دفعت الولاياتُ المتحدة على يد إدارة بايدن بإستراتيجيتها العالمية الجديدة، التي استندت إلى خلق منافسة إستراتيجية مع القوى الكبرى المنافِسة، الصين وروسيا، عن طريق إعادة الانتشار بالقرب من مناطق التماس معهما، وإعادة تأهيل التحالفات القديمة، أو بناء تحالفات جديدة لحصار هذه القوى وخلق قوة ردع هائلة على تخومهما. وقد كان إشعال هذه المنافسة الإستراتيجية بغرض إدارة الصراع الدولي لصالح الولايات المتحدة، بحيث يسمح لها هذا التنافس بتعضيد عَلاقتها بحلفائها وإضعاف خصومها واستنزافهم. وقد انعكست هذه الإستراتيجية على عدد من الأقاليم الفرعية التي بدت أقل أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، ومنها الخليج العربي الذي أُعيد النظر فيه بشأن مظلة الحماية الأمريكية القديمة، وأُطُر التعاون المختلفة، والانتشار العسكري، وهي التطوّرات التي أثارت الشكوك حول الرغبة الأمريكية في ترك الصراع بين القوى المتنافسة مفتوحًا، بما يسمح بتدفق المصالح دون تكاليف. وقد جاءت هذه التطوّرات في ظل اعتقاد أمريكيّ بأن إسرائيل باتت أكثر أمنًا، وأن أهمية الخليج بوصفه مصدرًا للطاقة قد تراجعت، وأن هناك مناطق أكثر أولوية للمصالح الإستراتيجية الأمريكية.
بدورها، مثّلت الأزمة الأوكرانية مختبرًا مهمًّا لمدى نجاعة الإستراتيجية الأمريكية وخياراتها المختلفة، فمن ناحيةٍ أسهمت الأزمة في إعادة ترتيب البيت الأمريكي من الداخل، ومعالجة التناقضات الداخلية، والانقسام السياسي الذي أعقب الانتخابات الرئاسية في 2020م. وعلى الصعيد الدولي، تأكدت حقيقة القيادة الأمريكية للنظام الدولي، وتلاشت الشكوك حول حدود تأثيرها، فاليوم تقف الطبقة السياسية بطيفَيها الجمهوري والديمقراطي خلف إدارة بايدن، بل نجح بايدن في أن يعبِّر عن تطلعات الحزبين في الأزمة وكأنه رئيس لكليهما، في لحظةٍ أمريكية استثنائية ليست غريبة عنها، وفي ظل إدارة براغماتية لديها رؤية، تعمل بصورة شديدة التنسيق والتعاون، ويتمتع أعضاؤها بمستوى عالٍ من الخبرة والكفاءة. كذلك نجحت الولايات المتحدة في توظيف الأزمة، بصرف النظر عن أنها جزء من صناعتها أم لا، في أن توحِّد خلفها الأوروبيين الذين كانوا منقسمين عشية الحرب حول العَلاقة عبر الأطلسي، ويبحث بعضهم عن استقلاليةٍ إستراتيجية عن الأمريكيين، الذين حققوا نجاحًا إضافيًّا في بناء أكبر تحالف دولي غير رسمي لمواجهة روسيا، وهو تحالف أصبح أكثر تماسكًا وجهوزية لمواجهة أي تحدٍّ يواجه النظام الدولي القائم، بما في ذلك التحدي الصيني القادم.
ما حققته الأزمة في شرق أوروبا لم يكن كذلك في الشرق الأوسط، إذ كشفت الأزمة الأوكرانية عن وجود تناقضات هائلة بين الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج العربي، في ما يبدو أنه إخفاق أمريكي في الحصول على التأييد اللازم من جانب القوى التي طالما كانت تقف إلى جانب الولايات المتحدة، وأسهمت بصورة أساسية في ريادتها الدولية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منذ حرب أفغانستان وحرب تحرير الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي. هذا التناقض بطبيعة الحال ليس وليد اليوم، بل هو رصيد متراكم منذ تغيير الولايات المتحدة رؤيتها لمكانة ودور الخليج العربي في إستراتيجيتها العالمية. وقد ظهر ذلك جليًّا منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021م، الذي انسحب بصورة مفاجئة من أفغانستان، الأمر الذي ولَّد شعورًا بأن الولايات المتحدة لا تقف إلى جانب حلفائها، فضلًا عن استعداد بايدن لتقديم تنازلات كبيرة من أجل التوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، مع أن هذا الاتفاق سيكون على حساب دول الخليج لأنه لن يؤدي إلى كبح جماح إيران، وسيعزز دورها الإقليمي وقدراتها العسكرية، إضافة إلى الامتناع عن تصنيف جماعة الحوثي ضمن الجماعات الإرهابية، رغم قرار مجلس الأمن الأخير القاضي بإدراجها ضمن قوائم الإرهاب، ورغم هجماتها المتكررة على دول الخليج، ناهيك بالضغوط، إذ لا تزال إدارة بايدن تعرقل صفقات الأسلحة للإمارات والسعودية.
لقد كشفت الأزمة الأوكرانية عن الفجوة بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وظهر ذلك في الرفض الخليجي، لا سيّما المملكة العربية السعودية والإمارات، لسياسات بايدن. وتجلى هذا الرفض في عدم استجابة الرياض وأبو ظبي للرغبة الأمريكية لدخولهما في الاصطفاف ضد روسيا، وكذلك رفض المطالب الأمريكية بزيادة إنتاج النفط. وعكس ما توقع الأمريكيون بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يصدر عن دول الخليج مواقف مؤيدة للإدارة الأمريكية التي تعمل جاهدة لخنق روسيا بكل السبل المتاحة، إذ رفضت الإمارات في مرتين متتاليتين إدانة موسكو في مجلس الأمن، أما السعودية فقد امتنعت عن تلبية طلب بايدن بزيادة إنتاج النفط بهدف خفض الأسعار وتعويض إمدادات النفط الروسي. هذه المواقف السعودية الإماراتية كشفت أن هذين البلدين فضَّلا النأي بنفسيهما عن الصراع الروسي-الأوكراني، بالطبع ليس من أجل إرضاء روسيا، بل لأسباب تتعلق بالتعاطي الأمريكي مع دول الخليج، الذي لا تراعي فيه واشنطن مصالح ومخاوف هذه الدول. وهذه هي المرة الأولى، منذ عقود، التي لا تظهر فيها دول الخليج شريكًا إستراتيجيًّا للتحالف الغربي.
خلاصة القول أنَّ التطوّرات قد أثبتت أن الخليج العربي رقْم مهمّ في السياسات العالمية، ليس فقط لموارد الطاقة التي ثبت خطأ الاعتقاد بأنها لم تعُد مهمة، وليس فقط لأنه يمكن إدارة الصراعات بما يسمح بتدفق المصالح دون تكلفة، ولكن أيضًا لأنّ قادته لديهم مشروعات طموحة، ويتطلعون إلى الدفاع عن مصالحهم الوطنية وأمن بلادهم، وليسوا على استعداد لارتهان ذلك مجانًا لأيّ قوى دولية. ولهذا، إمّا أن تتخلى الولايات المتحدة عن إشعال منافسة إقليمية لإدارة مصالحها دون تحمُّل تكاليف، وتكون حاضرة لحماية مصالحها ورعاية تحالفاتها، وإمّا أن تكون مستعدّة لشرق أوسط جديد، تبحث فيه دول الخليج عن استقلاليةٍ إستراتيجية، خصوصًا أن الأزمة الأوكرانية أثبتت أن الخليج موازن هائل بوصفه مصدرًا للطاقة ولاستقرار الأسواق العالمية، كما ثبت أن الخليج لديه خيارات متنوعة في سياساته الخارجية وعَلاقاته مع القوى الدولية، ولن يقبل أن ترتهن الولايات المتحدة قوته ومكانته لصالحها، توظفهما وقتما تشاء وتتخلى عنهما وقتما تشاء، ويمكنه أن يتحرك في الفضاء الذي تتيحه المنافسة الدولية المتصاعدة بين الأقطاب الدولية، ناهيك بأن دوله باتت تمتلك القدرة على قيادة إستراتيجيات إقليمية لحماية مصالحها والدفاع عنها، بصرف النظر عن التعاون مع الولايات المتحدة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد