بعد التوقيع على خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) بين الولايات المتحدة وإيران في يوليو 2015 قدمت روايتان للنجاح، جاءت الأولى من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي أعادت الفضل في توقيع الاتفاقية إلى الاستخدام الناجح للدبلوماسية والقوة الناعمة في الاستيلاء على الفصيل الإصلاحي للسياسة الإيرانية، من أجل تحقيق الأهداف الأمريكية في الخارج، حيث أشار الرئيس أوباما إلى أن الاتفاق يحتوي على نظام التفتيش والتحقق الأكثر شمولية لمراقبة برنامج إيران نووي.أما الرواية الثانية، فجاءت من الرئيس الإيراني حسن روحاني وغيره المفاوضين الايرانيين الذين أرجعوا الفضل في نجاح هذا الاتفاق إلى قدرة الإصلاحيين الإيرانيين على تغيير صورة إيران في الخارج دون المساس بمصالحها، وفي خطابه المتلفز إلى الشعب الإيراني، أعلن روحاني أن الاتفاق النووي “انتصار” لإيران.
كل رواية نجاح إلى حد ما على خلاف مع الأخرى، مع تقديم تنازلات للطرف الآخر، وعرض حسابات مختلفة للجهة الفائزة، ولكن العامل المشترك بين هاتين الراويتين هو الإجماع على أن “الإصلاحيين” الإيرانيين كانوا يمثلون مفتاحاً لضمان النجاح الدبلوماسي في الاتفاق، مع الإشادة بالاتفاق النووي على أنه انتصار للإصلاحيين الإيرانيين وتجاهل التاريخ المشحون للإصلاح في إيران.فالإصلاحيون الإيرانيون ليسوا وحدة واحدة متجانسة. وعلى هذا النحو، كان الاتفاق النووي انتصاراً لعلامة تجارية معينة من الإصلاح في إيران. ويرتبط الاتفاق مع ما يحصل على اعتباره “الإصلاح” في إيران، وله نتيجة غير مقصودة لتحديد أولويات نوع معين من الإصلاح ومنع الخيارات الأخرى.في حين كانت إدارة أوباما حريصة على عدم ربط الإصلاح الداخلي في إيران بمصير اتفاق نووي يتسم بإمكانية التحقق منه، يظهر النجاح الذي حققه الإصلاحيون والمعتدلون مؤخراً في الانتخابات الإيرانية، للإشارة إلى قدرة القوة الناعمة الأميركية على التأثير في النتائج المحلية.
ففي الوقت الذي كان هناك إغراء بعرض التوقيع على الاتفاق النووي في يوليو الماضي كزيادة لاحتمالات الإصلاح الداخلي، ارتبط هذا الاتفاق بالانتخابات اللاحقة، بما يعني ببساطة أن الاتفاق لا يزيد احتمالية الإصلاح فحسب، بل ويؤثر في شروطه.وفي مقابلة جرت مؤخراً مع المرشحة المحافظة رافات بيات، أشارت فيها إلى العلاقة المعقدة بين المعتدلين والمتشددين في إيران. ورشحت بيات نفسها في الانتخابات الأخيرة بسبب عدم رضاها عن محاولات الحكومة في التنمية الاقتصادية.واستشهدت بمثال شراء الحكومة الإيرانية لمائة طائرة مدنية جديدة من الشركات الأوروبية، والذي يوسع الملف الاقتصادي الدولي لإيران، لكنه لا يؤثر بالضرورة على المتوسط الإيراني.إن مفاهيم العدالة الاقتصادية والملكية المشتركة للصناعات الإيرانية غالباً ما ينادي بها المحافظون على عكس الإصلاحيين، الذين غالباً ما يسعون إلى توسعة الخصخصة كوسيلة لمكافحة السياسات والفصائل المحافظة.وعلى هذا النحو، يمكن للإصلاح أن يعني التخفيف من حدة الفقر في المناطق الريفية، ويمكن أن يعني تعزيز المساءلة الانتخابية، ولكن يمكن أن يعني أيضاً شراء طائرات غربية.
وتكشف خطة العمل المشتركة الشاملة ماذا يعني الإصلاح في إيران بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وبالأخص إدارة أوباما، حيث يأخذ الإصلاح شكلاً دولياً وليبرالياً جديداً بامتياز.وكان للاتفاق النووي كل الأثر في تحويل التركيز في عملية الإصلاح من المحلية إلى الدولية، وربط مصير الإصلاح بصورة إيران في المجتمع الدولي أكثر من ربطه بالإصلاح السياسي والاقتصادي الذي يؤثر على المتوسط الإيراني.وقد أضاف الاتفاق النووي طبقة أخرى إلى تاريخ الإصلاح المشحون لإيران، من خلال تحويل الحوار للخارج، وتحويل بنود الإصلاح إلى ما يعتبر مقبولاً من قبل المجتمع الدولي، لاسيما في السنوات الأخيرة، بعدما تم وضع إيران كدولة نووية مارقة تقتصر قدرتها على الانخراط في الأسواق الدولية.ومنذ أوائل العام 2000، وبموجب نظام العقوبات، تم ربط الوضع النووي الايراني بقضايا اقتصادية. وعلى هذا النحو، لم تؤد العقوبات إلى إجبار إيران على الحد من برنامجها النووي فحسب، ولكن دفعت الدولة الإيرانية باتجاه معين في سياستها الاقتصادية.وبدلاً من وضع الإصلاح المدني والسياسي جنباً إلى جنب مع العدالة الاقتصادية على جدول الأعمال، سلط الانتخاب الحالي الضوء على الصراع داخل إيران عن كيفية تعريف الإصلاح وفي وقت لاحق عن نوعية الإصلاح الذي تدعمه إدارة أوباما، وسيظهر مختصر تاريخ الإصلاح في إيران تحولات ما يعرف بالإصلاح.
فبعد الثورة الاسلامية عام 1979، انقسمت البلاد إلى اليسار المتطرف واليمين المحافظ. ويكشف مصطلح “الراديكالية” عن سوء فهم آخر في السياق الإيراني الذي يعتبر المتطرفين هم اليساريين وليس الإسلاميين المتطرفين.إن تاريخ الإصلاح وما يعنيه مصطلح الإصلاح يمكن تتبعه من خلال صعود وسقوط اثنتين من الشخصيات في التاريخ الإيراني هما أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمود أحمدي نجاد، حيث كان رفسنجاني رئيساً للبرلمان الإيراني، أو ما يسمى بالمجلس، ثم شغل منصب الرئيس في الفترة من 1989 إلى 1997.وقد انحاز رفسنجاني في البداية وفي وقت مبكر إلى اليمين المحافظ في 1990، ولكن بعد ذلك تحولت التحالفات إلى اليسار الراديكالي في عام 1997، وقام بدعم المرشح الإصلاحي محمد خاتمي الذي استمر رئيساً حتى عام 2005.وفي بدايات عام 2000 كان محمود أحمدي نجاد قادراً على الاستفادة من المناخ السياسي من خلال دعم فقراء المحافظين، وعلى وجه التحديد، في الانتخابات الرئاسية عام 2005، واجه رفسنجاني الذي يعتبر من أغنى الشخصيات السياسية في إيران، أحمدي نجاد الذي جاء من أسفل الطبقة المتوسطة، واستند أحمدي نجاد في برنامجه على الروايات الشعبية ومفاهيم المحافظة الدينية.وأشار فوز أحمدي نجاد إلى المواجهة مع المجتمع الدولي، لكنه كان ما زال يتمتع بفترة وجيزة من الشرعية من الناس ومن المرشد الأعلى. ومع ذلك، فإن الخطاب اللاذع لأحمدي نجاد ضد الغرب جاء متزامناً مع فشله في تنفيذ وعوده بالعدالة الاقتصادية، مما أدى إلى سقوطه بشكل سريع.
وعلى الرغم من برنامجه الانتخابي، فإنه وخلال فترة أحمدي تسارعت نجاد عملية الخصخصة في الواقع بشكل كبير، وهي لا تعود بالنفع على القطاعين العام والخاص، ولكن على الكيانات والمؤسسات شبه العمومية التي ترتبط بشكل وثيق مع الفصيل السياسي للحاكم الحالي.وقد قوض الحكم الكارثي لأحمدي نجاد الشرعية لإصلاحات سياسية واقتصادية أكثر راديكالية، وتحول التركيز في عملية الإصلاح من المساواة المحلية للشرعية الدولية.ووسط مزاعم تزوير الانتخابات في عام 2009، جاء سقوط أحمدي نجاد من صالح الشعب وصالح منافسه مير حسين موسوي الذي بدأ الحركة الخضراء، التي تعرضت لانقسامات اجتماعية واقتصادية عميقة كامنة في إيران وفتحت المجال لهذا النوع من الاعتدال والإصلاح في إيران اليوم.وتركز الحركة الخضراء باستمرار على أحداث تحول جذري في البنية السياسية القائمة، بما في ذلك استقلال الجامعات، وانسحاب القوات المسلحة من السياسة والثقافة، والقضاء المستقل. وركزت هذه الحركة على الإصلاح من الداخل، وليس من خلال آلية الشرعية الدولية. ومع ذلك، قوض انتصار أحمدي نجاد هذه المطالب لصالح التطرف لتؤتي ثمارها.وبعد انتهاء ولاية أحمدي نجاد الثانية، قام رفسنجاني وروحاني بمحاولة قيادة كل من اليسار المتطرف واليمين المحافظ على النحو الذي فصله محمد آية الله تابار قائلاً: “إن الإصلاحيين خفضوا أولوياتهم الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين ابتعد المحافظون المعتدلون عن خطاباتهم الإسلامية العلنية المعادية للولايات المتحدة، وأصبح كلا الطرفين قاب قوسين أو أدنى من نماذج التطوير والسياسة الخارجية الواقعية الخاصة برفسنجاني”.
وأضاف أن التغييرات الجارية في السياسات الداخلية والخارجية الايرانية هي نتيجة لهذه التنازلات، والتي تحدد ما هو المقصود من الإصلاح في إيران، وتحد من وقوع المزيد من الاحتمالات الراديكالية الاجتماعية والإصلاح السياسي.وقد تُوِّجَ هذا التحول بالتوقيع على خطة العمل المشتركة الشاملة التي تدل على الصلة الوثيقة بين وضع إيران النووية وأفكار الإصلاح الداخلي التي توجد بالداخل الإيراني وخارجها.هذا النوع من ربط القضية يمكن أن يعزى إلى مشاركة إيران في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT). وكونها من الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي والتي تعني “عدم حيازة الدولة للأسلحة النووية”، وبموجب المعاهدة، فإن الوضع النووي الايراني سيكون محطاً للتفاوض بشأنه من قبل المجتمع الدولي.إن عملية التفاوض والتداول مليئة بالصراع، وستكون لها تداعيات على الطريقة التي يراها المجتمع الدولي لإيران، والتي تعتبر قضاياها على المحك في مسألة الانتشار النووي.ويمكن أن نستخدم هذا النوع من التفاوض بشأن الانتشار النووي مع غير الموقعين على معاهدة حظر الانتشار النووي مثل إسرائيل وباكستان والهند، حيث تحولت الهند من دولة نووية مارقة إلى دولة نووية شرعية من خلال اتفاق للتجارة النووية من جانب واحد، وكان على رأس هذا الاتفاق الولايات المتحدة في عام 2008.
وفي ما يخص الملف النووي الباكستاني، لم يمنع الولايات المتحدة شيء من التحالف مع الدولة لمحاربة التهديدات الأمنية الأخرى. وسياسة إسرائيل الغامضة في ملفها النووي والتي من النادر ما تتعرض للمساءلة بشأنه قبل الغرب.من ناحية أخرى، تم وضع إيران النووي قيد التفاوض في إطار ما تقرر من التزامات في معاهدة حظر الانتشار النووي، والتي بدأت عمليات تفتيش واسعة النطاق عن طريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) في المقام الأول.وأشار الاتفاق النووي إلى انتصار الإصلاحية المحافظة التي تعطي الأولوية لنوع معين من الإصلاح الاقتصادي. وهذا الاتفاق ليس مهماً في الحد من قدرة إيران على تطوير سلاح نووي فحسب، بل له نتائج واسعة النطاق للتغيير في الساحة السياسية الداخلية.وفي مقابلة أجريت مؤخراً مع فاريبورز رايسدانا الذي سجن في عام 2012 لانتقاده التغييرات في مدفوعات الدعم الحكومية، هو الآن ينتقد روحاني ومعظم السياسيين الإيرانيين الآخرين لتركيزهم على جوانب معينة من التنمية الاقتصادية.وأشار الى أن جميع الإدارات الأخيرة كانت “إدارات رأسمالية مصاحبة لاحتكارات شبه حكومية. كما عارضت كل هذه الإدارات أي نموذج فعال من الرعاية الاجتماعية، والتخطيط العلمي أو برامج الديمقراطية أو التعاونية والتي تسهم في زيادة المساواة.
وبالنسبة لهم، فإن جني الأرباح الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط، والاستثمارات الرأسمالية الثقيلة والتجارة والعقارات كان دائما الهدف رقم واحد. وقد عززت هذه السياسات الاقتصادية مختلف أنواع الرأسمالية في الدولة التي تدعم ملكية الدولة للقطاعات مشتركة بدلاً من الملكية العامة أو المشتركة.إن لفت الانتباه إلى السياسات الليبرالية الجديدة من الإدارات الإيرانية لا يعني القول بأنه ينبغي تثبيط عملية الخصخصة، ولكن بعض الجوانب الإصلاحية مثل تبديد عدم المساواة الاقتصادية وإصلاحات الحقوق المدنية، وليست بالضرورة على جدول الأعمال كنتيجة لهذا التحول المحلي.لقد نادى إصلاحيو الحركة الخضراء مثل موسوي بالخصخصة في قطاعات محددة جداً، مثل وسائل الإعلام المستقلة التي يمكن أن تنافس الشبكات التي تسيطر عليها الدولة. وتعد الانتخابات الأخيرة إشارة إلى انتصار نوع من الإصلاح الذي هو في نهاية المطاف مختلف تماماً عن نوع الإصلاح الذي نودي به أثناء الحركة الخضراء، وهو يمثل حلاً وسطاً وغير مرض تماما لكلا الطرفين، اليسار المتطرف واليمين المحافظ.
في عام 1987، عقدت إدارة ريغان محادثات سرية مع إيران من أجل الوصول إلى العناصر المعتدلة في هيكل الحكم. وفي ذلك الوقت، أشار إيريك هوغلاند إلى أنه بالنسبة لإدارة ريغان فإن مصطلحي “الاعتدال” و”الراديكالية” لهما وظيفة جدلية محددة، بما يعادل مصطلحي “جيد” و”سيئ”.والمعيار الوحيد هو ما إذا كان أو لم يكن شخص معين أو فصيل على استعداد للتعامل مع حكومة الولايات المتحدة. البيت الأبيض ندد بقادة إيرانيين على أنهم متعصبون يصفهم الآن «بالمعتدلين»، من دون إشارة إلى أن سياساتهم الداخلية قد تغيرت.ويلفت بيان هوغلاند النظر بشكل خاص إلى الاتفاق الأخير والانتخابات اللاحقة. لا أريد أن أذهب إلى حد القول إن السياسات الداخلية لم تتغير إلى حال ما وجدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) في إيران من الامتثال لشروط الاتفاق في أوائل هذا العام.ولكن التغييرات التي حدثت تمثل علامة تجارية معينة من الإصلاح تعطي الأولوية للنظام الحالي في التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها دلالة على وجود أجندة إصلاحية. وهذه علامة تجارية معينة تقوض الإصلاح السياسي والاقتصادي الجوهري الذي يقوده الشعب الإيراني، وليس من خلال عامل وساطة من المجتمع الدولي.وقد أشار العديد من المراقبين في وسائل الإعلام إلى أن الانتخابات الأخيرة اختبار لنجاح معتقد أوباما، والنجاح الذي حدث كان بالطريقة التي تظهر حدود معتقد أوباما في تحقيق نوع من التغيير الاجتماعي الذي يأمل الإصلاحيون في كل من الولايات المتحدة وإيران أن يروه على أرض الواقع.