ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وصيغة جديدة للتعاون الأمريكي-السعودي

https://rasanah-iiis.org/?p=32648

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

حظي لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع شبكة «فوكس نيوز» الأمريكية ذائعة الصيت في 21 سبتمبر 2023م باهتمام محلي ودولي كبير، تردد صداه داخل السعودية وعواصم الإقليم والعالم، ولمَ لا وهناك شغف كبير لسماع وجهة نظر عرَّاب المشروع الوطني السعودي في التطورات الهائلة التي تشهدها السعودية على المستويات والأصعدة كافة التي تُتداول الأخبار عنها بلا انقطاع حتى باتت حديث الجميع، بما في ذلك النهضة الشاملة التي تشهدها البلاد داخليًّا، والمكانة الرائدة التي حجزتها لنفسها على مستوى الإقليم بوصفها الأكثر تأثيرًا وتحفيزًا للأمن والاستقرار، وكذلك على المستوى الدولي بالتموضع بين أندية الكبار باعتبارها قوة لا غنى عنها اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا؟ بجانب كل هذا، قد يكون حديث بن سلمان خلال الحوار حول العَلاقة مع الولايات المتحدة هو الأكثر أهمية في القضايا الخارجية، لا سيّما أن العَلاقات بين الجانبين كانت موضوعًا لنقاش واسع خلال السنوات الأخيرة، لكن كشف الحوار عن أن حراكًا دبلوماسيًّا وتفاهمات تتشكَّل قد تضع البلدين على عتبة مرحلة جديدة.

بدايةً، من المعلوم أن العَلاقات السعودية-الأمريكية كانت قد تضرَّرت بصورة ملحوظة منذ قدوم إدارة بايدن، التي قيَّمت العَلاقة من منظور التنافس الحزبي الداخلي، مُتغاضيةً عن الشراكة الإستراتيجية التي ضمنت تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم على مدى 80 عامًا، وقد طالت الخلافات بعض القضايا والملفات الدولية والإقليمية على ضوء تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط، بل كانت واشنطن تمارس ضغوطها على السعودية في عديدٍ من الملفات، بما فيها دفع المملكة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل والانضمام إلى اتفاقيات إبراهام، رغبةً في موازنة المكاسب التي حققها ترامب داخليًّا من جراء الاتفاقيات التي وُقِّعت بين إسرائيل وكلٍّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، هذا إلى جانب الضغط على الرياض من أجل زيادة صادراتها من النفط لخفض مستويات الأسعار التي قفزت بصورة كبيرة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتغاضي عن مصلحة السعودية في تحقيق توازن بين العرض والطلب والحفاظ على استقرار أسعار الطاقة عالميًّا، ناهيك بالقلق الأمريكي من نهج السعودية الإقليمي والدولي، بما في ذلك تطبيع العَلاقات مع إيران في ظلِّ تصاعد الخلافات بين طهران وواشنطن بشأن الملف النووي، أو قلق واشنطن من عَلاقات السعودية المتنامية مع الصين التي لديها خطة لمراجعة النظام الدولي الراهن والحدِّ من الهيمنة الأمريكية، وكذلك عَلاقاتها مع روسيا التي تخوض مواجهة غير مباشرة مع الولايات المتحدة ولديها رغبة في استعادة نفوذها العالمي، وأخيرًا طال النقاش اتجاه المملكة إلى الانضمام إلى تكتل بريكس الذي تراه الولايات المتحدة ناديًا عالميًّا مناوئًا لنفوذها.

خلال حواره مع «فوكس نيوز»، وضع الأمير محمد بن سلمان النقاط فوق الحروف بشأن كل هذه القضايا، فقد أوضح الأمير موقف السعودية الراسخ من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، الذي يشترط فيه الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، وأكد كذلك قناعة المملكة بمسار تطبيع العلاقات مع إيران، ومصلحتها في متابعة سياسة توازن بين استقرار السوق وعدالة السعر في مجال الطاقة، ودافع عن عَلاقات بلاده مع الصين وروسيا وموقف المملكة من أزمة أوكرانيا، وهي القضايا التي تتشابك فيها عَلاقات الرياض وواشنطن، وقد يختلفان في وجهات النظر بشأن بعضها.. موقف الأمير من هذه الملفات كان حاسمًا وعكس ثقة بسلامة الموقف السعودي وموضوعيته، وأكد عزم الرياض على متابعة سياسة خارجية نشطة وفعَّالة تضع المصالح الوطنية السعودية فوق كل اعتبار، بما في ذلك تنويع الشراكات على الساحة الدولية، والتموضع بين أندية الكبار سياسيًّا واقتصاديًّا، وتحقيق الاستقرار الإقليمي لدفع عجلة الاقتصاد في الداخل والمنطقة، وفي الأخير تموضع المملكة إقليميًّا ودوليًّا بحيث تتبوأ المكانة التي تليق بإمكانياتها ومواردها ومكانتها ودورها، والأهم عدم الرضوخ للضغوط والابتزاز، والعمل على بناء عَلاقات متوازنة.

ربما لم يستوعب الأمريكان لأول وهلة حجم التغيير الجاري في السياسة السعودية، وأسَّسوا قناعاتهم على الأفكار القديمة وعلى طابع العَلاقات التاريخية التي كانت تتدفق خلالها المصالح في اتجاه واحد، وعلى فاعلية الضغوط، لكن يبدو أن الولايات المتحدة قد بدأت تستوعب أولًا سوء تقديرها وحساباتها تجاه السعودية الجديدة، وثانيًا سوء تقديرها لأهمية السعودية باعتبارها شريكًا وحليفًا إستراتيجيًّا، لا سيَّما في ظل الواقع وتغيُّراته الجارية التي أظهرت أن الرياض حليفٌ مُهمٌّ لا غنى عنه إذا ما أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على نفوذها الإقليمي ودورها الرائد على الصعيد الدولي، ويكفى هنا أن نشير إلى الانقلاب الذي جرى في تقييم الخارجية الأمريكية للعَلاقة مع السعودية، فمنذ عام مضى، وبحسب تقرير الخارجية الأمريكية في مايو 2022م، كان يُنظر إلى العَلاقات بين البلدين على أنها «أمنية طويلة الأجل لا تخلو من تجاذب، تستفيد فيها الولايات المتحدة من الدعم السعودي المادي والبشري لخدمة تطلعاتها في استمرار هيمنتها الدولية»، لكن في تقريرها الصادر في 06 يونيو 2023م بعنوان «عَلاقة الولايات المتحدة والسعودية: 8 عقود من الشراكة عدلت الولايات المتحدة مبتغاها، من العَلاقة، بتأكيد أن واشنطن تتشاطر والأهداف الأمريكية في رسم القضايا السياسية والأمنية، ومكافحة الإرهاب، والاقتصادية وقضايا الطاقة، بما في ذلك ابتكار الطاقة النظيفة، لتعزيز رؤيتنا المشتركة لشرق أوسط أكثر سلامًا وأمنًا وازدهارًا واستقرارًا».

يبدو أن السعودية نجحت في أن تفرض مسارًا مختلفًا للعَلاقات منذ هذا التاريخ، تؤكد ذلك التفاعلات التي شهدتها قمة العشرين في الهند خلال سبتمبر 2023م، ولقاء الرئيس بايدن الأمير محمد بن سلمان على هامش القمة، والتعاون في ممر «الهند-الشرق الأوسط-أوروبا»، الذي يعكس تقدير إدارة بايدن، ليس لمكانة المملكة ودورها في الشرق الأوسط، ولكن لدورها ومكانتها المستحقة على الساحة الدولية، والأهم من ذلك ما أشار إليه الأمير محمد بن سلمان خلال الحوار بتأكيده وجود مفاوضات حول وثيقة تعاون دفاعي بين الجانبين يرى الأمير محمد بن سلمان أنها «ستعزز مصالح أمريكا والمصالح الأمنية والمصالح العسكرية، وكذلك المصالح الاقتصادية»، كما أنها «ستوفر الجهد والصداع من الجانب السعودي لعدم التحول إلى أماكن أخرى»، ويشير هذا إلى أن البلدين على بُعد خطوات قليلة مما يمكن تسميته بـ«التأسيس الثاني للعَلاقات الإستراتيجية»، وذلك بعدما انتهت مرحلة التأسيس الأولى التي أرسى أُسُسها الملك عبد العزيز مع نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ من المتوقع أن تتحوَّل العَلاقة من التحالف الأمني الذي قد خفت تأثيره خلال السنوات الماضية إلى اتفاق أوسع نطاقًا يتناسب مع الواقع الراهن ومكانة السعودية خلال المرحلة الحالية على الصعيدَين الإقليمي والدولي، وهو بلا شك نجاح كبير للسعودية وثمرة لبراعتها في إدارة واحد من أهم ملفاتها الخارجية خلال هذه الحقبة التي تشهد فيها البلاد طفرة كبيرة داخليًّا وخارجيًّا.

في الأخير، يمكن القول إنه كان من اللافت ثقة ولى العهد بنفسه وبإمكانيات بلاده وبرؤيته المستدامة طويلة المدى التي رسمها مع معاونيه لمستقبل السعودية، وحسن تقديره لاختيار الحديث باللغة الإنجليزية، ربما لأول مرة، لإيصال رسالته بكل وضوح إلى الجمهور الأمريكي والعالمي، ومنطقه المقنع الذي يعبر أيَّما تعبير عن حقيقة الرجل الذي يقف خلف مشروع «السعودية الجديدة» التي أسمعت العالم صوتها وجذبت أنظاره واهتمامه، وقد لا يتسع المقام هنا لسرد مزيدٍ من التفاصيل في هذا الشأن، وتكفي التعليقات التي أعقبت الحوار من الساسة وقادة الفكر، وتكفي أيضًا الأرقام والواقع الذي تعيشه المملكة، الذي لا تخطئه عين، لكن إلى جانب ذلك، كان لافتًا أيضًا ما أظهره الأمير محمد بن سلمان من حنكة ودراية بالملفات الخارجية، وإدراكٍ لحدود القدرات السعودية وأدواتها وحسن توظيفها لتحقيق المصالح الوطنية للبلاد، ولا سيَّما حسن إدارة العَلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة من أكثر المراحل حساسية للجانبين، وفي ظل حالة من عدم اليقين على الصعيدَين الإقليمي والدولي، ويبدو أنه بالفعل وضع العَلاقات على مرمى قريب مما يمكن تسميته بمرحلة «التأسيس الثاني للعلاقات الأمريكية-السعودية».

المصدر: Arab News


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية