنز النووية في 11 أبريل 2021م، والذي اتّهمت إيران إسرائيل بالمسؤوليَّة عنه، المخاوف بشأن التأثير على مسار مفاوضات فيينا بين طهران وواشنطن، وهو المسار الذي انطلق بحضورٍ غير مباشر للولايات المتحدة في إطار اللجنة المشتركة للاتفاق النووي في السادس من أبريل 2021م، وذلك في أول جهودٍ دبلوماسية من أجل بحث عودة الطرفين للالتزام ببنود الاتفاق النووي، حيث نجحت اللجنة المشتركة في تشكيل مجموعتّي خبراء تضع إحداهما قائمةً بعدد العقوبات التي تقبلُ الولايات المتحدة رفعها، فيما تضعُ الثانية قائمةً ببنود الاتفاق النووي التي تعود إيران للالتزام بها، وقد عادت الوفود لطرح نتائج الاجتماعات وما توصَّل إليه الخبراء على المسؤولين في البلدين، وتمَّ الاتفاق على معاودة الاجتماع مُجدَّدًا.
كشفت مخرجات الجولة الأولى عن اقتصار المفاوضات على مسألة العودة للاتفاق النووي، وانحصر الخلاف بالأساس ولا يزال حول مطلب إيران برفع العقوبات أولًا، مقابل الرغبة الأمريكية في عودةٍ متزامنة وَفق مبدأ خطوة خطوة لإعادة إحياء الاتفاق، وكانت أبرز الملاحظات هي غياب أيّ تمثيلٍ إقليمي في فيينا، وكذلك عدم إدراج قضايا البرنامج الصاروخي أو السلوك الإقليمي لإيران على جدول الأعمال، فيما يبدو تراجعًا واضحًا من جانب إدارة بايدن عن الوعود التي قطعها الرئيس على نفسه أثناء الحملة الانتخابية وخلال الأسابيع الأولى من حكمه، واستمرارًا لتقديم مزيدٍ من التنازلات لإيران.
ربما جاء موقف إدارة بايدن بناءً على توجّه بعكس كافة سياسات ترامب، إضافةً إلى إيمان راسخ بأنَّ العقوبات لم تكُن فاعلة في تعديل سلوك إيران، بل أدى الانسحاب من الاتفاق النووي إلى خروج برنامج طهران النووي عن السيطرة في ظل تخفيض إيران لالتزاماتها النووية، كذلك الرغبة في الوصول إلى تسويةٍ مع طهران قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المُقرَّر عقدها في 18 يونيو 2021م، من أجل تجنّب اتجاه سياسة طهران نحو مزيدٍ من التشدّد في حالة هيمنة المحافظين على مفاصل السلطة وبالتالي تراجع فُرص الدبلوماسية، خصوصًا أنَّ إحياء الاتفاق النووي بمثابة حجر الزاوية في سياسة بايدن تجاه المنطقة، سواءً من جهة وضع برنامج إيران النووي تحت السيطرة، وبالتبعية تهدئة الاستقطاب الإقليمي ومنحها فرصةً أكبر لتوجيه مواردها نحو مواجهة الخطر الصيني.
مع أنَّ الولايات المتحدة بحسب مستشار الأمن القومي جيك سوليفان رأت أولوية تحييد الاتفاق النووي، لكن على أرض الواقع ليس هناك أيّ ضمانات حقيقية بأنْ تحقّق العودة للاتفاق على هذا النحو المتسرّع والمجاني ما تصبو إليه إدارة بايدن، فلم تنجح الولايات المتحدة في إعادة المفاوضات حول المِلفات التي لم تدرجها في اتفاق 2015م، وبعد توقيع الاتفاق اعترف أوباما شخصيًا في نهاية عام مطلع 2017م، عشيَّة رحيله عن البيت الأبيض، بأنَّ إيران لم تلتزم بروح الاتفاق، فما هو الجديد الذي تقدّمه المفاوضات حتّى يمكن التنبؤ بأنَّ إيران ستغيّر سلوكها وتراعي روح الاتفاق!
على هذا النحو يمكن تفسير رفض القوى الإقليميَّة للمنحى الذي تتّخذُه الولايات المتحدة في مفاوضات فيينا، باعتبار أنَّ إعادة إحياء الاتفاق نفسه لا تضمن بالفعل سيطرةً مؤكّدة على برنامج إيران النووي في المستقبل، ولا سيَّما بعدما اكتسبت إيران معرفةً تقنيةً نووية يمكن أن تختصر معها وقت الاختراق للحصول على قنبلة نووية، خاصّةً أنَّ بعض القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية تسقط تدريجيًا اعتبارًا من 2025م، وقد لا تتمكّن الولايات المتحدة من تعديل الاتفاق؛ بسبب تعنّت طهران وضغطها بورقة البرنامج النووي وضيق الوقت، وبطبيعة الحال تحوّل إيران لقوة نووية سيكون بمثابة خللٍ فجّ في ميزان القوة الإقليمي لصالح إيران وسيدفع المنطقة لا محالة نحو سباق تسلّح نووي.
يضافُ إلى ذلك الواقع الذي تعيشه المنطقة منذ توقيع صفقة 2015م، حيث استغلَّت إيران الاتفاق وما نجم عنه من مكتسبات لدفع مشروعها خطواتٍ للأمام، وكانت المحصّلة في النهاية انهيار العديد من الدول واندلاع الحروب الأهلية، وانتشار الإرهاب، وشنّ هجمات على المنشآت النِّفطية وإمدادات الطاقة، وتهديد حُريَّة الملاحة في الممرات الملاحية الإستراتيجية، وما حدث أمس ولا يزال يحدث سيكون هو الحال غدًا، خاصّةً إذا ما تحصّلت إيران على موارد مالية جرَّاء رفع العقوبات والإفراج عن أموالها المجمدة في الخارج، حيث ستكرّس هذه الموارد سلطة المرشد والحرس الثوري في الداخل، كما ستُشجّع الحرس الثوري على تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، فضلًا عن تقديم الدعم للميليشيات وزيادة التدخل النّشط خارج الحدود، والضغط على الوجود الأمريكي في المنطقة حتّى تفسح الطريق أمام مزيدٍ من هيمنتها الإقليمية.
ومع العودة المجانية للاتفاق النووي ربما لن تخسر الولايات المتحدة حلفاءها وحسب، وتواجه مقاومةً من جانبهم لسياساتها تجاه طهران، بل إنَّ الولايات المتحدة ستُفاجَأ بتعزيز طهران لتوجهاتها نحو الشرق، وتحديدًا تجاه روسيا والصين، وكما حصلت الصين على النصيب الأكبر من الكعكة الاقتصادية بعد اتفاق 2015م فسيتكررُ الأمر بعد إعادة إحياء الاتفاق النووي؛ لأنَّ إيران بالأساس لديها عائقٌ أيديولوجي يحول دون تنمية العلاقات مع الولايات المتحدة، إذ يعتبر النظام أنَّ ذلك يهدّد سلامة النظام وبقائه، ويهدّد القيم الثقافية التي يرعاها، والأكثر من ذلك أنَّ إيران ستكون بوابة لتعظيم حضور الصين الجيوسياسي في الإقليم ككُل حيث يحتاج البلدان إلى اعتمادٍ مُتبادل لموازنة الضغوط الأمريكية.
بناءً على ذلك يمكن القول: إنَّ الاندفاع الأمريكي نحو إعادة إحياء الاتفاق النووي والتعويل مرةً أخرى على احتواء إيران ودمجها عبر سياسة الانخراط، والضغط على القوى الإقليميَّة من أجل قبول الأمر الواقع مخاطرةٌ غير محسوبة من إدارة بايدن، وإعادة إنتاج للعجلة، بل هو عدم مراعاة للتغييرات التي طرأت على المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وتفريطٌ غير مبَّرر لأوراق الضغط الأمريكية، بل لا يعبّر عما وعد به بايدن من دبلوماسية ذكية شاملة لمواجهة المخاطر التي تمثّلها إيران، ومِن ثَمَّ فإنَّ الأجدر بإدارة بايدن أن تعيد النظر في دبلوماسيتها الراهنة تجاه إيران، والنظر إلى هجوم نطنز على أنه أحد صور المقاومة الإقليميَّة للاتفاق النووي ولمسار فيينا، وهي المقاومة التي لن تتوقَّف ما لم يعالَج مِلف إيران بصورة شاملة، وهي مقاومة لا تنفكّ عن معارضة داخلية واسعة في الولايات المتحدة لا تقتصر على الجمهوريين وحسب بل الديمقراطيين كذلك، حيث لا ضمانات في فيينا لالتزام إيران إذ ما اكتفت إدارة بايدن بتحييد الاتفاق النووي، وأجَّلت حسم المِلفات الشائكة الأخرى تحت خدعة مفاوضات متابعة قد تخوضها الولايات المتحدة بلا أيّ أوراق ضغط على إيران، ولا سيَّما أنَّ المتشدّدين على الأرجح بصدد هيمنة على مفاصل السلطة في إيران بعد انتخابات الرئاسة في 18 يونيو 2021م، بصرف النظر عن نجاح مفاوضات فيينا في إعادة إحياء الاتفاق النووي خلال الفترة المتبقية قبل الانتخابات من عدمه.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد