تستهدف الإدارة الأمريكيَّة عبر مجموعة من العقوبات الموجهة تجفيف الموارد المالية للنظام الإيرانيّ، وزيادة الضغوط الاقتصادية والمجتمعية عليه، لحصاره داخل حدوده الجغرافية وإجباره على تغيير أجندته السياسية والعسكرية في إقليم الشرق الأوسط. وبطبيعة الحال لن يقف النِّظام مكتوف الأيدي أمام العقوبات الأمريكيَّة، وسيتوجه لاتِّباع مجموعة من الاستراتيجيات والخيارات من أجل إبطال فاعلية العقوبات الخطيرة، بخاصَّة تلك التي تتعلق بأهمّ مصادر دخل النِّظام، أي صادرات النِّفْط الخام ومشتقاته، أو تلك المتعلقة بالتجارة والتبادلات المالية مع العالَم الخارجي. بعض هذه الاستراتيجيات سيكون فعَّالًا، والبعض الآخر سيكون من الصعب نجاحه وإن كُتب له النجاح في مراحل زمنية سابقة.
عقب الانسحاب الأمريكيّ من الاتِّفاق النووي في مايو 2018، طُبّقَت المرحلة الأولى من العقوبات في أغسطس من نفس العام على منتجات حيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الإيرانيّ، كتجارة السيارات والمعادن والسجاد، إضافة إلى عقوبات على تحويل الأموال إلى إيران بالدولار الأمريكيّ. ثم استؤنفت المرحلة الثانية من العقوبات الأمريكيَّة على إيران في الرابع من نوفمبر 2018، التي تفرض عقوبات مالية على مشتري النِّفْط الخام الإيرانيّ ومنتجاته، وعلى المتعاملين مع قطاع المواني والتأمين في إيران أو الشحن البحري من وإلى إيران، وعلى التعاملات المالية مع البنك المركزي والمؤسَّسات المالية الإيرانيَّة. لذا يحاول صانعو القرار في إيران إعادة استخدام تكتيكات تم استخدمها في مراحل زمنية سابقة وحققت أهدافها، واستحداث طرق جديدة للالتفاف على العقوبات في المستقبل، فهل ستحقق هذه التكتيكات أهدافها؟ وهل ستكون هذه الاستراتيجيات كافية لتعويض الصدمات التي خلَّفَتها إعادة فرض العقوبات الأمريكيَّة على الاقتصاد والمجتمع، وانعكست بوضوح على معدَّلات صادرات النِّفْط، ونموّ الناتج المحلي الإجمالي، واستقرار ميزان المدفوعات، ومعدَّلات الأسعار، وقيمة العملة المحلية؟ في المقابل هل تضمن الهيمنة الأمريكيَّة على الاقتصاد الدولي واستحواذ عملتها الدولار على 40% من المدفوعات العالَمية[1] نجاح العقوبات الأمريكيَّة أحادية الجانب في تحقيق أهدافها؟
تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف استراتيجيات النِّظام الإيرانيّ للتعامل مع العقوبات الأمريكيَّة، من خلال معرفة أدواته لتحقيق ذلك، ثم تحليل فاعلية هذه الأدوات، ومن ثم استقراء مستقبل المقاومة الإيرانيَّة للعقوبات الأمريكيَّة عبر عدة سيناريوهات مستقبلية.
تنقسم الدراسة إلى خمسة محاور أساسية، إضافة إلى ملحق: يتناول المحور الأول تغيير بوصلة التعاون الاقتصادي إلى الدول الشرقية، تحديدًا الصين وروسيا والهند وحتى كوريا الشمالية. والمحور الثاني يتناول الوجهات المجهولة لصادرات النِّفْط الإيرانيّ وطرق التضليل الإيرانيَّة وفاعلية التعقب. ويحلل المحور الثالث القناة المالية الأوروبيَّة SPV ونظام سويفت ودوافع أوروبا لخلق قنوات مالية لإيران وفرص النجاح. ويتطرق المحور الرابع إلى الأساليب المتنوعة للالتفاف على العقوبات. أما المحور الخامس فيحاول استقراء السيناريو الأقوى بين ثلاثة سيناريوهات لمستقبل المقاومة الإيرانيَّة للعقوبات الأمريكيَّة، ثم نضع بين يدي القارئ مُلحَقًا مختصرًا لأهمّ مؤشّرات الوضع الاقتصادي الإيرانيّ الراهن والمتوقع، وأخيرًا نخلص إلى أهمّ ما توصلت إليه الدراسة من نتائج.
المحور الأول: تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الشرقية
مع تزايد الضغوط الأمريكيَّة على الدول والشركات الأوروبيَّة لإحكام الحصار الاقتصادي على إيران، سيتجه النِّظام الإيرانيّ أكثر فأكثر إلى التعاون مع حلفاء شرقيين من ذوي الأثر على المستوى السياسي أو الاقتصادي كالصين وروسيا والهند وحتى كوريا الشمالية.
1- الصين
عارضت الصين من قبل العقوبات الأمريكيَّة أحادية الجانب واعتبرت عقوبات الأمم المتَّحدة فقط هي ما يمكن أن تعترف به[2]. وبالنسبة إلى إيران فالصين تُعَدّ المتنفَّس المحتمَل الأهمّ خلال الحصار الأمريكيّ، فهي الشريك التجاري الأول لإيران، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 37 مليار دولار[3] عام 2017، وهي أكبر مشترٍ للنِّفْط الإيرانيّ، ورفضت طلب الولايات المتَّحدة وقف شراء النِّفْط الإيراني، وإن تعهدت بعدم زيادة مشترياتها مستقبلًا (أكثر من 700 ألف برميل نفط يوميًّا اشترتها الصين من يناير إلى مايو 2018، فاقت قيمتها 8 مليارات دولار)، لكنها استحوذت على حصة شركة توتال الفرنسية بعد خروجها من عقد تطوير حقل الغاز الإيرانيّ بارس الجنوبي.
شكل1: أكبر الدول المستوردة للنِّفْط الإيرانيّ (من نوفمبر 2017 إلى أبريل 2018)، وتأتي الصين في المقدمة
السؤال الهام هنا: ما مردود هذا التعاون على كلا البلدين؟ وهل تستطيع الصين إنقاذ اقتصاد إيران من الأزمات الاقتصادية الراهنة أو المستقبلية؟
كانت بكين العاصمة الأولى التي يزورها وزير الخارجية الإيرانيّ جواد ظريف بعد الانسحاب الأمريكيّ من الاتِّفاق النووي، مما يُبرِز أهميتها للنظام الإيرانيّ في هذا التوقيت، ويبدو من المرجح أن التعاون التجاري والاستثماري الصيني-الإيرانيّ سيظلّ قائمًا وقابلًا للتطوير بشرط إيجاد آلية آمنة للتبادلات المالية بين البلدين.
هذا التعاون المحتمَل له عدة أسباب: فبجانب تأمين مصادر متنوعة للنِّفْط والاستفادة من التخفيضات السعرية التي ستقدمها إيران لترويج نفطها، يمكن للصين أن تستغل تعاونها مع إيران كورقة ضغط على الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في النزاع الدائر بينهما حول ملفّ التعريفات الجمركية والانسحاب الأمريكيّ من اتِّفاقية باريس للمناخ. ويرى دانييل جلاسر، وهو خبير عمل في فرض العقوبات بوزارة الخزانة الأمريكيَّة، أن الصين لن تغير استراتيجيتها طويلة المدى في مجال الطاقة بسبب نزاع دبلوماسي “قصير المدى”[4]، كما ستستفيد الصين كثيرًا من الحاجة الإيرانية الماسَّة إليها في الدفع الآجل بدلًا من النقدي أو في مقابل تصدير منتجات وبضائع صينية مقابل النِّفْط الإيراني.
شكل2: واردات الصين من النِّفْط الخام الإيرانيّ 2011-2016 (بالألف برميل /يوم)
مع دخول المرحلة الأولى من العقوبات الأمريكيَّة، خفضت الصين شراءها النِّفْط الإيرانيّ بنحو 20% في الفترة من مايو إلى أغسطس 2018، وعلى الرغم من عدم وضوح مدى التزام الصين هذه السياسة[5]كان من الملاحَظ أنها ذات النسب التي خفضت بها شراءها النِّفْط الإيرانيّ خلال عامي 2012 و2013 قبل أن تعاود زيادة استيرادها حتى قبل توقيع الاتِّفاق النووي في 2015، كما يظهر من الشكل السابق. أي إن الصين تكرر نفس سيناريو العقوبات السابقة على الاتفاق النووي.
استمرار التعاون التجاري والاستثماري الصيني-الإيرانيّ، الحكومي تحديدًا، سيكون متنفَّسًا حيويًّا لتخفيف وطأة العقوبات على الاقتصاد الإيرانيّ، ولو بدرجة ما، لأنه سيضمن عدم التوقف الكلي للتدفقات المالية للموازنة العامَّة الإيرانيَّة، من بيع النِّفْط، وسدّ الفراغ الناتج عن خروج الاستثمارات الأوربية من مجالات إنتاج الطاقة والسيارات كتوتال وبيجو[6]. ينطبق هذا التعاون على الاستثمارات الحكومية بدرجة أكبر لقلة ارتباطها بالسوق الأمريكيَّة، أما القطاع الخاصّ الصيني فسيتردد كثيرًا لثقل وزن علاقاته التجارية مع الولايات المتَّحدة الأميركية.
تتضارب الإحصائيات حول قيمة التجارة بين البلدين في المصادر الإيرانية والمصادر الدولية، وارتفعت قيمة التجارة بين الصين وإيران من 20 مليار دولار عام 2015، إلى 27 مليار دولار عام 2017 وفق إحصائيات المفوضية الأوربية، و37 مليار دولار وفق المصار الإيرانية، في حين تَوقَّع مجيد رضا حريري، رئيس الغرفة التجارية الإيرانية-الصينية، في شهر نوفمبر أن تصل قيمة التجارة بين البلدين بنهاية 2018 إلى رقم متفائل يبلغ 42 مليار دولار مدعومةً بارتفاع أسعار النفط ونقص البدائل أمام إيران.
من ناحية أخرى قد يخلق تزايد الدور الصيني داخل الاقتصاد الإيرانيّ نوعًا من الهيمنة والتأثير على صنع القرار الإيرانيّ في ضوء محدودية البدائل والخيارات المتاحة أمامه، مِمَّا قد يضع الموقف الإيرانيّ في الجانب الأضعف في عمليات التفاوض بين الطرفين، كما سيكون على إيران القبول بتكنولوجيا أقلّ جودة في ما يتعلق باستثمارات القطاع النِّفْطي والمعدات الصناعية مقارنة بالاستثمارات الأوروبيَّة الهاربة، مما سينعكس على الوضع التنافسي للمنتجات الإيرانيَّة في النهاية.
2- روسيا
“قرَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طرح استثمار نحو 50 مليار دولار في قطاع النِّفْط والغاز الإيرانيّ”، كان هذا تصريحًا أدلى به مستشار الشؤون الدولية لمرشد الثورة علي أكبر ولايتي، في الثالث عشر من يوليو 2018، عقب عودته من رحلة إلى روسيا جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وسريعًا في نفس اليوم نفى الكرملين صحة التصريح، ولتأكيد ما نفاه الكرملين تَحدَّث وزير النِّفْط الروسي لوسائل الإعلام متجاهلًا تصريح ولايتي تمامًا، مكتفيًا بتمنِّي أن تتاح الفرصة لإيران لشراء المنتجات والخدمات الروسية[7].
على عكس التوقعات الإيرانيَّة المنتظرة من روسيا بعد توقيع العقوبات الأمريكيَّة، كشف اللغط الذي أُثيرَ حول هذا التصريح، مدى تواضع التعاون الاقتصادي بين البلدين على أرض الواقع، إذ طُرح اسم روسيا كثيرًا في هذا الصدد، ربما لأنها الدولة الأهمّ التي وقَّعَت اتِّفاقية مقايضة مع إيران في مايو 2017، تورَّد بموجبها بضائع روسية لإيران بقيمة 45 مليار دولار سنويًّا مقابل النِّفْط الإيرانيّ. لكن هذه الاتِّفاقية إلى الآن لم تطبَّق، لا كليًّا ولا جزئيًّا.
ما الذي تستطيع روسيا تقديمه لإيران فعليًّا خلال فترة العقوبات؟
خلال السنوات من 2007 إلى 2014، وهي فترة تضمنت عقوبات دولية على إيران، اقتصر التعاون بينهما على التسليح المسموح به في إطار العقوبات المفروضة، وعلى بعض العدد والآلات، ولم يتجاوز حجم التبادل التجاري بينهما 1.67 مليار دولار في عام 2014[8]، كما لم يرتفع كثيرًا في عام 2016، مسجلًا قرابة مليارَي دولار[9] -نلاحظ الهوة الكبيرة مقارنة بالصين- على الرغم من رفع العقوبات الدولية عن إيران ووصول التعاون السياسي والعسكري بين البلدين إلى ذروته في ما يخصّ ملفات الشرق الأوسط الشائكة، أي إن التعاون التجاري كان محدودًا خلال العقوبات الدولية الماضية واستمرّ حتى بعد رفعها، فكيف يصل إذًا بعد إعادتها إلى 45 مليار دولار؟
اكتفى وزير النِّفْط الروسي في تعليقه على زيارة ولايتي بتمنِّي إتاحة الفرصة لإيران لتتاجر مع روسيا وتشتري منتجاتها، كأنه بذلك يقول: إذا كان هناك دعم روسي لإيران خلال فترة العقوبات، فلن يكون على حساب الإضرار بمصالح روسيا أو الشركات الروسية الكبرى، وانسحاب شركة “روس نفت” الروسية الحكومية من إيران عقب العقوبات خير دليل.
باختصار، ستسعى إيران لتوثيق العلاقات مع روسيا، لكن الأخيرة ليس لديها فعليًّا كثير لتقدمه، اللهم إلا في مجال الدفاع وربما الطاقة[10]، فالاقتصاد الروسي لديه من الأزمات الاقتصادية الداخلية ما يكفيه، مع حصار اقتصادي من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة ودول أوروبيَّة على خلفية تدخُّل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكيَّة الأخيرة، وضمّ روسيا إلى شبه جزيرة القرم الأوكرانية. لذا فإن النِّظام الروسي في غنى عن إثارة مزيد من الضغوط الاقتصادية عليه أو زيادة حِدَّة خلافاته مع المجتمع الدولي، ولا يملك اقتصاده كثيرًا ليقدمه إلى إيران سواء عبر المقايضة أو النقد، غير بيع الأسلحة وبعض المعدات والتقنيات المحدودة.
3- الهند
كان الموقف الهندي من الالتزام بالعقوبات الأمريكيَّة مترددًا بدرجة كبيرة، ويبدو أنه سيظَلّ كذلك، فالنِّفْط هو السلعة الأهمّ التي تربط الهند بإيران، فالهند تمثل لإيران ثاني أكبر مستورد لنفطها، وإيران تمثّل للهند ثالث أكبر مَورِد للنِّفْط بعد العراق والسعوديَّة، أو ما يعادل 10% من احتياجات الهند من النِّفْط الخام، بالإضافة إلى كون إيران شريكًا لوجيستيًّا مهمًّا للهند.
في ذات الوقت لا يمكن أن تستهين الهند بمصالحها الأمنية والاقتصادية المشتركة مع أمريكا، فكان الارتباك الهندي واضحًا في البداية خشية خسارة أي من الطرفين، ففي البداية ظهرت تصريحات غير مؤكَّدة عن نية الهند وقف استيراد نفط إيران بحلول نوفمبر 2018، ثم أعلنت رسميًّا اعترافها بالعقوبات التي تفرضها الأمم المتَّحدة فقط لا العقوبات أحادية الجانب[11]، وقالت إنها قد تخفض استيرادها من النِّفْط الإيرانيّ بنحو 50% بشرط حصولها على محفزات من الولايات المتَّحدة لفعل ذلك[12]، وانخفضت بالفعل في أغسطس بمقدار النصف (400 ألف برميل يوميًّا) قبل أن تعاود الارتفاع في سبتمبر 2018.
ويبدو من المرجح أن يستمرّ التعاون الهندي-الإيرانيّ حتى بعد انتهاء فترة الاستثناء الأمريكيّ لها من العقوبات النِّفْطية، بخاصَّة في ما يتعلق بشراء النِّفْط الإيرانيّ ولو بمعدَّلات أقلّ من الماضي[13]، إذ كيف ترفض الهند فرصة شراء نفط بخدمات شحن وتأمين مجانًا مع سداد ميسَّر كما عرضت عليها إيران لتحفيزها على الشراء[14]؟
وبجانب الرغبة الهندية في تأمين موارد متنوعة للطاقة، فلديها أهداف أمنية وجيو-سياسية لا تقلّ أهمِّيَّة، وميناء تشابهار جنوبيّ إيران أهمّ أدواتها لتحقيق هذه الأهداف؛ تهدِّد به مكانة ميناء كراتشي الباكستاني، وتفتح أسواقًا لبضائعها في إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى عبر شبكة من السكك الحديدية، وتسهِّل الوصول إلى غاز تركمانستان الوفير[15]. ويبدو أن لدى الإدارة الأمريكيَّة رغبة في اكتمال هذا المشروع، لذا استثنته من العقوبات.
4- كوريا الشمالية
أما كوريا الشمالية، الغريم التقليدي للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، فستسعى إيران لأن يكون لها دور مستقبلي في عملية تسويق النِّفْط الإيرانيّ للخارج الفترة المقبلة، لما لدى كوريا من خبرة طويلة في التعامل مع عقوبات المجتمع الدولي، وخبرة في تهريب النِّفْط إلى الداخل بمساعدات فنية روسية وصينية[16]، وربما هذه هي الرسالة التي أراد كل من إيران وكوريا الشمالية تأكيدها من زيارة وزير خارجية كوريا الشمالية ري يانغ هو التاريخية لطهران في السابع من أغسطس لمدة يومين، مع أول أيام سريان المرحلة الأولى من العقوبات الأمريكيَّة عمليًّا على إيران.
وتنقل وكالة سبوتنيك الروسية بإصدارها الفارسيّ عن الباحث الكوري الجنوبي في دراسات الشرق الأوسط جيانغ جي هيانغ أن إيران وكوريا الشمالية لديهما تاريخ طويل من التعاون الاقتصادي والعسكري السري، والنموذج الأبرز لهذا التعاون هو نقل كوريا الشمالية أسلحتها إلى الحوثيين في اليمن، بأموال إيران، وكذلك بيعها التكنولوجيا النووية والصاروخية لطهران. وفي الوقت الذي تستمرّ فيه واشنطن في عقوباتها المتزامنة على كوريا الشمالية وإيران، ستزيد الدولتان تعاونهما لتقليل خسائر الحصار الأمريكيّ.
المحور الثاني: الوجهات المجهولة للنِّفْط الإيرانيّ وفاعلية التعقُّب
نحو 170 ألف برميل على أقلّ تقدير، أو 11% من إجمالي الصادرات النِّفْطية اليومية خلال الأسبوعين الأولين من أكتوبر، ذهبت إلى وجهات مجهولة أو لم يُكشَف عنها، وتشير دلائل إلى توجُّه بعضها إلى دول أوروبيَّة كإيطاليا وأخرى آسيوية كاليابان والهند. انتهجت إيران هذه السياسة قبل حتى دخول عقوبات الولايات المتَّحدة في مرحلتها الثانية حيِّز التنفيذ، فما المانع إذًا من استمرارها في انتهاج نفس السياسة سواء خلال فترة استثناء بعض الدول من العقوبات النِّفْطية عليها (لمدة ستة أشهر) أو بعد انتهائها؟ وكيف يتم الأمر في الواقع؟ هذا ما نسعى للإجابة عنه في السطور التالية.
تدهوُر الصادرات الإيرانيَّة وزيادة الوجهات المجهولة
كانت الدول الآسيوية في مقدِّمة الدول المستوردة للنِّفْط الإيرانيّ قبل إعادة فرض العقوبات الأمريكيَّة، وعلى رأسها الصين والهند وكوريا الجنوبية، ثم تأتي الدول الأوروبيَّة في المنزلة الثانية لأكبر مستوردي نفط إيران، وبعد فرض العقوبات لم يتغير ترتيب كبار المشترين، لكن الذي تغير هو انخفاض حجم مشتريات كل المستوردين بلا استثناء حتى أكبر المشترين.
شكل3: وجهات صادرات الخام الإيرانيّ من يناير إلى سبتمبر 2018 (مليون برميل/اليوم)
ونظرة إلى الرسم البياني السابق، بداية من شهر مايو (انسحاب الولايات المتَّحدة من الاتِّفاق النووي) إلى شهر سبتمبر 2018 تكشف عن انخفاض واردات كل دولة من تلك الدول تدريجيًّا (الصين، الهند، اليابان، كوريا، أوروبا)، بما يعني أن غالبية المستوردين الرئيسيين للخام الإيرانيّ خفضوا وارداتهم استجابة للضغوط الأمريكيَّة بالأساس. هذا وفق السجلات الرسميَّة المتتبِّعة للوجهات النهائية لحمولات النِّفْط الإيرانيّ.
لكن في المقابل كان من الملاحَظ زيادةٌ في مساهمة الحمولات غير محددة بدولة معيَّنة أو “أخرى” إلى إجمالي الصادرات النِّفْطية في شهرَي أغسطس وسبتمبر (كما يظهر باللون الأخضر في الرسم البياني). بالطبع قد يكون بعض هذه الحمولات تمّ بسجلات رسميَّة، لكن هذا لا ينفي ارتفاع مساهمة هذه الوجهات مقابل انخفاض الوجهات التقليدية المعلومة.
ويقول تقرير صدر في السابع من أكتوبر عن [Tanker Trackers” [17″ (موقع مختص بتتبُّع حركة ناقلات النِّفْط عبر الأقمار الصناعية في جميع أنحاء العالَم) إن “إيران تُصدِّر بالفعل كميات كبيرة من النِّفْط إلى وجهاتٍ أكثر بكثير مِمَّا كنّا نتصور”[18].
إذا ما قارنَّا بدايات شهرَي أكتوبر وأبريل الماضيين، فسنجد تراجع صادرات النِّفْط الإيرانيّ اليومية بمقدار مليون برميل على أقل تقدير، إذ كانت تصدر نحو 2.5 برميل يوميًّا في أبريل، وخلال الأسبوعين الأولين من شهر أكتوبر انخفضت صادرات النِّفْط إلى نحو 1.33 مليون برميل يوميًّا، وفق البيانات الرسيمة لتعقب ناقلات النِّفْط [19]، وإلى نحو 1.5 مليون برميل إذا ما أضفنا الحمولات النِّفْطية المجهولة التي لا تذكرها التقارير الرسميَّة، أي إن نحو 11% من إجمالي صادراتها خرجت من موانيها إلى جهات مجهولة.
شكل4: تزايد مساهمة الوجهات المجهولة لصادرات الخام الإيرانيّ خلال النصف الأول من أكتوبر
إعداد: الوحدة الاقتصادية بمعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة – بيانات Financial Times
في الوقت نفسه تشير مصادر أخرى إلى أن إجمالي صادرات إيران خلال نفس الفترة بلغ 2.2 مليون برميل يوميًّا[20]، وهو ما يجعل احتمالات مساهمة صادرات الوجهات المجهولة لإجمالي الصادرات ترتفع إلى قرابة 40%[21].
اليابان على سبيل المثال، خفضت وارداتها من إيران بشكل ملحوظ عقب العقوبات الأمريكيَّة الأولى في أغسطس، إلا أنه رُصِدَ تَسَلُّمها 1.39 مليون برميل من النِّفْط ومتكثف الغاز الطبيعي من إيران في سبتمبر، ولم يُعلَن عن هذا الرقم رسميًّا[22].
طرق تضليل الصادرات الإيرانيَّة للمراقبين الدوليين
لا شكّ في اتباع إيران حيلًا فعَّالة تستطيع بها زيادة صادراتها خفيةً، بما يعوِّض انخفاض مبيعات سلعتها الاستراتيجية الأهمّ، فناقلات النِّفْط الإيرانيَّة تتبع مجموعة من الطرق لتضليل محاولات مراقبة وتتبع وجهاتها النهائية، منها:
1- وقف أجهزة نظام التعريف الآلي بالموقع (AIS satellite tracking)، حتى تُخفِي مساراتها ولا يُعرَف وجهتها الأخيرة[23]، وتُخفِي كذلك هُوية المشترين تجنُّبًا للغرامات الأمريكيَّة. ونظام التتبع هذا هو المنوط به كشف مسارات السفن التجارية في البحر بموجب القانون الدولي البحري. وأجادت إيران استخدام هذه الحيلة خلال الحظر النِّفْطي الأمريكيّ-الأوروبيّ عليها في عام 2012[24].
ومن الشواهد التي يُستدلّ بها هنا، مغادرة حاملة نفط تدعى سويز ماكس ستارك Suezmax Stark 1، للمواني الإيرانيَّة بعد تحميل مليون برميل من الخام الإيرانيّ متوجهة ناحية الشرق، ثم وقفت أجهزة الإرسال بها على بعد 200 ميل من الساحل الشرقي للهند، ثم عادت للظهور في نفس الموقع بعد أسبوع. وقد اعتادت نفس الناقلة نقل النِّفْط الإيرانيّ إلى الهند قبل العقوبات[25].
ويقول خبير الطاقة أليكس لورل Alex Lawler إن وجهات التصدير النهائية يظلّ من الصعب كشفها، من على الرغم من أن التتبع أصبح أسهل في الوقت الحالي مقارنة بالماضي بفعل الأقمار الصناعية، لكن الأمر في النهاية يحتاج إلى “فن وعلم”[26]. ولعله يقصد بذلك خبرة المراقبين، بجانب توافر المصادر الخاصَّة غير الرسميَّة، سواء في المواني الإيرانيَّة أو الوجهات المحتملة لاستقبال الشحنات الإيرانيَّة.
2- إخفاء الحمولات الإيرانيَّة وسط حمولات دول أخرى: شوهدت ناقلة نفط تدعى يوفوسان YUFUSAN ترفع علم بنما، وهي تحمل النِّفْط الإيرانيّ في البداية من إيران خلال أكتوبر الماضي، ثم ذهبت إلى الكويت وحملت النِّفْط الكويتي في ما تَبقَّى من سعة فارغة، ثم اتجهت إلى اليابان. وقد تبدو في الظاهر كأنها تنقل النِّفْط الكويتي فقط، لكنها في الواقع محمَّلة بكميات أكبر من النِّفْط الإيرانيّ.
3- تخزين النِّفْط ثم إعادة بيعه، إذ يُخزَّن النِّفْط في ناقلات عملاقة قبالة السواحل الإيرانيَّة أو حتى في مخازن كبيرة في بلاد أخرى، ويُعاد توزيعه لاحقًا، فخلال فترة العقوبات الماضية خزنَت إيران النِّفْط في ميناء داليان الصيني في عام 2014، ثم أعادت بيعه لمشترين من كوريا الجنوبية والهند[27]، أو عبر نقل الشحنات إلى سفن العملاء في عُرض المحيط دون الاضطرار إلى دخول المواني وتعريض المشتري للعقوبات[28].
صورة جوية لستّ ناقلات عملاقة تخزن النِّفْط قبالة ساحل جزيرة خرج الإيرانيَّة منتصف سبتمبر 2018 سعة كل منهما مليونَا برميل. المصدر: [Bloomberg.com[29
4- مساعدة دول أخرى: يستطيع كبار مشتري النِّفْط الإيرانيّ المستفيدين من شراء نفط إيران، كالصين والهند، مساعدتها فنيًّا، للوصول إلى طرق وتقنيات جديدة للتضليل، في حال اكتشاف الطرق القديمة ومواجهتها، لأسباب قد يكون منها حاجة هذه الدول إلى تنويع مصادر إمدادها بالنِّفْط، إضافة إلى تقديم إيران إغراءات سعرية تجذب المشترين، أو عروضًا لا تقاوَم كنقل النِّفْط إلى المشترين على أسطول الناقلات الإيرانيَّة المكون من قرابة 40 ناقلة دون تكاليف إضافية[30]، وبالطبع سيكون هذا التعاون سريًّا تجنُّبًا لعقوبات مالية أمريكيَّة كما يحدث مع الهند أو حتى اليابان.
مقترَح أمريكيّ لتقويض استراتيجية تهريب إيران النِّفْط
وضعت الولايات المتَّحدة حوافز مالية للدول التي ستخفض حجم واردتها من النِّفْط الإيرانيّ تشجيعًا لهم، واستجاب غالبية المستوردين الكبار بالفعل لهذه الحوافز، لكن ما الذي يمنع هذه الدول من خفض واردتها على الورق فقط إرضاءً للجانب الأمريكيّ، وتعويض الفارق عبر الطرق التي تُجِيدُها الناقلات الإيرانيَّة، بخاصَّة مع عدم وجود آلية فعَّالة حتى الآن لإثبات مخالفة للعقوبات، ولو كان بعض المسؤولين الأمريكيّين يعتبرون هذا التكتيك غير فعَّال وأن بإمكانهم تتبع الناقلات الإيرانيَّة عبر أقمار التجسُّس الغربية وأنظمة المراقبة الأخرى[31]؟ لكن الأمر لا يزال يعتمد على جدية واشنطن واستغلالها ما تمتلكه من تقنيات وتكنولوجيا[32].
في المقابل قدَّم بيتر هارير، المختصّ السابق في مكافحة التهديدات المالية بوزارة الخارجية الأمريكيَّة، في مقال له بمجلة السياسة الخارجية “Foreign Policy” فكرة غير مطروحة وجديرة بالذكر، مضمونها تحويل العقوبات على سعر شراء النِّفْط الإيرانيّ، بدلًا من كمية استيراده[33].
يقترح هارير فرض العقوبات على مشتري نفط إيران بالأسعار العالَمية في مقابل تقديم حوافز للحكومات أو الشركات التي تشتري النِّفْط الإيرانيّ بأسعار متدنية أقلّ من الأسعار العالَمية، ليس هذا وحسب بل توضع المستحقات المالية لإيران في حسابات خاصَّة يمكن للإدارة الأمريكيَّة مراقبتها وحصار موارد الحكومة الإيرانيَّة المالية بفاعلية أكثر. تطبيق مثل هذا المقترح قد ينفي الحاجة إلى إخفاء وجهات الصادرات الإيرانيَّة، فمن يرغب في شراء منتج بسعر عالَمي في وجود من يقبل شراء نفس المنتج بسعر أقلّ؟ وستكون هذه السياسة مفيدة كذلك في الحفاظ على كميات المعروض العالَمي من النِّفْط.
المحور الثالث: القناة المالية الأوروبيَّة SPV وفرص النجاح
بسبب الحصار المالي الذي ستخلقه العقوبات الأمريكيَّة على إيران، يحاول الاتِّحاد الأوروبيّ تنظيم آليات من شأنها مواصلة التجارة وتحويل الأموال من وإلى إيران، من أهمّ هذه الآليات ما يمكن تسميته بالقناة المالية ذات الأغراض المحددة، أو SPV.
ما القناة ذات الأغراض المحددة SPV؟
أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية للاتِّحاد الأوروبيّ فيديريكا موغيريني في الخامس والعشرين من سبتمبر 2018، عن أداة/قناة تُدعَى (SPV) The Special Purpose Vehicle أو ما يمكن تسميته بقناة مالية/قانونية محدَّدة الأعراض، لإبقاء عمليات التجارة قائمة مع إيران وفق القانون الأوروبيّ وتسمح بانضمام شركاء من خارج الاتِّحاد، بحيث تتمّ التعاملات المالية بين إيران والأطراف الخارجية دون التعرض للعقوبات الأمريكيَّة[34] إما باستخدام عملات غير الدولار الأمريكيّ، وإما بإجراء التعاملات بعيدًا عن النِّظام المصرفي المعتاد القائم الذي تتمكن الولايات المتَّحدة من التأثير فيه، بما فيه نظام “سويفت”.
تذهب التخمينات حول طريقة عمل الآلية كالتالي: تبيع إيران النِّفْط لشركة إيطالية مثلًا، وبدلًا من حصولها على قيمة مبيعاتها مباشرة تُسَجَّل قيمة المبيعات في سجلات لصالح إيران، وعندما تشتري إيران منتجات من شركة أوروبيَّة أخرى تستوفي هذه الشركة إيراداتها من الحساب الإيرانيّ لدى شركة أخرى، فتكون التحويلات المالية من شركة إلى أخرى دون التحويل المباشر مع إيران.
ولم تتضح حتى الآن الآلية الفنية التي ستعمل بها القناة الأوروبيَّة لإنقاذ الاتِّفاق النووي مع إيران[35]، وعلى الرغم من الغموض القائم حول آلية التنفيذ وتصريح المتحدث باسم الهيئة الرئاسية للبرلمان الإيرانيّ بهروز نعمتي بكل ثقة بأن “الدول الغربية وعدت بتنفيذ آلية مالية لنقل الأموال مع إيران بالتزامن مع بداية العقوبات الأمريكيَّة في 4 نوفمبر وسوف تتعهد روسيا والصين والهند بهذا الأمر أيضًا”، فإن وسائل إعلام إيرانيَّة نقلت عن دبلوماسيين أوروبيّين أن تفعيل آلية SPV سيأخذ وقتًا طويلًا بعد العقوبات يمتد إلى أشهر[36].
نظام سويفت SWIFT الأوروبيّ وتأثير الولايات المتَّحدة
نظام سويفت هو شبكة مالية عالَمية واسعة النطاق مقرُّها بلجيكا، تربط البنوك والمؤسَّسات المالية في العالَم ويُستخدم لتحويل الأموال بينهم عبر أكواد رقمية، ويرتبط بالنِّظام أكثر من 11 ألف مؤسَّسة مالية في ما يزيد على 200 دولة في العالَم[37]. وحتى الآن لا يُعَدّ إخراج إيران من نظام سويفت ضمن قائمة العقوبات الأمريكيَّة.
لكن توجد ضغوط داخلية على الإدارة الأمريكيَّة لإضافة حظر إيران من نظام سويفت ضمن لائحة العقوبات[38]، وعلى الرغم من أنه يتعين على مؤسَّسة سويفت الامتثال لقرارات الاتِّحاد الأوروبيّ في المقام الأول، كما حدث خلال حظر إيران في 2012، فهو منشأه تعمل بموجب القانون البلجيكي، ولا تمتلك الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الأغلبية في مجلس مديري المؤسَّسة الأوروبيَّة، على الرغم من هذا فإن أمريكا تستطيع فرض عقوبات على البنوك المدرجة بسويفت إذا ما تعاملت مع المؤسَّسات المالية الإيرانيَّة المدرجة على لائحة لعقوبات الأمريكيَّة[39]. ووقفت الولايات المتَّحدة في فبراير 2012 عملية تحويل مبلغ محدود من المال (26 ألف دولار) من الدنمارك إلى ألمانيا لإتمام عملية تجارية لها صلة بكوبا المفروض عليها عقوبات أمريكيَّة.
دوافع أوروبا لخلق قنوات مالية بديلة مع إيران
إذا ما نظرنا إلى حجم تجارة الاتِّحاد الأوروبيّ مع إيران في العام السابق للانسحاب الأمريكيّ من الاتِّفاق النووي، أي عام 2017، فسنجده سجَّل نحو 21 مليار يورو، أكثر من نصف هذا الرقم هو صادرات أوروبيَّة مصنَّعة إلى إيران. لكن لا يتعدى حجم تجارتها مع إيران 0.6% من حجم تجارة الاتِّحاد الأوروبيّ مع العالَم، أي أقلّ من واحد في المئة، وتأتي إيران في المرتبة الثالثة والثلاثين، في حين تتصدر الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة والصين قائمة أكبر الشركاء التجاريين لأوروبا بنسبتَي 17% و15% تقريبًا، كما يظهر من الشكل التالي:
شكل5: تجارة الاتِّحاد الأوروبيّ مع العالَم الخارجي عام 2017
يبدو إذًا أن الدافع الأول للاتِّحاد الأوروبيّ لإنقاذ الاتِّفاق النووي حاليًّا ليس أهمِّيَّة نفط إيران أو السوق الإيرانيَّة للاقتصاد الأوروبيّ، بقدر مقدار رغبة الاتِّحاد الأوروبيّ في تحقيق أهداف سياسية وأمنية، كالحفاظ على أمنها القومي وأمن حلفائها في الإقليم، ورفض الخضوع لسياسات الإدارة الأمريكيَّة المتجاهلة للمكانة السياسية والاقتصادية للاتِّحاد الأوروبيّ والرغبة في تقليل هيمنة الدولار الأمريكيّ على التجارة العالَمية[40]، وتحقيق مزيد من الاستقلالية المالية والمصرفية الأوروبيَّة عبر أنظمة بديلة بعيدة عن تقلُّبات السياسة الأمريكيَّة، هذا ما عبَّر عنه صراحة وزير الخارجية الألماني هيكو ماس في مقال له بصحيفة هاندنسبلات الألمانية[41].
هذا بالطبع لا ينفي أن السوق الإيرانيَّة كانت زاخرة بالفرص الواعدة بالنسبة إلى الشركات الأوروبيَّة عقب تطبيق الاتِّفاق النووي، لكن الانسحاب الأمريكيّ أضاع هذه الفرص عليهم. ويظلّ المستفيد الأكبر من بقاء قنوات مالية وتجارية مع الاتِّحاد الأوروبيّ هو إيران، يؤكّد هذا ما قالته موغيريني من أن التجارة بين إيران والاتِّحاد الأوروبيّ “جانب أساسي من الحقّ الإيرانيّ في الحصول على ميزة اقتصادية مقابل التزاماتهم المتعلقة بالنووي حتى الآن”[42]، والجدول التالي يبيِّن لنا أهمِّيَّة الاتِّحاد الأوروبيّ لإيران تجاريًّا، إذ يقع في المرتبة الثالثة كأكبر شريك تجاري لإيران بنسبة 16% تقريبًا من تجارة إيران مع العالَم بعد الصين والإمارات (قد يتغير هذا الترتيب مستقبَلًا بعد إعلان الإمارات التزامها العقوبات الأميركية على إيران واتخاذ إجراءات للحَدّ من غسل الأموال أو تمويل الإرهاب عبر أراضيها).
جدول1: تجارة إيران مع العالَم الخارجي عام 2017
(بالمليون يورو) *
* 1 يورو= 1.14 دولار أميركي.
المصدر: المفوضية الأوربية، صندوق النقد الدولي.
إلى أي درجة يمتدّ نجاح الآلية الأوروبيَّة؟
إذا ما كُتب النجاح للقناة الأوروبيَّة في حلّ مشكلة التحويلات المالية من وإلى إيران، فإنه سيرتبط على الأرجح بالشركات الأوروبيَّة الصغيرة وربما المتوسطة ذات التمويل الأوروبيّ لا الأمريكيّ، وبعيدًا عن استخدام الدولار في التحويلات مع إيران. ولن ينجح الأمر مع الشركات الأوروبيَّة الكبيرة أو الدولية التي لها مبيعات واستثمارات ضخمة في أمريكا والمرتبطة بأسواق المال الأمريكيَّة أو التي في مجالس إدارتها أمريكان، وبالنسبة إلى هذه الشركات فمخاطر الإقصاء من السوق الأمريكيَّة أعظم بكثير من الخسائر المحتملة من قطع التعاملات مع إيران[43]، وهذا ما أدركته شركات كتوتال وبيجو وسيمنز وإيرباص.
علاوة على ما سبق يرى الأستاذ بجامعة كولومبيا الأمريكيَّة ريتشارد نيفيو أن القناة الأوروبيَّة “طريقة مبتكرة لحل مشكلة واحدة هي كيفية التبادل المالي مع إيران مع رفض البنوك، لكن هذه العقوبات لا تستهدف فقط التحويلات المالية، بل البضائع والسلع وتحركاتها، لذلك فمن المرجح أن القناة الأوروبيَّة لن تكون مناسبة لتنفيذ الأعمال التجارية الكبيرة من وإلى إيران، أو تنفيذ استثمارات داخل إيران”[44].
إذا ما سار الأمر على هذا النحو فإن التجارة مع إيران ستتحول من الشركات الكبيرة بما تضمُّه من تكنولوجيا متقدمة ورؤوس أموال وفيرة، إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة SMEs محدودة الإمكانيات، وسينعكس هذا بالسلب على وسائل الإنتاج الإيرانيّ ومعدَّلات التشغيل والإنتاج المحلي وتوافر السلع وتنافسيتها.
المحور الرابع: أساليب متنوعة للالتفاف على العقوبات الأمريكيَّة
إضافة إلى ما ذُكِر عن أهمّ الاستجابات الإيرانيَّة المنتظرة للعقوبات الأمريكيَّة، فبالتأكيد لم تُكتشَف بعدُ طرق كثيرة بعضها معلوم وبعضها لا يزال مخططات سرية، تجهِّز لها الحكومة الإيرانيَّة منذ العام الماضي وتنفَّذ تدريجيًّا في نطاق صناعات مثل النِّفْط والبتروكيماويات والسيارات، وفق ما كشفه عضو لجنة الصناعات والمعادن بالبرلمان سعيد باستاني[45]. من الطرق المعلنة استحداث وزارة الطاقة الإيرانيَّة بورصة طاقة محلية يُباع فيها النِّفْط لمن يريد الشراء من القطاع الخاص بسعر أقلّ من السعر العالَمي وبفترات سماح طويلة، ويتحمل مسؤولية بيع الخام بطريقته الخاصَّة أيًّا كانت الطريقة!
كذلك استيراد ما تحتاج إليه إيران عبر إنشاء شركات واجهة تابعه للجمعيات الخيرية أو الدينية، أو عبر حسابات بنكية في الخارج، بجوازات سفر مزورة لجنسيات غير إيرانيَّة، أو استغلال إعفاء الواردات الغذائية والدوائية من العقوبات الأمريكيَّة في إنشاء شركات في الصين أو إفريقيا لغسل الأموال، أو للاستيراد من خلالها، أو استخدام أعلام دول صغيرة كتوفالو (Tuvalu) على ناقلاتها النِّفْطية للتهريب، أو عقد صفقات لاستبدال العملات المحلية بالنِّفْط[46].
في الحقيقة الأساليب كثيرة ومتنوعة، والنِّظام الإيراني يتفنّن في البحث عن طرق وحيل للالتفاف على العقوبات، وما إن تفشل طريقة حتى يبتكر طريقة أخرى، ومن ثم تبحث الولايات المتَّحدة عن طريقة للمواجهة قد تنجح أو لا. لكن يبقى أمر هامّ، هو أن غالبية هذه الحيل أكثر تكلفة على الفرد والاقتصاد الإيرانيّ من اتباع الطرق المباشرة والقانونية.
فبيع النِّفْط عبر الطرق الملتوية، وإن كان أفضل لخزينة الدولة من لا شيء، يتطلب تضحيات سعرية لإقناع المشترى بتحمُّل مخاطر التعامل مع إيران، وتحمُّل النِّظام تكاليف أعلى سواء خلال عمليات النقل أو نتيجة لتزايد الفساد الداخلي، وما قضية احتيال السمسار الإيرانيّ بابك زنجاني على وزارة النِّفْط الإيرانيَّة إلا مثال على التكلفة الواقعة على الاقتصاد وحتى أفراد المجتمع نتيجة تلك الأساليب.
المحور الخامس: سيناريوهات مستقبل المقاومة الإيرانيَّة للعقوبات الأمريكيَّة
لا شكّ في وجود آثار للعقوبات الأمريكيَّة الأخيرة على الاقتصاد والشعب الإيرانيّ معًا، ومع هذا فمن المهم أن لا نُغفِل أن كل إيرانيّ يبلغ من العمر أربعين عامًا أو أقلّ قد شهد خلال جميع مراحل حياته تعاقب العقوبات الدولية على بلاده، الأمريكيَّة تارة والأوروبيَّة تارة والأممية تارة، والثلاث معًا أحيانًا، أي إن شريحة واسعة من الشعب اعتادت العيش أو التعايش بمرارة مع العقوبات، كما اعتاد النِّظام وجودها.
ولا يعني هذا بالضرورة أن السيناريو سيتكرر بعد العقوبات الجديدة كأنما لا جديد، فكل عصر له متغيرات مختلفة عن سابقه، وعدم مرونة الأنظمة السياسية عامَّة وإدراكها البطيء لطبيعة المتغيرات قد يترتب عليهما نتائج غير متوقعة وخاطفة. سنحاول في السطور التالية تصوُّر ثلاثة سيناريوهات لمستقبل المقاومة الإيرانيَّة للعقوبات الأمريكيَّة.
السيناريو الأول: المقاومة الإيرانيَّة الطويلة للعقوبات الأمريكيَّة
لا نقصد بالمقاومة هنا منع الضرر الناتج عن العقوبات الأمريكيَّة، بل النجاح في تقليص الضرر إلى أقصى الحدود ولأطول فترة من الزمن دون تراجع مواقف النِّظام تجاه الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
يلزم لتحقق هذا السيناريو توافر عوامل داخلية وخارجية، أبرزها مقدرة الدولة الإيرانيَّة على إدارة تدابير ناجحة للتصدي للعقوبات تقود إلى استمرار تدفُّق الإيرادات الحكومية اللازمة بقدر كافٍ لإدارة شؤون البلاد أيًّا كانت الطريقة الممكنة لتحقيق ذلك، وعدم توقف صادرات النِّفْط الخام ومنتجاته، واللجوء إلى إجراءات تقلِّل نزيف العملة الأجنبية لديها كتنمية الصادرات غير النِّفْطية وتقييد الواردات الاستهلاكية.
وعلى الصعيد الخارجي ينبغي استمرار دعم حلفاء دوليين ذوي ثقل اقتصادي كبير كالصين ودول الاتِّحاد الأوروبيّ، لتوفير الموادّ الخام والسلع الوسيطة والنهائية وقطع الغيار، بجانب حتمية خلق قنوات مالية ناجحة للتجارة الخارجية. بجانب مراهنة النِّظام الإيرانيّ على تغيير الإدارة الأمريكيَّة الحالية بعد نحو عامين من الآن، ومن ثم عودة عمل الولايات المتَّحدة بالاتِّفاق النووي.
بالطبع من أهمّ دعائم هذا السيناريو اقتران كل ما سبق باستقرار الأوضاع الداخلية، وتحمُّل عامَّة الشعب تراجع أوضاعهم المعيشية.
وذكر تقرير صادر عن مركز أبحاث البرلمان الإيرانيّ، أن أكثر السيناريوهات تفاؤلًا بأثر العقوبات على الاقتصاد يرجِّح انكماش الاقتصاد بنسبة 0.5% بنهاية 2018، و3.8% في 2019، وانخفاض نمو صناعات حيوية في إيران كالسيارات بنسبة 22.5%[47]. هذا هو السيناريو المتفائل وفق الإيرانيّين.
السيناريو الثاني: الثورات الشعبية وفشل الدولة
سيناريو فشل الدولة نتيجة لانهيار اقتصادي بسبب العقوبات الأمريكيَّة، هو سيناريو غير واقعي على الرغم من كثرة تناول وسائل الإعلام له، وقد سبق توضيح الأسباب في دراسة سابقة صادرة عن المعهد الدولي للدارسات الإيرانيَّة في أغسطس 2018.
مع هذا يوجد عامل خطير لا ينبغي إغفال أثره، عادة ما يكون مفاجئًا وسريعًا، هو أن أكثر من نصف المجتمع الإيرانيّ من الشباب، ونسبة كبيرة منهم من ذوي التعليم العالي، وعندما يجتمع هذا مع غلاء المعيشة وتشكيل البطالة بين الجامعيين 33% أو ما يوازي عاطلًا بين كل ثلاثة جامعيين، فستزداد الأزمات النفسية والمشكلات المجتمعية، وبالتأكيد سيزيد هروب الاستثمارات والحصار المالي والنِّفْطي ضغط مشكلات البطالة والغلاء على شريحة الشباب في المجتمع. وما زلنا قريبي عهد بثورات الربيع العربي التي قامت لأسباب مشابهة بقيادة الشباب رغم قوة الأنظمة الحاكمة آنذاك.
السيناريو الثالث: مقاومة مؤقتة مع فتح المجال لطلب التفاوض
يفترض هذا السيناريو أن يستمرّ صانعو القرار الإيرانيّ في مقاومة العقوبات الأمريكيَّة ورفض تقديم تنازلات مؤقَّتًا قد تمتد لبضعة أشهر بعد انتهاء الاستثناء الأمريكيّ لبعض الدول من العقوبات، تنتهي باضطرار النِّظام إلى التفاوض مع الولايات لتخفيف الحصار الاقتصادي وتقديم تنازلات من أجل الحفاظ على وجود الدولة القائمة. يستغلّ النِّظام خلال هذه الفترة المؤقتة العقوبات في توحيد وحشد الجبهة الداخلية لتحقيق مكاسب سياسية، وإظهار عدم الخضوع للرغبة الأمريكيَّة ونجاح المقاومة الإيرانيَّة، بخاصَّة خلال فترة استثناء الولايات المتَّحدة لثماني دول من كبار مستوردي النِّفْط الإيرانيّ كالصين والهند واليابان من العقوبات لمدة 6 أشهر.
وعند اشتداد الخناق الاقتصادي والمجتمعي على النِّظام ستلجأ إيران إلى فتح باب التفاوض مع أمريكا لرفع العقوبات أو تخفيضها مقابل تحقيق بعض أو كل المطالب الأمريكيَّة، المتعلقة بتحجيم برنامج الصواريخ الباليستية، وتقليل الدور العسكري لإيران في الإقليم بفعل نقص الموارد المالية، أما التوقف عن هذا الدور بالكلية فلا يزال هدفًا بعيد المنال، لأنه جزء لا يتجزأ من العقيدة والسياسة الخارجية الإيرانيَّة تحت مزاعم “الدفاع عن المستضعفين” كما يسميها الدستور الإيرانيّ.
يقول المسؤول السابق عن الملف الإيرانيّ بالاستخبارات الأمريكيَّة نورمان رول، في ورشة عمل نظمها المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة بالرياض عن مستقبل العلاقات الأمريكيَّة الإيرانيَّة: “الإدارة الأمريكيَّة ستستمر في العقوبات الاقتصادية على إيران، على أمل أن تقود النِّظام إلى التفاوض إما بشكل مباشر من خلال الحكومة، وإما بشكل غير مباشر عبر الشعب الإيرانيّ”[48].
قد يسرِّع وقوع هذا السيناريو تغيُّر مواقف الحلفاء الداعمين لإيران، في مقابل توصلهم إلى تسوية ملفات عالقة بينهم وبين الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، كتخفيف العقوبات الأمريكيَّة الأوروبيَّة المفروضة على روسيا على خلفية احتلال جزيرة القرم الأوكرانية، أو رفع القيود التجارية الأمريكيَّة على الصادرات الصينية إلى أمريكا[49]، أو ضغط جماعات المصالح الأوروبيَّة على حكوماتهم لتغيير موقفهم الداعم لإيران، واستغلال ملفّ التورط الإيرانيّ بعمليات إرهابية واغتيال معارضين بأوروبا.
السيناريو الأقوى
يظلّ سيناريو المقاومة الإيرانيَّة طويلة الأجل للعقوبات الأمريكيَّة ضعيفًا، فعادة لا تتحمل الشعوب والأنظمة تكاليف الحصار الاقتصادي لفترات طويلة، بخاصَّة إذا كان اعتمادها على الواردات كبيرًا. وكان هذا الدافع الأساسي لإيران للمفاوضات النووية مع الغرب التي انتهت بتوقيع الاتِّفاق النووي في 2015 بعد حصار شديد وشامل استمر ثلاث سنوات، في حين يُستبعد سيناريو انهيار النِّظام نتيجة لانهيار اقتصادي، وإن كنا لا نستطيع استبعاد احتمالية انفجار مفاجئ للغضب الشعبي بقيادة شبابية وفقدان السيطرة حتى مع وجود قبضة أمنية حديدية.
أما السيناريو الأكثر ترجيحًا فهو السيناريو الثالث، وهو المقاومة لفترة لمؤقتة ثم التفاوض، وستتحدد هذه الفترة تبعًا لثبات أو تغير مواقف أهم الحلفاء الدوليين الداعمين لإيران، ودرجة نجاح الإجراءات الإيرانيَّة المضادة للعقوبات، والمراهنة دون ضمانة حقيقية على تغيير الإدارة الأمريكية بعد الانتخابات الرئاسية القادمة في 2020 واتباعها نهجًا أقلّ حدة في التعامل مع إيران عن نهج ترامب.
مع العلم أنه مهما طالت فترة المقاومة، فعلى الأرجح لن تكون كافية لتعويض الصدمة المجتمعية والاقتصادية التي خلفتها العقوبات على الاستثمارات الأجنبية والتي ستخلفها على معدَّلات النمو والإنتاج والتشغيل والتضخم والبطالة والحذر والتشاؤم الذي سيخيم على تعاملاتها التجارية مع العالَم الخارجي في المستقبل.
ونظرة متأنية إلى مؤشّرات الوضع الاقتصادي كافية لإدراك تحديات الواقع والمستقبل، وهذا ما أرفقناه في ملحق الدراسة.
ملحق: مؤشّرات الوضع الاقتصادي الراهن والمتوقَّع
حلَّلَت دراسة سابقة نشرها المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة في أغسطس الماضي[50] مؤشّرات الوضع الاقتصادي لإيران تفصيلًا منذ تطبيق الاتِّفاق النووي في 2016، حتى تطبيق المرحلة الأولى من العقوبات في السادس من أغسطس 2018. أما هنا وبعد تطبيق المرحلة الثانية من العقوبات، فسوف نتطرق بشكل موجز إلى مجموعة من المستجدات والمؤشّرات الضرورية، لمعرفة الوضع الحالي للاقتصاد الإيرانيّ، ومحاولة لقراءة المستقبل بعد تطبيق مرحلتَي العقوبات الأمريكيَّة.
1. نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال الربع الثاني من عام 2018 بنسبة 2.5%، ويتوقع تقرير للإيكونوميست البريطانية صادر في نوفمبر، أن يسجِّل النموّ بنهاية الربع الرابع من العام الحالي ما نسبته -4.6%، أي الدخول في ركود اقتصادي مستمرّ حتى 2019، تأثُّرًا بتراجع القيم المضافة للقطاعات الاقتصادية المكونة للناتج المحلي الإجمالي خلال 2018، مثل قطاعات الخدمات (-14% تقريبًا) والصناعة (-0.7%)، إضافةً إلى تراجع محركات النمو الاقتصادي مثل الاستثمارات الكلية الثابتة (-1%) وتراجع الإنفاق الاستهلاكي الخاص(-1%) وصادرات السلع والخدمات (-13.5%)، في حين تراجعت واردات السلع والخدمات (-22%) بما فيها الواردات الإنتاجية[51].
2. يسجل صافي الميزان الجاري فائضًا مقدَّرًا بـ31.4 مليار دولار بنهاية 2018 سينخفض إلى نحو 14 مليار دولار في 2019، ويُعزَى استمرار ميزان المدفوعات في تسجيل فائض إلى أسعار النِّفْط الجيدة وتراجع الواردات الاستهلاكية والاستثمارية وأثر انخفاض قيمة العملة المحلية على زيادة الصادرات غير النِّفْطية. وسيمنح هذا الفائض إيران مقدرة نسبية على امتصاص الأزمات المالية على المدى القصير.
3. ارتفاع أسعار المستهلكين بنسبة 24.5% خلال الربع الثالث من 2018 على أساس سنوي[52]، وتوقع صندوق النقد وصول التضخُّم إلى 40% بنهاية العام[53].
4. سجلت نسبة البطالة 12.7% خلال 2018، وفق الإيكونوميست، ونسبة أقلَّ وفق البيانات الإيرانيَّة.
5. بلغ عجز الموازنة 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2017/2018، ويُتوقَّع ارتفاعه إلى 2.8% في 2018/2019، مع تناقص الإيرادات الحكومية وتراجع الحكومة عن تنفيذ خططٍ لرفع الدعم تجنُّبًا لإثارة الاحتجاجات الشعبية مجدَّدًا[54]. وفعليًّا ارتفع عجز الموازنة الفعلي على المستهدف بنسبة 126% مسجِّلًا 2.6 مليار دولار خلال ستة أشهر (مارس-سبتمبر 2018)[55].
6. انخفضت قيمة العملة المحلية (التومان) في السوق الحرة من 5500 تومان للدولار الواحد في أبريل الماضي إلى نحو 14000 تومان للدولار في نوفمبر. وتُضطرّ الحكومة إلى بيع الدولار بسعر مدعم لمشتري بعض من المنتجات الحيوية كالغذاء والدواء، وهو ما يضغط على احتياطيها من العملة الأجنبية البالغ حاليًّا 108 مليارات دولار -يغطي 13 شهرًا من الواردات- مقارنة باحتياطيات مقدرة بأكثر من 133 مليار دولار عام 2016[56].
النتائج
تتعرض إيران لعقوبات قاسية تهدف إلى حصار النِّظام الحالي، وتجفيف موارده المالية، وزيادة الضغوط الاقتصادية والمجتمعية عليه، لإجباره على تغيير استراتيجياته السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، وبطبيعة الحال لن يقف النِّظام مكتوف الأيدي أمام العقوبات الأمريكيَّة، وسيتجه لاتباع مجموعة من الاستراتيجيات والخيارات التي قد يكون بعضها فعَّالًا وبعضها أقل فاعلية وأخرى غير فعالة:
– الخيار الأول هو الاتجاه نحو تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الشرقية كالصين والهند وروسيا وحتى كوريا الشمالية. ستكون الصين أهمّ بديل تجاري واستثماري لإيران يسدّ فراغ الاستثمارات الأوربية الهاربة، وستزداد التبعية الإيرانيَّة للهيمنة الصينية على الأنشطة الداخلية، بخاصَّة من الشركات الصينية منقطعة الصلة بالسوق الأمريكيَّة، وسيتعين على إيران في المقابل الرضا بجودة وتكنولوجيا أقل مقارنة بالتكنولوجيا والجودة الأوروبيَّة، وستقود الرغبة الصينية في تنوع مصادر نفطها إلى الاستمرار في شراء الخام الإيرانيّ حتى في ظلّ العقوبات الأمريكيَّة. أما الهند فكان موقفها مترددًا في التزام العقوبات الأمريكيَّة منذ البداية، ويبدو أنه سيظلّ كذلك، بخاصَّة أن لديها أهدافًا جيو-سياسية لا تقل أهمِّيَّة عن شرائها النفط الإيرانيّ، كإتمام تطوير ميناء تشابهار الإيرانيّ وفتح أسواق لها في آسيا الوسطى والوصول إلى غاز تركمانستان عبر أراضي إيران. أما كوريا الشمالية فستلجأ إليها إيران للاستفادة من خبراتها في تهريب النِّفْط في ظلّ الحصار الأمريكيّ، في حين لا تملك روسيا كثيرًا مِمَّا يمكن تقديمه لإيران لتخفيف الحصار الاقتصادي سوى الدعم السياسي والمعدات العسكرية.
– الخيار الثاني هو استخدام إيران أدوات تضليلية تمكِّنها من مواصلة تصدير وبيع النِّفْط في ظلّ العقوبات، ومِن ثَمَّ فإن احتمالية وصوله إلى الصفر كما تسعى الإدارة الأمريكيَّة تظلّ بعيدة. لكن المؤكَّد أن حجم الصادرات الإيرانيَّة لن يعود كما كان قبل فرض العقوبات الأمريكيَّة بمرحلتيها في مايو ونوفمبر 2018، وستزيد تلك العقوبات صعوبة تصدير النِّفْط، ليس فقط بسبب الجزاءات المالية التي ستوقَّع على المشترين، لكن أيضًا بسبب عزل إيران عن النِّظام المالي العالَمي، بخاصَّة إذا نجحت الولايات المتَّحدة في إخراجها من منظومة تحويل الأموال “سويفت”، إضافة إلى إمكانية استخدام الولايات المتَّحدة وسائل تقنية لضبط عمليات تهريب النِّفْط ومعاقبة المشترين ماليًّا، عبر أقمار التجسُّس الغربية إذا ما أخذت الأمر بجدية، أو تغيير استراتيجية العقوبات.
– الخيار الثالث هو التعويل على مساعدة الاتِّحاد الأوروبيّ في إيجاد طريقة قانونية ومالية لاستمرار التعاملات المالية الدولية مع إيران وتجنُّب العقوبات الأمريكيَّة، وإلى الآن لم تتمكن أوروبا من تفعيل هذه الطريقة، لكنها مصرة على إخراجها للنور، لا لحاجة أوروبيَّة ماسَّة إلى التجارة مع إيران، بل لإظهار الاستقلالية السياسية والمالية عن الإدارة الأمريكيَّة. وفي حال نجاح أوروبا في تفعيل آلية SPV ستفيد إيران في التبادل المالي مع الشركات الأوروبيَّة الصغيرة والمتوسطة، وفي المقابل ستُحرَم إيران من مشاركة الشركات العالَمية واسعة الإمكانيات المادية والتقنية في التنمية الاقتصادية، ولن تستطيع العودة للاستثمار في إيران في ظلّ العقوبات الأمريكيَّة لارتباطها الأكبر بالسوق والمصالح الأمريكيَّة.
– بجانب هذه الخيارات الثلاثة توجد مجموعة واسعة من الأساليب والحيل الإيرانيَّة الهادفة إلى الالتفاف على العقوبات والتي تتغير باستمرار كلما كُشِفَت، لكن أغلبها -إن لم يكُن كلها- أكثر تكلفة على الفرد والاقتصاد الإيرانيّ في النهاية مقارنة باتباع الطرق المباشرة والقانونية.
وبعد استعراض ثلاثة سيناريوهات لمستقبل المقاومة الإيرانيَّة للعقوبات الأمريكيَّة، رأينا أن السيناريو المستقبلي الأقرب وفق الشواهد، هو مقاومة النِّظام الإيرانيّ للعقوبات الأمريكيَّة مؤقَّتًا بعد انتهاء الاستثناء الأمريكيّ لثماني دول من العقوبات النِّفْطية، ومع الوقت ستدفع الضغوط الاقتصادية والمجتمعية -كما هو موضح في ملحق الدراسة- النِّظام إلى فتح مجال الوساطة أو التفاوض المباشر مع أمريكا، وتقديم بعض التنازلات لرفع أو تخفيف العقوبات المصيرية اللازمة لبقائه، وستحدَّد مدة المقاومة المؤقتة بناءً على فاعلية الإجراءات الإيرانيَّة المضادة للعقوبات، وعلى درجة ثبات أو تغيُّر مواقف الحلفاء الداعمين لإيران.