باتت غالبية المكاسب التي يعتقد الإصلاحيون في إيران أنهم حققوها منذ عام 2013 في مهب الريح، وبات التيار يبحث عن إعادة تموضع داخل المشهد السياسي خشية أن يفقد حضوره السياسي بالكلية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر عقدهما على التوالي في 2020و2021، على غرار ما حدث في عام 2004 عندما صعد المتشددين إلى سدة السلطة، ولعل هذا ما دفع بعض أقطاب الإصلاحيين كفائزة رفسنجاني لتخلع الصفة الإصلاحية عن الرئيس روحاني، وتلوح في الوقت نفسه باحتمال مقاطعة الإصلاحيين للانتخابات القادمة، فضلًا عن انتقادات من قيادات إصلاحية أخرى للتيار المحافظ بالفساد والتدخل في عمل الحكومة لتخفيف حدة الضغوط على التيار الإصلاحي وانقاذه من مأزقه الراهن، في مواقف يبدو أنها محاولة من جانب الإصلاحيين للمفاصلة وإعادة التموضع في المشهد السياسي استعدادًا للاستحقاقات القادمة.
♦ أزمة شرعية
عبء روحاني وحكومته: واجه الإصلاحيون منذ بداية الفترة الرئاسة الثانية لروحاني ضغوطًا داخلية متزايدة، فتجربتهم في الحكومة لم تثمر عن أي جديد، فروحاني بوصفه مرشحًا للتيار – رغم عدم انتمائه له عمليًّا- فشل في القيام بإصلاحات حقيقية كان قد وعد بها ناخبيه والتيار الذي دعمه، بل أثبت عجزًا في مواجهة المؤسَّسات النافذة داخل النظام السياسي وتحديدًا الحرس الثوري الذي تزايد دوره الاقتصادي والخارجي، كما لم تتمكن حكومته من تنفيذ وعودها الاقتصادية التي روج لها بعد توقيع الاتفاق النووي، ودخل الاقتصاد في مرحلة ركود وأزمة هزت ثقة الشارع في الإصلاح والإصلاحيين، ناهيك عن أن روحاني قد فشل في معالجة قضية موسوي وكروبي، وكشف عن وجهه الأصولي الحقيقي بمجاراة سياسة المتشددين والخضوع لتوجهاتهم.
شعبية متآكلة: تأثرت مكانة التيار الإصلاحي ورموزه شعبيًا بالموقف الباهت من الاحتجاجات التي عمَّت إيران، إذ التزم التيار الصمت في البداية بل تبنَّت بعض رموزه مقولات التيار المتشدد نفسها من قبيل أنها جزء من مؤامرة ضد إيران، ناهيك عن أن المحافظين استغلوا هذه الاحتجاجات ووظفوها ضد الإصلاحيين وممثلهم في السلطة وممثليهم في الحكومة باعتبار أنهم المسؤولين عن تدهور الأوضاع بحكم وجودهم في السلطة، وجرى الحديث أن هذه الاحتجاجات وجدت دعمًا من أجنحة داخل النظام ومن مرشحين سابقين للتأثير على شعبية ومكانة الإصلاحيين.
بالمحصلة لم يجنِ التيار الإصلاحي خلال الفترة الأخيرة سوى فشلًا في الإنجاز مع أن ممثلا عنه كان على قمة الرئاسة فضلًا عن أنه مدعوم بصوت قوي في مجلس الشورى، ناهيك عن تراجع في الشعبية إلى حد بعيد على خلفية الأزمة الداخلية والخارجية اللتين وقفا حيالهما الإصلاحيون موقف المتفرج فيما آثارهما تضغط على معيشة كافة المواطنين.
♦ مفاصلة وإعادة تموضع
التبرؤ من روحاني: مع الوضع الصعب الذي بات عليه الإصلاحيون بدأت تظهر محاولات مفاصلة وإعادة تموضع داخل المشهد السياسي، إذ سعى الإصلاحيون للتبرؤ من روحاني، واُتِّهم بأنه بالأساس لم يكن إصلاحيًا ولا ممثلًا لهذا التيار، وطالبت صراحة القيادية الإصلاحية فائزة رفسنجاني روحاني بالخروج علنًا وإعلان تخليه عن انتمائه لتيار الإصلاحيين في البلاد، والانخراط بدلًا من ذلك في صفوف تيار الأصوليين.
تحميل التيار المحافظ المسؤولية عن الأزمة المعيشية: من جهة ثانية تصاعدت انتقادات الإصلاحيين للمحافظين القابضين فعليًّا على السلطة بوصفهم حجر عثرة أمام الإصلاح وأمام مواجهة الفساد، وفعليًّا خرج الإصلاحي المعروف والنائب الأول لرئيس الجمهورية جهانغيري ليرمي الكرة في ملعب المتشددين ويوجه رسالة ضمنية للرأي العام بالكشف عن صلاحية الحكومة المحدودة في إقرار الميزانية والمخصصات الإلزامية لبعض المؤسَّسات رُغمًا عن الحكومة أو دون موافقتها في محاولة لإعفاء تياره من المسؤولية ومحاولة إلصاقها بالمحافظين.
اتهامات بالفساد: تصاعدت الاتهامات بالفساد من جانب ممثلين عن الحكومة للمؤسسات التي يهيمن عليها المحافظون في النظام في محاولة لإلقاء المسؤولية على هذا التيار، وقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف إن «غسل الأموال حقيقة واقعة في إيران، ويُمارَس على نطاق واسع»، مضيفًا أن «أطرافًا داخلية تعارض تمرير قانون مكافحة تمويل الإرهاب بما في ذلك أجهزة تتفوق في ميزانيتها على وزارة الخارجية، وتؤدِّي أدوارًا أساسية بعملية غسل الأموال»، وهي تصريحات اعتبرها البعض تمهيدًا من ظريف لإعلان نفسه مرشحًا في الانتخابات الرئاسية القادمة مما عرضه لموجة عارمة من النقد.
مغازلة الشارع: ومن جهة أخرى وجهت رموز التيار انتقادات لاذعة للنظام ككل، وحاول التيار أن ينأى بنفسه عن المسؤولية إزاء سوء الإدارة وتدهور الأوضاع أمام المواطنين، وأنه يقف إلى جانب المطالب الشعبية، وضد السياسات الحالية، بل وجهت بعض الرموز الإصلاحية تحذيرات للنظام من مخاطر سياساته. وفي هذا السياق وجه حسن الخميني الداعم للتيار الإصلاحي تحذيرات للمرشد بقوله «لقد أصبحنا نبتعد يومًا بعد آخر عن البقاء في السلطة كما أن عدم التزامنا بالقواعد الأساسية ولّد حالة من الغضب الشعبي في إيران ضد النظام، وأصبحت الساحة تخرج من قبضتك».
البحث عن بدائل: بدأت تتردد بين الإصلاحيين بعض الأسماء لمن يمكن أن يكونوا مرشحين محتملين لهم في الانتخابات القادمة، بعض هذه الأسماء ينتمون إلى الأصوليين، ومنهم علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الذي يبدو أنه يحاول تقديم نفسه على أنه إصلاحي، ومحمد جواد ظريف وزير الخارجية، ووزير الاتصالات في حكومة روحاني محمد جواد آذرى جهرمي، وعزت الله ضرغامي الرئيس السابق للإذاعة والتلفزيون، والملاحظ أن التيار الإصلاحي نفسه غير قادر على تقديم شخصية على غرار محمد خاتمي.
التلويح بالمقاطعة لتخفيف الضغوط: تلمح بعض الرموز الإصلاحية إلى عدم المشاركة في الانتخابات القادمة في محاولة للضغط على النظام لتخفيف القيود على حركة التيار وأنشطة رموزه، أو التمهيد للدخول في صفقة تسمح له بالبقاء في المشهد السياسي خلال المرحلة المقبلة، خاصة أن المقاطعة بمثابة مغازلة شعبية ومحاولة للوقوف إلى صف الفئات المحتجة والمعارضة المتنامية ضد النظام وهو ما يقوي موقف الإصلاحيين في مواجهة التيار المحافظ ويعطيهم ورقة ضغط إضافية.
♦ إشكاليات وتحديات أمام التيار الإصلاحي
لا شك أنّ النظام الإيراني برمته يعاني من أزمة شرعية حقيقية، وليس هناك فرق في الواقع بين الإصلاحيين والمحافظين في ظل هذه الأزمة، فكلاهما محل انتقاد ومحل استياء شعبي سواء على مستوى الأداء أو الرموز والقيادات، وفيما يخص الإصلاحيين تحديدًا فعلى الرغم من الجهود التي تبذل لإعادة التموضع داخل النظام للخروج من المأزق الراهن قبل الاستحقاقات الانتخابية القادمة، غير أن التيار على ما يبدو يعاني من إشكاليات وضغوط كثيرة قد تؤثر على مركزه السياسي من أهمها:
– أزمة مؤسَّسية: تبدو ملامحها في ضعف الكيان المؤسسي للتيار ممثلًا في المجلس الأعلى لرسم سياسات التيار الإصلاحي، وريث مجلس شورى الإصلاحيين الذي تأسس عام 2013، الذي يرأسه حاليًّا محمد رضا عارف رئيس كتلة الإصلاحيين في البرلمان، إذ يعاني المجلس من المحسوبية والبيروقراطية والفساد وضعف المشاركة من جانب النشطاء، وغياب الإستراتيجية، والافتقاد إلى القيادة والرؤية؛ وقد دفع هذا الأداء بعض النشطاء للمطالبة بعملية إصلاح شاملة للمجلس لكن دون جدوى.
– خطاب متناقض: تتناقض شعارات الإصلاحيين مع سلوكهم وممارساتهم، ففي حين يرتبط الخطاب الإصلاحي الجماهيري بقضايا متعلقة بالحريات والحقوق ودعم المرأة والديمقراطية، وكذلك نقد ولاية الفقيه ودوره في الأزمة الراهنة التي تعاني منها إيران، لكن نجد أنه ينخرط مع هذا النظام في العملية السياسية ويظهر خضوعًا وانصياعًا للمؤسسات التي ينقضها، وبالتالي يبدو خطابه باهتًا ومتآكلًا ومتناقضًا إلى حد بعيد.
– فجوة شعبية: هناك فجوة بين الإصلاحيين والكتلة الشعبية الحرجة ولا سيما من الشباب، فالشارع ينبض بمعارضة النظام ويطالب بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، ويبحث عن عملية إصلاح واسعة، فيما يعمل الإصلاحيون في إطار الدور المحدد لهم داخل النظام، وقد عكست شعارات المحتجين خلال العام الماضي عدم الثقة الشعبية في أي من التيارات السياسية الإيرانية كالشعار الذي خرج في احتجاجات مطلع 2018: «الإصلاحيون والأصوليون.. انتهت اللعبة الآن!»؛ لهذا لا تعدو تحركات الإصلاحيين داخل النظام عن كونها حركات بهلوانية في سيرك السياسة الإيرانية، ومشاركتهم تضفي مزيدًا من الشرعية على النظام وتظهره بأنه يحترم التنافس والديمقراطية، ويبدو أن الشارع بات يدرك ذلك الدور الوظيفي وأصبح لا فرق لديه بين محافظ وإصلاحي في ظل ولاية الفقيه.
– هيمنة الخصم: تزايدت قبضة المتشددين مع تفاقم الأزمة الداخلية والخارجية الراهنة، وأحكموا قبضتهم على الرئيس وحكومته، وتمكنوا من توجيه دفة السياسة نحو مسار داخلي وخارجي محدد، وبات الخروج عن هذا المسار بمثابة خروج على الدولة وتهديد لأمنها باعتبار أن هناك مؤامرة تستهدف إيران، ولا شك أن هذا الوضع يقيد ويحد من هامش حركة الإصلاحيين وسيكونون أكثر تحفظًا في التعامل مع الموقف، ولا سيما أن رد فعل النظام ربما تكون قاسية تجاه أي تحرك خارج المسموح به.
– حرق البدائل: يوظف المتشددون الأدوات السلطوية والقدرات المادية والإعلامية لحرق البدائل الإصلاحية، وهذا ما ظهر عندما تم الحديث عن استجواب ظريف بعدما بدت أقاويل حول عزمه الترشح للرئاسة، كما واجه رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني من قبل الموقف ذاته عندما تردد اسمه بين الإصلاحيين كمرشح محتمل، ويقود هذه الحملة الأقطاب الأكثر تشددًا في النظام، بقيادة قاليباف ورئيسي اللذين يتزعما إلى جانب آخرين ائتلافًا لإعادة التيار المتشدد إلى سدة السلطة في 2020 و2021، وتجد رموز هذا التيار المتشدد دعمًا وحرية حركة فيما يتعلق بالتنظيم وبناء التحالفات مع دعم مادي ومعنوي وتأييد من المؤسَّسات القوية داخل النظام.
– الضغوط الخارجية وتعزيز مكانة المتشددين: مع دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، حمَّل المتشددون الإصلاحيون المسؤولية باعتبار أن الانفتاح على الولايات المتحدة والغرب هو رهانهم، وبعدما اتجهت الأوضاع الداخلية نحو مزيد من التفاقم، عزز المتشددون مكانتهم داخل النظام، وأصبحوا المتحكمين الأساسيين في المشهد السياسي وضمنه السياسة الخارجية، بل تعززت مكانة الحرس الثوري الذي سيكون لديه مسؤولية في ظل العقوبات والضغوط الخارجية على النظام.
♦ الخروج من المأزق.. أي خيار؟
بناء على ما سبق يمكن القول إنه في حالة استمرار الأوضاع الداخلية في إيران على ما هي عليه دون تغيير كبير نتيجة ضغوط خارجية أو داخلية أو تغيير سياسي مفاجئ على غرار غياب خامنئي عن المشهد السياسي وما قد يتبعه ذلك من إعادة هيكلة السياسة والنظام في إيران وفق إرادة الحرس الثوري الأكثر جاهزية للتأثير السياسي في المرحلة الراهنة، فإنه من الواضح أن مستقبل الإصلاحيين بات بين احتمالين:
الأول: الإقصاء الكامل وصعود المتشددين
وفي هذه الحالة سيواجه الإصلاحيون أزمة حقيقية، ربما لا تقل عن الأزمة التي مر بها التيار خلال فترة أحمدي نجاد بين عامي 2004و2013، يرشح حدوث هذا الاحتمال التحديات الراهنة التي تواجه هذا التيار، وتحمِّله لأوزار روحاني الأصولي، وابتعاد التيار عن الشارع فضلًا عن الأزمات الهيكلية والمؤسَّسية التي يعاني منها.
الثاني: الحفاظ على دورٍ بجوار السلطة
من أجل البقاء في المشهد السياسي وفي ظل العجز عن تقديم بديل إصلاحي على غرار الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ومن أجل تجنب خسارة كبيرة قد يلجأ الإصلاحيون إلى تقديم الدعم والرهان على مرشح أصولي على غرار لاريجاني أو ظريف أو غيرهما، وربما يكون ذلك ضمن معادلة سياسية يتوافق فيها الإصلاحيون والمتشددون من أجل امتصاص حالة الغضب الشعبي، وتوحيد الجبهة الداخلية ضد الضغوط الخارجية، ولا سيما أن النظام لن يضره هذا الخيار في شيء.
وفي الأخير يمكن القول إن التيار الإصلاحي هو الحلقة الأضعف بين التيارات التي تدين بولاية الفقيه في إيران، إذ يبقى الإصلاحيون على هامش السياسة الرسمية الإيرانية على أي حال، فهم يقدمون دعمًا مجانيًا للنظام السلطوي، ويؤدون دورًا في تهدئة غضب الإيرانيين من وقت لآخر حسب الضرورة، إذ إن كافة الأخطاء والخطايا يرتكبها المحافظون في حين أنّ الإصلاحيين هم كبش الفداء المُعد مسبقًا من انتخابات لأخرى لاستمرار ولاية الفقيه وإنقاذ نظامه من مآزقه المتتالية.