انهض مبكِّرًا تكُن موفَّقًا” حكمة فارسيَّة قديمة لطالما أثَّرَت في الشخصيَّة الإيرانيَّة عبر قرون، وتعني أن الاستباق والتحرك السريع المباغت يضمن النجاح، ومع تعالي الانتقادات الموجهة إلى النظام الإيرانيّ وشخص المرشد على خامنئي ارتأى النِّظام الإيرانيّ أن يتحرك مبكِّرًا لهندسة الانتخابات الرئاسية الإيرانيَّة لعام 2021م.
» المصطلح والدلالة
“هندسة الانتخابات” مصطلح كان مهدي كروبي أول من استخدمه في عام 2009م للدلالة على ترتيبات يقوم بها المرشد، والمؤسَّسات التابعة له، بخاصَّة الحرس الثوري، لدفع الجماهير إلى انتخاب مرشَّح بعينه، إما بتنظيم تحالفات سياسية وإما بإقصاء المنافسين، ووصل الأمر في هندسة الانتخابات الإيرانيَّة إلى درجة تحديد عدد الأصوات التي سوف يحصل عليها كل مرشَّح، سواء الفائز والخاسر، لأن عدد الأصوات التي يحصل عليها الفائز تحدِّد أيضًا مدي صلابته في التعامل مع النِّظام الذي بات لا يعني سوى خامنئي والمؤسَّسات التابعة له، في حين أن الحكومة ورئيس الجمهورية في إيران يُعَدَّان خارج النِّظام الحاكم وَفْقًا للأدبيات السياسية الإيرانيَّة.
منذ عام 2009م وربما من قبله يمارس النِّظام الإيرانيّ هندسة الانتخابات عبر عدة وسائل، منها الاعتقالات المبكّرة قبل حلول موعد الانتخابات بسنوات، واستبعاد المرشَّحين عبر قرارات مجلس صيانة الدستور، وسَنّ القوانين التي تؤدِّي إلى منع مرشَّحين محتملين من الترشُّح.
» خصوصية انتخابات 2021م
يواجه النِّظام منذ الاحتجاجات الأخيرة في نهاية عام 2017م دعوات سياسية من المرجح أن تؤدي إلى تغييرات جوهرية في طبيعة النِّظام إذا لم يتمكن المرشد من قمعها مبكّرًا، مثل دعوة روحاني لإجراء استفتاء عامّ، ودعوة الأقلِّيَّات الدينية لتعديل الدستور، ودعوة أحمدي نجاد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة، فضلًا عن اتهامه المرشد بنهب 190 مليار دولار، وأنه المتسبب في بؤس الشعب الإيرانيّ، ومِن ثَمَّ فإن الرئيس الإيرانيّ القادم في عام 2021 سوف يعول عليه خامنئي في القضاء على هذه الدعاوى التي تهدد النِّظام، مثلما فعل من قبل وجاء بأحمدي نجاد للقضاء على تجرِبة الإصلاحيين في عام 2005م، ومِن ثَمَّ فمن المتوقَّع أن يأتي خامنئي عبر هندسة الانتخابات برجل قمعي يُزِيح تيَّار الاعتدال الذي يتزعمه روحاني، فضلًا عن الإصلاحيين الذين عقدوا الآمال على عودة محمد خاتمي، والإفراج عن مهدي كروبي ومير حسين موسوي زعيمَي الحركة الخضراء الموقوفَين رهن الإقامة الجبرية منذ عام 2009م.
» خطوتان في أسبوع واحد
كـأن النِّظام الإيرانيّ يسابق الزمن تَحسُّبًا لخطر داهم، فخطا خطوتين في اتجاه هندسة الانتخابات في أسبوع واحد:
أ- القفز من تعريف الرجل السياسي إلى الإطاحة بالرجل السياسي
ينصّ الدستور الإيرانيّ في مادته رقم 115 على ضرورة أن يكون المترشِّح لمنصب رئيس الجمهورية من الرجال المتدينين السياسيين على المستوى المذهبي الضيق، وقد أُثيرَ جدل حول تفسير هذه المادَّة منذ سنوات، وتَضمَّنَ ذلك الجدل ما يلي: هل يعني لفظ “الرجل السياسي” استبعاد المرأة دستوريًّا من تَوَلِّي منصب رئاسة الجمهورية في إيران، أم إن لفظ “رجل سياسي” يعني الرجل أو المرأة المشتغلين بالعمل السياسي؟ وبالطبع ثارت نقاشات حادَّة تَدخَّل فيها رجال الدين والقانونيون وسائر شرائح المجتمع الإيرانيّ، ولأن الدستور الإيرانيّ ينصّ على أن الجهة المسؤولة عن تفسير موادّ الدستور الإيرانيّ هي مجلس صيانة الدستور، فقد أُحِيلَ إليه الموضوع للبَتّ فيه، فخرج قراره على نحو لم يحسم قضية حقّ المرأة في الترشُّح لمنصب رئيس الجمهورية، وإنما وضع أحد عشر توصيفًا لكلمتي “سياسي” و”ديني”، معظم تلك الأوصاف تستبعد كل الناشطين في التيَّار الإصلاحي وتمنعهم من الترشُّح في انتخابات 2021م، لأن من بينها: عدم وجود سوابق أمنية سيئة له، ومن بينها فتنة 2009م (المقصود بها احتجاجات 2009م)، ولفظ “سوابق أمنية سيئة” لا يعني الإدانة في جرائم، بل هو لفظ يُستخدم للتعبير عن أنشطة لا يرضى عنها النِّظام ما دون الجرائم، ومِن ثَمَّ يستبعد هذا البند جميع زعماء الحركة الخضراء، أمثال كروبي وحسين موسوي، وكذلك المتعاطفين معهم أمثال الرئيس الإيرانيّ الأسبق محمد خاتمين، ومِن ثَمَّ استبعاد جميع الرجال السياسيين من التيَّار الإصلاحي -لا النساء فحسب- من الترشُّح لمنصب رئيس الجمهورية.
أبقي تفسير مجلس صيانة الدستور للمادَّة على الغموض المتعلق بتحديد سنّ رئيس الجمهورية، فقد قال: “يجب أن تكون سنّ المرشَّح لرئاسة الجمهورية مناسبة لأداء مهامّ رئاسة الجمهورية”، وقد استُخدم هذا البند لمنع رفسنجاني من الترشُّح من قبل، ويمكن التوسُّع فيه ما دام شرطًا غير محدَّد.
ب- شن حملة اعتقالات ضدّ جماعة أحمدي نجاد
لقد قبض النِّظام على حميد بقائي مساعد أحمدي نجاد، وأصدر حكمًا بسجنه 15 عامًا بتهمة اختلاس أموال كان فيلق القدس منحها له ليقدِّمها رشوة لقادة بعض الدول الإفريقية (نص البلاغ الذي تقدمت به استخبارات الحرس الثوري بحقّ بقائي)، ثم اعتُقل رحيم مشائي المساعد الأول لأحمدي نجاد بتهمة إحراق نسخة من الحكم القضائيّ الذي سُجن بمقتضاه بقائي أمام السفارة البريطانية، وتعالت تكهنات بأن اعتقال أحمدي نجاد بات قريبًا ولا يَحُول دونه سوي ضخامة حجم المعلومات التي لديه عن فساد النِّظام بحكم رئاسته هيئة الاستخبارات بالحرس الثوري لفترة من الزمن.
من خلال هاتين الخطوتين يكون النِّظام الإيرانيّ قد استبعد كلًّا من الإصلاحيين والنجاديين من الانتخابات القادمة، ولم يبقَ أمامه إلا تهيئة المجال لمرشَّحه الخاصّ والدفع به للجماهير الإيرانيَّة، عبر نسج تصورات عن كونه المنقذ الذي ينتظره الشارع الإيرانيّ ليقضي على تَرَدِّي الأوضاع الاقتصادية ويتصدى للضغوط الخارجية، ولا شكّ أن إحدى الشخصيات العسكرية المقربة من المرشد يمكن أن تؤدي هذا الدور بنجاح، بخاصَّة إذا كان المرشَّح يحظى بقبول شعبي إلى حدّ كبير!