وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 8 مايو 2018 قرار انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وأعلن في الوقت نفسه إعادة العمل بالعقوبات الأمريكية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وقد وجد قرار ترامب صدى دوليًّا وإقليميًّا واسعًا. ويعود ذلك إلى أن الاتفاق منذ تم توقيعه في منتصف عام 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 وهو مثار جدل على الساحتين الإقليمية والدولية، لا سيّما أنه لم يؤدِّ إلى حدوث أي تغيير في سلوك النظام الإيراني، سواء في الداخل أو في الخارج، فداخليًّا لم يُحدِث الاتفاق تغييرات إيجابية كما كان رهان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وشركائه الأوروبيين، كما لم تتخلَّ إيران عن برامجها العسكرية، خصوصًا برنامج الصواريخ الباليستية، ولم تتعاون بالقدر الكافي بحسب وجهة النظر الأمريكية في ما يتعلق ببرنامجها النووي. وخارجيًّا استغلّت إيران الاتفاق من أجل إضفاء شرعية على دورها الإقليمي، الذي تسبّب في الأساس بتهديد بالغ للأمن والسلم الإقليميين، وازداد الجدل حول الاتفاق أكثر فأكثر بعدما جاء ترامب إلى السلطة مطلع عام 2017 وكان ضمن أولوياته تقويض هذا الاتفاق بوصفه أسوأ اتفاق وقّعته الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها بحسب ترامب، وأنه لا يمنع إيران من تطوير قنبلة نووية في المستقبل.
أولًا: ترامب ينفذ برنامجه
في حقيقة الأمر لم يكن قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مفاجئًا، فهذا كان وعدًا انتخابيًّا لترامب، ومنذ تسلّمه مقاليد السلطة أبدى إصرارًا على الانسحاب من الاتفاق إذا لم يتم تعديله، وقد أسهمت توجهاته بصورة أساسية في تقويض الاتفاق وإفراغه من مضمونه، فخلال قرابة عام ونصف مضت، ورغم أن الرئيس الأمريكي قد وقّع ثلاث مرات في أبريل ويوليو 2017 ويناير 2018 على تمديد العمل بوقف العقوبات على الصادرات النفطية الإيرانية التزامًا بالاتفاق، غير أن إدارة ترامب تبنّت استراتيجية استمرار العقوبات على المجالات غير النفطية، ففرضت عقوبات على عدد من القيادات البارزة والشركات والأفراد المتعاونين مع إيران والشركاء التجاريين، وهددت كل الأطراف المتعاملة مع إيران، مما حرم إيران من قطف ثمار الاتفاق كاملة.
ورغم أن ترامب واجه تحديات داخلية في ما يتعلق بالانسحاب من الاتفاق لكنه نجح في تجاوزها بعد قرابة عام ونصف من رئاسته. كان أبرزها الخلاف داخل مؤسسات صنع القرار حول مسألة البقاء في الاتفاق النووي، لا سيّما من جانب بعض أركان إدارته، كوزير الخارجية السابق ريكس تليرسون، ومستشار الأمن القومي ماكماستر، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، الذين كانوا يرون أن الاتفاق يصبّ في صالح الولايات المتحدة ولا يجب الانسحاب منه. لكن ترامب تغلّب على ذلك من خلال التغييرات التي قام بها في مارس 2018، وأهمّها تعيين مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مايك بومبيو وزيرًا للخارجية، واليميني المتشدد جون بولتون مستشارًا للأمن القومي، إذ عبرت هذه التغييرات عن سعي ترامب لتوحيد مواقف إدارته من إيران، وتمهيدًا منه لعملية الانسحاب التي جاءت بالفعل بعد استلام بامبيو وبولتون لمهامّهما.
لقد نجح ترامب في إعادة فتح ملف الاتفاق النووي تحت دعوى عدم التزام إيران بروح الاتفاق، وذلك على خلفية اتهام إيران بعدم التعاون في ما يتعلق بالملف النووي وإمكانية استكمال برنامجها في المستقبل، وتطوير برامج الصواريخ الباليستية، والسلوك الإقليمي المزعزع للاستقرار والداعم لانتشار الإرهاب.
واتضح من الاستراتيجية التي تبناها ترامب في سبتمبر 2017 أنه بصدد تحرك يتسم بالجدية في ما يتعلق بالاتفاق، لا سيّما أنه لم يوقع على التمديد ربع السنوي بالتزام إيران في أكتوبر 2017، وأحال الأمر إلى الكونغرس لاستعادة العقوبات، لكن الكونغرس أعاد الكرة إلى ملعب الرئيس بعد البتّ في الأمر ليعود الملف إلى مكتب ترامب من جديد في يناير 2018، وبدوره أعطى ترامب مهلة أخيرة حتى 12 مايو 2018 لكل من الشركاء الأوروبيين وإيران لتعديل الاتفاق أو الانسحاب الأمريكي منه.
لكن ترامب عاد واستبق المهلة التي حدّدها وأعلن في 8 مايو 2018 الانسحاب من الاتفاق النووي، بل وقّع أمرًا رئاسيًّا للبدء بإعادة العمل بالعقوبات الأمريكية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وقال إن إدارته ستقوم بوضع أعلى مستوى من العقوبات الاقتصادية. وشدد ترامب على أن العقوبات ستُطبق أيضًا على أي دولة أخرى تقوم بالتعامل مع إيران.
وإن كان ترامب قد نجح في تمرير القرار داخليًّا والترويج لأسبابه خارجيًّا، لكن قرار الانسحاب لقي ردود فعل متباينة عكست في جملتها وجود تحدٍّ حقيقي أمام ترامب في ما يتعلق بقدرته على استكمال مسار الضغط على إيران ودفعها للالتزام بالرؤية الأمريكية.
ثانيًا: معارضة دولية لقرار الانسحاب من الاتفاق النووي
– بريطانيا وفرنسا وألمانيا: عكست مواقف الدول الثلاث معارضتها لمواقف ترامب، وعدّتها خطوة سلبية لن تسهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة. وفي ما يبدو أنه استكمال للتنسيق بين الدول الثلاث صدر بيان مشترك بعد قرار ترامب مباشرة يفيد بأن «حكومات هذه الدول تبقى ملتزمة بتنفيذ الاتفاق وستعمل مع جميع الأطراف الآخرين المعنيين بحيث يبقى الأمر على هذا النحو، على أن يشمل ذلك ضمان استمرار الفوائد الاقتصادية المرتبطة بالاتفاق للشعب الإيراني».
والحقيقة أن الدول الثلاث خلال الفترة القليلة الماضية قد بذلت جهودًا كبيرة من أجل إقناع ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق، وعملت على تقديم مقاربة خلال المهلة التي حدّدها ترامب من أجل التوصل إلى تسوية تنتهي إلى إدخال تعديلات على الاتفاق أو التوقيع على ملحق يتضمن تسوية لقضايا الخلاف الرئيسية، إذ إنّ هذه الدول كان لديها قناعة بالمخاوف التي يثيرها الجانب الأمريكي في ما يتعلق بسلوك إيران، وبالفعل كانت هناك وساطات ومقترحات قدمت إلى الجانب الإيراني، لا سيّما من الجانب الفرنسي، لكنه رفضها وتمسّك بالاتفاق دون إدخال أي تعديلات عليه، وقد كانت مشاورات القيادات السياسية الفرنسية والبريطانية والألمانية في واشنطن نهاية أبريل 2018 من أجل إقناع ترامب بتأجيل قراره، لكن يبدو أنه كان قد حسم أمره، وهو ما دفع الدول الثلاث إلى إصدار بيان صدر في 29 أبريل 2018 عن إجماع زعماء بريطانيا وفرنسا وألمانيا على أن الاتفاق النووي مع إيران هو أفضل سبيل لمنعها من امتلاك سلاح نووي. ويبدو من الواضح أن الأطراف الثلاثة أجمعوا على أن الاتفاق يجب أن يبقى.
ويبدو أن إدارة ترامب أعطت أولوية لتقويض الاتفاق وإعادة العَلاقة مع إيران لمربع العزلة والعقوبات، بينما الأوروبيون يعطون أولوية لبقاء الاتفاق واستمراره مع محاولة الوصول إلى تسوية عبر الضغط على إيران بحيث يمكن تجنب انهيار الاتفاق.
لا شك أن الولايات المتحدة وترامب تحديدًا يواجه موقفًا أوروبيًّا لا ينسجم مع توجهاته بصورة كاملة، وأنه لم ينجح في الضغط على الأطراف الأوروبية من أجل الالتزام بخطه المتشدد تمامًا، لهذا ترى بعض الدوائر الأمريكية أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي قد لا يتسبب بعزل إيران بقدر ما يعزل الولايات المتحدة، وقد ذهب في هذا الاتجاه دنيس روس مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق بقوله: «خروج أمريكا من الاتفاق النووي سيكون سببًا في عزلة أمريكا، ولكنّ الإيرانيين لن ينعزلوا».
– الاتحاد الأوروبي: وقد كان موقف الدول الثلاث منسجمًا مع الموقف الأوروبي الأوسع والأشمل الذي عبّر عنه الاتحاد الأوروبي على لسان الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني التي أكدت أن الاتفاق النووي مع إيران هو «أحد الإنجازات الكبيرة للدبلوماسية الدولية»، معبرة عن أسفها للانسحاب الأمريكي من الاتفاق.
– روسيا والصين: تشابه إلى حد بعيد الموقفان الروسي والصيني من قرار ترامب، في أول رد فعل روسي على قرار الرئيس الأمريكي عبرت وزارة الخارجية الروسية عن خيبة الأمل من هذا القرار، وعدّت أنه لا توجد مبررات لهذا القرار لأن الاتفاق قد أظهر فاعليته الكاملة، والأهمّ أنه قد تم التأكيد على الاستعداد لمواصلة التعاون مع الأطراف الأخرى بالاتفاق النووي، فضلًا عن مواصلة تطوير عَلاقاتها مع إيران، بينما أعربت الخارجية الصينية عن الموقف ذاته، إذ انتقدت قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي وعبّرت عن مخاوفها من خطر الصراع في الشرق الأوسط، وأكدت هي الأخرى على العمل على حماية الاتفاق.
– الأمم المتحدة: يعدّ الاتفاق النووي اتفاقًا دوليًّا تأكدت شرعيته من خلال قرار مجلس الأمن 2231، لهذا عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه إزاء قرار ترامب. وأوضح أنه «من الضروري معالجة كل المخاوف المرتبطة بتنفيذ الخطة من خلال الآليات المنصوص عليها في الاتفاق»، في إشارة إلى موافقته على فتح النقاش حول الاتفاق، في الوقت نفسه الذي دعا إلى صدقية القضايا التي يجب أن تكون محل تفاوض، وذلك بقوله: «ينبغي معالجة القضايا التي ليس لها ارتباط مباشر بالاتفاق دون تحامل من أجل الحفاظ على الاتفاق وإنجازاته».
وإجمالًا يمكن القول إن ترامب يواجه معارضة دولية واسعة لقراره، فعلى الجانب الأوروبي وتحديدًا ألمانيا وفرنسا وبريطانيا سيؤدي هذا القرار الأمريكي إلى أضرار على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية، فعودة إيران إلى العزلة والعقوبات قد يؤثر على سلوكها في ما يتعلق بالعودة إلى استكمال برنامجها النووي بوتيرة سريعة ودون قيود، والشروع في تطوير برامج الصواريخ الباليستية، بما يقود إلى سباق تسلح وصراع مباشر أو بالوكالة في المنطقة. وتوسيع نفوذها الإقليمي ونشر الفوضى وتهديد دول الجوار والتأثير على أمن الممرات الملاحية في المنطقة. كما أن عودة العقوبات الأمريكية ستكون لها انعكاساتها على العَلاقات الاقتصادية الأوروبية-الإيرانية التي كانت قد تطوّرت بعد توقيع الاتفاق النووي، وعلى وفاء الشركات الأوروبية بالتزاماتها خشية التعرض للعقوبات، وكذلك حرمان الأوروبيين من الاستفادة من الاستثمارات الضخمة المتوقعة والتي كانت قد أبرمت بعض عقودها أو نفذت بعض مشاريعها، لا سيّما في مجال النفط والغاز.
وبالنسبة إلى روسيا والصين شركاء الاتفاق فإن الدولتين ترتبطان بإيران بعَلاقات ومصالح استراتيجية واقتصادية مهمة، وقد تطوّرت هذه العَلاقات في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، ويبدو من توافق تصريحاتهما في ما يتعلق بحرصهما على الحفاظ على الاتفاق وحمايته أنهما ستكونان إلى الجانب الإيراني وإلى جانب الأوروبيين إذا بقي موقفهم في معارضة القرار الأمريكي، وهو ما قد يعطل مساعي الولايات المتحدة في الضغط على إيران، لا سيّما أن الاتفاق قد تم إقراره من خلال قرار من مجلس الأمن وافقت عليه هذه الدول، التي لها حق الفيتو، بالإجماع، وهو ما لا يتوفر اليوم بأي صورة في حالة الحاجة إلى إقرار أي عقوبات على إيران من خلال الأمم المتحدة.
ثالثًا: مواقف إقليمية متباينة
– المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين: أيدت الدول الخليجية الثلاث قرار الانسحاب، وعدّته خطوة بالاتجاه الصحيح، باعتبار أن إيران قد استغلّت مكاسب الاتفاق النووي في تقويض الاستقرار الإقليمي، ونشر العنف والإرهاب، وتهديد دول الجوار، وخدمة مشروعها التوسعي.
ولا شك أن هذا التأييد نابع من رغبة بعض دول الخليج في ممارسة أقصى درجات الضغط الدولي على إيران من أجل ردعها عن الاستمرار في سياساتها الراهنة، التي تأتي على حساب مصالح القوى الإقليمية الرئيسية، فإيران في ظل الاتفاق النووي قد تمكّنت من توسيع نفوذها بصورة غير مسبوقة وهيمنت على القرار السياسي في العراق، ولعبت دورًا بارزًا في اختطاف قراره السياسي لخدمة مصالحها، كما أنها عبر العراق ووصولًا إلى سوريا ولبنان تسعى لتدشين مشروع يهدد مصالح دول الخليج من جهة الشرق والشمال، فضلًا عن أن دعمها لجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن تسهم في تهديد أمن الخليج من بوابته الجنوبية. ولا شك أن قرار الانسحاب بالنسبة إلى الأطراف الخليجية يتماشى مع سياستها التي تعمل على مواجهة وحصار الوجود الإيراني في دول المنطقة، بحيث تستعيد المنطقة حالة الاستقرار وتقوض انتشار العنف، إذ إنه سيحرم إيران من شرعية كانت قد اكتسبتها بعد الاتفاق، فضلًا عن موارد كانت تدعم من خلالها مشروعاتها.
– إسرائيل: من جانبها عدّت أن هذا القرار يصبّ في مصلحتها، إذ أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فور انتهاء ترامب من إلقاء كلمته، «دعمه الكامل للقرار الشجاع». فمن البداية تعبر إسرائيل أن إيران واحدة من القوى المعادية لها، والتي تهدد أمنها القومي بصورة رئيسية، وكانت مخاوفها بالأساس من امتلاك إيران لبرنامج نووي متطوّر يصل بها إلى إنتاج قنبلة نووية، إضافة إلى دعمها لفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية في مواجهة إسرائيل.
وقد تزايدت مخاوف إسرائيل بعدما اختارت الولايات المتحدة مسار التفاهم مع إيران وتم توقيع الاتفاق النووي، فلم تكن إسرائيل راضية عن هذا التوجه وضغطت بقوة على أوباما وعلى الكونغرس الأمريكي من أجل عدم توقيع الاتفاق. تكرست المخاوف الإسرائيلية بعد التحولات التي أحدثها الربيع العربي في المنطقة والاتفاق الذي وقعته إيران مع مجموعة 5+1، إذ انطلقت إيران لتنفيذ مشروع طموح يعزز من مكانتها ونفوذها، وانتقلت من الدفاع عبر الوكلاء إلى الهجوم والاشتباك المباشر، متخطية حدودها وإقليمها، وقد كانت سوريا أكثر الميادين ملاءمة لتطوير الاستراتيجية الإيرانية، إذ إنها تحقق الحلم الإيراني في بناء الهلال الشيعي الذي يخلق منطقة نفوذ واسعة تمتد عبر العراق وسوريا ولبنان وتعزيز أوراق الضغط التي بيدها عبر الوجود عند نقطة تقاطع الصراعات في الشرق الأوسط، وعلى حدود الصراع المركزي الذي رسم ملامح التفاعلات في المنطقة خلال العقود الماضية وهي حدود إسرائيل، مع إمكانية التواصل الجغرافي مع حزب الله. ولا شك أن هذا الحضور الإيراني المكثف في سوريا مسّ الأمن القومي الإسرائيلي، ونقل المواجهة بين الطرفين من ميادين الصراع غير المباشرة إلى مواجهة حدودية لأول مرة. وهذا هو الإطار الذي يمكن أن نفهم من خلاله الموقف الإسرائيلي المؤيد بقوة لقرار ترامب.
– قوى إقليمية معارضة ومتحفظة: إلى جانب مواقف التأييد الإقليمي تلك، كان هناك معارضة وتحفظ من جانب بعض الدول بالنظر إلى حساسية موقفها أو عَلاقاتها مع إيران، فالجانب التركي عارض قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق. وهنا، لا بد من الأخذ بالاعتبار المصالح التركية-الإيرانية المتقاطعة في سوريا، وحساسية العَلاقة بين الجانبين، في حين التزمت بعض الدول الصمت، وذلك على خلفية حسابات وتوازنات إقليمية معقدة.
رابعًا: إيران في مواجهة العاصفة
فور إعلان ترامب عن قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي، خرج الرئيس روحاني مباشرة ولوح بإمكانية عودة إيران إلى تخصيب اليورانيوم، لكن في الوقت نفسه أكد أن الولايات المتحدة لم ولن تلتزم بما تعهدت به على الإطلاق، مشيرًا إلى أن الاتفاق النووي ليس اتفاقًا ثنائيًّا بين بلدين، بل كان اتفاقًا دوليًّا، وهو ما يؤكد أن إيران باقية في الاتفاق لحين استكشاف إمكانية بقاء مكاسبه دون وجود الولايات المتحدة ضمنه، وهذا ما أكده وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي قال إن إيران ستحدّد موقفها النهائي من البقاء في الاتفاق بعد جولة سيقوم بها إلى الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق، في «محاولة دبلوماسية لدراسة ما إذا كان بإمكان أعضاء آخرين موقّعين على الاتفاق ضمان مصالح إيران». وتعزز ذلك مع تصريح علي خامنئي بأنه «من غير المنطقي استمرار الاتفاق مع بقية الدول دون ضمانات كافية».
وبالفعل بدأت إيران تلوح بالملف الاقتصادي لإغراء الأوروبيين بالبقاء في الاتفاق، باعتبار أن الدول الأوروبية ستخسر مصالحها واستثماراتها الاقتصادية في حال خضوعها للضغط الأمريكي، وهذا ما صرح به رئيس شركة نفط وغاز بارس بقوله: «نحن الآن نفكر في الترتيبات اللازمة لاستبعاد شركة (توتال) الفرنسية من مشروع المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي»، لكنه عاد وقال: «إذا بقيت (توتال) في إيران، فسوف نواصل تعاوننا معها». كما أن إيران تراهن على الشركاء الروس والصينين، وذلك لعدم الثقة في ثبات الموقف الأوروبي، لهذا عاد وصرح رئيس الشركة نفسه: «في غير هذه الحالة سيكون لدينا خياران، أن تسند أعمالها إلى الشركة الصينية العاملة بالمشروع، أو شركة بترو بارس الإيرانية».
لكن لا شك أن تداعيات موقف ترامب بالانسحاب من الاتفاق سوف تجد طريقها للتأثير على إيران داخليًّا وخارجيًّا، فعلى مستوى الداخل يمرّ النظام السياسي الإيراني بفترة حرجة على وقع الأزمة الاقتصادية الراهنة وانهيار العملة المحلية، وتردّي مستوى المعيشة، وبالتالي تصاعد الغضب الشعبي الذي بلغ أوجه في الاحتجاجات التي شهدتها إيران مطلع هذا العام. وقد كان الاتفاق النووي واحدًا من الرهانات التي كان روحاني منذ ولايته الأولى يعول عليها في معالجة تلك الأزمات، لكن سياسة ترامب قد أسهمت بصورة رئيسية في حرمان النظام الإيراني من قطف الثمار الاقتصادية للاتفاق، إذ شكّلت سياسته تهديدًا واضحًا للدول والشركات التي لديها الاستعداد للانخراط في عَلاقات اقتصادية واستثمارات داخل إيران.
لا شك سيمنح الانسحاب من الاتفاق فرصة للولايات المتحدة لإعادة العقوبات التي كانت قد وقفتها التزامًا بالاتفاق، فضلًا عن ممارستها لضغوط على الدول التي ستتعامل مع إيران، مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى التأثير على شرعية النظام في الداخل، إذ إنّ أيّ أزمة اقتصادية في الداخل قد تفجر الأوضاع وتثير الاضطرابات، وقد يتحقق التغيير الذي راهن عليه أوباما من مدخل التفاهم وتوقيع الاتفاق من خلال حدوث العكس وهو الانسحاب والعودة لممارسة الضغوط وعودة العقوبات.
قد تحتاج الولايات المتحدة إلى استعادة برامج العقوبات التي سبقت توقيع الاتفاق النووي، لكن لا شك سيتأثر الاقتصاد الإيراني بتوقف بعض أو كثير من العقود والاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي وقعتها إيران بعده، ففور إعلان ترامب عن الخروج من الاتفاق النووي أعلن وزير الخزانة الأميركي استيون منو تشين أنه بعد عودة العقوبات الاقتصادية على إيران سوف يلغي تصريح بيع طائرات بوينغ وإيرباص إلى إيران، وسيكون لدى هذه الشركات فرصة لعدة أشهر فقط لإنهاء تعاونها مع إيران. وقد أصدر رئيس شركة بوينغ الأمريكية بيانًا أكد فيه أنه سوف ينفذ القرارات الحكومة الأمريكية، لكنه سوف يتشاور مع الحكومة الأمريكية بهذا الشأن، في حين قال رئيس شركة إيرباص الأوروبية: «إن قرارنا بشأن إلغاء اتفاقنا مع إيران سوف يستلزم وقتًا». ومن المعروف أن شركة إيرباص تعتمد في إنتاجها على بعض المكونات الأمريكية، وهناك عقد بينها وبين الحكومة الأمريكية يلزمها بالحصول على موافقة الولايات المتحدة على الصفقات التصديرية التي تعقدها، وهو الأمر الذي يؤكد الضرر الاقتصادي والسياسي الذي سيلحق بالنظام الإيراني من جراء هذا القرار بالانسحاب من الاتفاق.
أما على المستوى الخارجي فلا شك أن واحدًا من المسوغات الرئيسية التي لعبت دورًا رئيسيًّا في نجاح ترامب في تسويق انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق هو السلوك الإقليمي لإيران. هذا السلوك الذي تنتقد فيه الدول الأوروبية إيران رغم معارضتها لموقف الرئيس ترامب، كما تجمع عليه كل القوى الإقليمية الرئيسية.
ولا شك أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي سيؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على الدور الإقليمي لإيران، إذ إنّ إيران ستقع تحت طائلة العقوبات الأمريكية وقد ينتهي الأمر إلى عزلها، كما ستتحرر الولايات المتحدة من الالتزامات التي فرضها الاتفاق النووي، وهذا سيكون له مردوده على الاقتصاد الإيراني بصورة رئيسية ومِن ثَمّ حرمان إيران من بعض الموارد التي كانت توظفها لخدمة مشروعها التوسعي ووجودها في بعض مناطق الصراع ودعمها لبعض التنظيمات والميليشيات المسلحة، كما أنه من جانب آخر سيمنح مواجهة هذا السلوك الإقليمي مشروعية، باعتبار إيران قوة رئيسية في نشر الفوضى والإرهاب. وقد استغلّت دولة كإسرائيل هذه التطوّرات، وقامت على الفور وخلال ساعات من القرار باستهداف بعض التمركزات العسكرية الإيرانية في دمشق، وإذا ما كان لدى ترامب استراتيجية متكاملة لما بعد الانسحاب من الاتفاق فإن ملاحقة الوجود الإيراني في المنطقة سوف تكون على رأس أولويات إدارته.
خامسًا: الاتفاق النووي.. أي مستقبل؟
أعاد قرار ترامب خلط الأوراق في ما يتعلق بمستقبل العَلاقات مع إيران ومكانتها على المستوى الدولي، فهل يمكن أن يستمر الاتفاق دون وجود الولايات المتحدة أم أنها ستتمكن من تقويضه بصورة كاملة أو تقويض آثاره؟ وهل ستعود إيران إلى مربع العزلة التامة على غرار العزلة التي سبقت توقيع الاتفاق، أم أن الأمور تسير باتجاه عقوبات أمريكية فردية غير مؤثرة مع استمرار نشاط إيران دون تأثر كبير بالموقف الأمريكي؟
من الواضح أن إيران منذ قدوم ترامب تتوقع أن الاتفاق النووي قد ينتهي في أي وقت، لا سيّما أن الضغط الأمريكي قد حرم إيران من الاستفادة من ثماره، وقد كان هذا واضحًا في تقرير وزارة الخارجية الإيرانية التاسع والمقدم في 15 أبريل 2018 إلى لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني، والذي أشار إلى وجود عراقيل من جانب الولايات المتحدة مع عدم التزام بالتعهدات. كما أكد مع تقارير سابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أكبر مانع أمام تنفيذ ناجح للاتفاق، وأن واحدة من أهم نقاط الضعف في الاتفاق هي إمكانية الطرف المقابل للتراجع عنه دون قدرة متابعة مؤثرة من قبل إيران، وكان سبب ذلك هو التعجل من أجل إنهاء العمل دون التركيز على جودته، وبالتالي لم يوفر الاتفاق آلية داخلية لمواجهة استمرار عملية نقض الاتفاق من قبل الولايات المتحدة، مما سمح لها بنكثه وعدم الالتزام ببنوده، وبناءً على ذلك لم يعُد الاتفاق النووي بالنفع على إيران ولو حتى في أدنى مستوى.
لكن لا يعني هذا أن إيران لم تستفد بصورة كاملة من الاتفاق، فقطاعات رئيسية كقطاع النفط والغاز قد استفادت من رفع العقوبات التي ارتبطت بدخول الاتفاق حيز التنفيذ، فضلًا عن فتح السوق الإيرانية أمام الاستثمارات الأجنبية، ناهيك بإمكانية الوصول إلى مليارات الدولارات من الأصول المجمدة في الخارج، ليس هذا وحسب، بل إنّ الاتفاق قد كسر العزلة السياسية التي مهدت بدورها الطريق أمام إيران لتكثيف حضورها ونفوذها الإقليمي بصورة غير مسبوقة. ولعل هذا هو ما دفع إيران إلى محاولة استكشاف إمكانية بقاء الاتفاق رغم انسحاب الولايات المتحدة منه.
وعلى ضوء الموقف الراهن والتقديرات المطروحة يمكن الإشارة إلى مستقبل الاتفاق وانعكاسات ذلك على الجانب الإيراني من خلال إلقاء الضوء على السيناريوهات الثلاثة الآتية:
– تقويض الاتفاق: لا شك أن الولايات المتحدة لا تزال القوة الدولية الأكثر فاعلية على المستوى الدولي، وأنها لا تزال تمتلك القدرة على فرض إرادتها في عديد من القضايا والأزمات إلى حد بعيد، ومِن ثَمّ فإن وجود إرادة فعلية لاستكمال مسار إلغاء الاتفاق من جانبها قد يقود إلى نتيجة حقيقية، فالولايات المتحدة لديها من أوراق الضغط ما يمكن به أن تؤثر على الموقف الأوروبي وتدفعه إلى الانسحاب من الاتفاق، كما أنها من خلال العقوبات ومراقبة النظام المالي العالمي يمكنها أن تضغط على أي طرف يسعى إلى إبرام شراكة اقتصادية مع الجانب الإيراني، وقد هدد الرئيس الأمريكي فعليًّا أيّ طرف يتعامل مع إيران بالعقوبات، ومِن ثَمّ فإن تحقق هذا السيناريو يحتاج إلى استراتيجية أمريكية مرحلة ما بعد الانسحاب من الاتفاق من أجل أن تتمكن الولايات المتحدة من عزل إيران.
لكن في المقابل يجد هذا السيناريو صعوبة في ظل المواقف الدولية الواسعة المنددة بموقف ترامب والمعارضة له، وكذلك التصريحات التي تعلن عن الالتزام بالاتفاق دون الولايات المتحدة، بل والحفاظ على العَلاقات الاقتصادية، ورغم أن هذه التصريحات الأولية قد تكون جاءت في إطار انفعالي ردًّا على عدم تنسيق ترامب مع شركائه وحلفائه الغربيين، لكن لا ننكر أن إيران خلال الفترة التي أعقبت الاتفاق النووي قد عملت على توثيق تعاونها وعَلاقاتها مع الدول الأوروبية ومع روسيا والصين، بحيث يتوافر لها بدائل في حال خرجت الولايات المتحدة من الاتفاق، فضلًا عن أن هذه العَلاقات ومساحة الحركة التي قد أتيحت لها خلال تلك المرحلة قد مكّنتها من تدشين خطوط تعاون قد تحتاج إلى وقت طويل من أجل ملاحقتها والسيطرة عليها.
– بقاء الاتفاق دون الولايات المتحدة: تراهن إيران على هذا السيناريو إلى حد بعيد، إذ يعدّ هو أحد مسارين من أجل الحفاظ على مكتسبات الاتفاق النووي، ومواجهة احتمال العودة إلى مربع العقوبات والعزلة الدولية، وربما خسارة نفوذها الإقليمي، ويكتسب هذا السيناريو أهميته من الخلافات الكبيرة بين الموقف الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق وبين الأطراف الأوروبية وروسيا والصين الذين يدعمون بقاء الاتفاق، كما تستند إيران إلى إقرار المنظمة الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية بالتزام إيران ببنود الاتفاق، وكذلك بشرعية القرار الدولي 2231 الذي أقر خطة العمل المشتركة بين إيران ومجموعة 5+1، فضلًا عن الإغراءات الاقتصادية التي قد تمنحها لشركاء الاتفاق النووي، لا سيّما في مجال الطاقة والنفط، ناهيك بالمخاوف من أثر تقويض الاتفاق من جانب أطرافه على الأمن الإقليمي وشروع إيران في العودة إلى استكمال برنامجها النووي، وتزايد فرص الصراع في المنطقة. كما أن الروس والصينيين خلال المرحلة الراهنة يظهرون تحديًا للموقف الأمريكي ويسعون إلى العمل على مزاحمة نفوذها على الساحة الدولية. وبرز ذلك من خلال الفيتو المتكرر ضد مشاريع القرارات الأمريكية ومنها ما كان يستهدف إيران.
لكن في المقابل هناك بعض التحديات التي تعرقل هذا السيناريو، إذ رغم التأييد الأوروبي لبقاء الاتفاق لكنْ هناك شكوك أوروبية حقيقية تجاه سلوك إيران، فالجانب الأوروبي يأخذ بحسبانه السلوك الإقليمي لإيران ويعدّه مزعجًا، وقد يتسبب في أزمة إقليمية وصراع قد يؤثر على الاستقرار الذي قد تطال تداعياته أوروبا، وهي بالفعل قد نالت نصيبها منه على أثر التدخّل الإيراني في سوريا، في صورة هجرة غير شرعية، وموجة لاجئين صحبها عنف وإرهاب طال بعض العواصم المهمة بها، فضلًا عن أن إيران تصرّ على تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وتثير مخاوف جيرانها، وتبني عَلاقاتها في المنطقة من منطلق العداء ونشر الفوضى والعنف، وهذه الملفات كانت شاغل الأوروبيين خلال الفترة الماضية، ولم تبدِ إيران أي استجابة من أجل معالجة وتسوية تلك الملفات، ومِن ثَمّ قد تكون هي السبب ذاته الذي يدفع الأوروبيين للخروج من الاتفاق، لا سيّما أن كل عَلاقاتهم مع إيران لا سيّما على الجانب الاقتصادي قد تكون عرضة للتهديد في ظل أي تشدد أمريكي تجاه إيران أو قرار بمواجهة عسكرية لها، سواء في داخل إيران أو في المناطق التي تنتشر بها قوّاتها أو الميليشيات التابعة لها.
– اتفاق جديد: لا تزال الدول الأوروبية تعوّل على بقاء الاتفاق النووي، وما زال لديها الفرصة خلال الفترة المقبلة، لا سيّما بعد الضغوط التي فرضها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق من أجل إقناع إيران بالعودة لطاولة المفاوضات، أو التفاوض حول ملحق يتضمن معالجة وتسوية للقضايا التي تثير مخاوف الولايات المتحدة، يدعم هذا السيناريو الخوف الإيراني من تقويض الاتفاق وعودتها إلى العزلة مرة أخرى وما يترتب على ذلك من خنق للاقتصاد ووقف للصادرات النفطية، وبالتالي التأثير على الأوضاع المعيشية، وهو ما قد يثير الغضب الداخلي، فضلًا عن الخوف من تطوير الولايات المتحدة لاستراتيجية تنتهى إلى الدخول في مواجهة عسكرية، أو استهداف القوّات الإيرانية في دول الجوار وإلحاق هزيمة بإيران، تقضي على المشروع الإقليمي للنظام وتقضي على شرعيته في الداخل كذلك.
وقد يكون هذا السيناريو هو محور التفاعلات القادمة بين كل الأطراف المعنية بالأزمة، إذ سيسعى الأوروبيون إلى تهدئة الولايات المتحدة، واستغلال فترة الشهور الثلاثة القادمة حتى دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ، من أجل ممارسة ضغوط على إيران من أجل الوصول إلى تفاهمات، تحول دون عودة الأزمة إلى المربع الأول.