يعد 2018 عام الأزمات في إيران؛ لما شهده من ضغوط وتحدّيات على الأصعدة كافة، الداخلية والإقليمية والدولية، فبمطلع العام ضربت البلاد احتجاجات واسعة النطاق، شملت 80 مدينة وقرية، تحت شعار «لا للغلاء» وتطوّرت الشعارات لتنادي بسقوط النظام، ونظرية ولاية الفقيه برمتها.
ففي الصعيد الداخلي، وبالرغم من سيطرة النظام على هذه الانتفاضة، لكن بسبب فشله في معالجة جذور الأزمة، انفجرت احتجاجات فئوية مستمرة، كان أبرزها تلك التي نظمها سائقو الشاحنات، وعمال مصانع القصب في الأحواز، إضافة إلى احتجاجات العمال والطلبة والمعلمين والتجار، ناهيك عن الاحتجاجات والحركات الحقوقية والسياسية التي ضاقت من القيود التي يفرضها النظام على المجال العام.
وتفاقمت حالة عدم الاستقرار الداخلي بتزايد وتيرة العنف في المناطق التي تقطنها الأقليات، ولا سيما في المناطق الكردية والأحواز ومناطق البلوش على الحدود الجنوبية الشرقية، إذ قامت الجماعات الانفصالية المسلحة باستهداف عناصر الجيش والحرس الثوري الإيراني، مما ألحق بها خسائر كبيرة.
مع الأزمة الداخلية متعددة الأبعاد التي بات النظام يعاني منها، تصاعدت انتقادات حادة من داخل النظام تُحذّر من خطورة استمرار السياسات ذاتها، ويمثل هذا الاتجاه حسن الخميني، بجانب تيار آخر يوظف الأزمة من أجل تأهيل نفسه للاستحقاقات الانتخابية القادمة، ويمثّل هذا الاتجاه الإصلاحية فائزة رفسنجاني التي حذّرت من سقوط النظام، ولم ينتهِ العام إلا وقد ألقى بمزيد من الضبابية على مستقبل النظام برحيل المرشح الأول لخليفة المرشد، وهو آية الله محمود هاشمي شاهرودي.
أما إقليميًّا: تزايدت معدلات توتر علاقة إيران بدول جوارها الإقليمي، كما تعرّضت لضغوط كبيرة في عددٍ من الساحات الإقليمية، فتحالف دعم الشرعية بقيادة سعودية نجح في تحقيق انتصارات على الساحة اليمنية، التي تقلّص معها حضور إيران، سواء في اليمن أو في منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وأسفرت الجهود على الساحة العراقية في تقليص حصة إيران ونفوذها، وفرضت مزاحمة النفوذ العربي لإيران تحديات حقيقية أمام مستقبل تأثيرها في سوريا، وتعرضت الدبلوماسية الإيرانية لانتكاسة كبيرة بإعلان عدد من الدول قطع علاقاتها مع إيران، كالمغرب والتوتر في العلاقة مع الجزائر وموريتانيا وبعض الدول الإفريقية، لتضاف هذه الدول إلى قائمة طويلة من الدول التي قطعت أو خفّضت العلاقات الدبلوماسية مع طهران.
على الصعيد الدولي: قوّضت الولايات المتحدة إلى حدٍّ بعيدٍ الاتفاق النووي، وبنهاية العام كانت الولايات المتحدة قد أعادت العمل بكافة العقوبات، وأضافت عقوبات جديدة، ونتيجة لسياسة إدارة ترامب هربت غالبية الاستثمارات الخارجية المؤثرة من إيران، وأوقفت غالبية الدول أنشطتها وتعاونها؛ خشية العقوبات الأمريكية، مما ألحق أضرارا مضاعفة بالاقتصاد، وعلى الرغم من الموقف الأوروبي من الإبقاء على الاتفاق النووي، لكن العلاقة بينهما متوترة، فألمانيا وفرنسا وبريطانيا بصدد دراسة فرض عقوبات أوروبية جديدة على إيران بسبب برنامج الصورايخ الباليستية، إضافة إلى التوتر الناجم عن تورّط دبلوماسيين تابعين للنظام الإيراني في محاولة استهداف تجمع للمعارضة الإيرانية في باريس، واتهامات بالتجسس، ومخالفة الأعراف الدبلوماسية التي طردت بسببها ألبانيا السفير الإيراني وبعض الدبلوماسيين الإيرانيين.
في مقابل هذه الأزمات نجح النظام في تحقيق بعض النجاحات، إذ استمرت بعض الشركات الصغيرة وغير المرتبطة بالسوق الأمريكية في نشاطها بإيران، كما أتاحت الاستثناءات الأمريكية التي منحتها لثمان دول باستيراد حصص من النفط الإيراني لمدة ستة أشهر فرصة للإفلات من تصفير صادرات النفط، كما حصلت إيران على حكم من محكمة العدل الدولية ضد العقوبات الأمريكية، وهذه النجاحات تبدو مؤقتة أو غير مؤثرة أو رمزية.
بحلول عام 2019 يبدو على الأرجح أن النظام سيعاني ضغوطًا متزايدة، خاصة بعدما تقلّصت الميزانية الجديدة لعام 2020/2019 بمعدل يقارب 50% قياسًا بسعر العملة الحر، وكشفت بنودها عن سياسة تقشفية في القطاعات الخدمية، بينما تزايدت حصة المؤسَّسات الموازية، وذلك مقارنة بالعام السابق، هذا في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وصل في بعض المناطق إلى قرابة 44%، وزيادة في معدلات التضخم العام 39% وارتفاع المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، لتصل وِفقًا لتصريحات رسمية إلى 50%.
وتزايد معدلات البطالة بين الجامعيين، وهو بلا شكٍّ ما سيزيد غليان الشارع، ويفرض ضغوطًا على النظام، ولا شك ستمنح حالة الاستياء العام من تدهور الأوضاع الاقتصادية فرصة للمعارضة والقوى الوطنية والنشطاء الحقوقيين والحركات النسوية، لدمج مطالبها لممارسة مزيد من الضغوط على النظام.
من جهة ثانية أصبح النظام يقع أكثر فأكثر تحت تأثير الحرس الثوري، بعد فشل روحاني وتراجع شعبيته، وتقويض الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران، وخلو المشهد من القيادات الدينية والسياسية المؤثرة بعد رحيل شاهرودي، آخر الشخصيات الدينية المهمة المرتبطة بالثورة، بل ستتعزز مكانة الحرس؛ لأن دوره مهم في ظل الأزمة الداخلية والخارجية التي يعاني منها النظام، وسيزداد هذا الدور تمكينًا، إذ سيعوّل عليه بصورة أساسية في السيطرة على الأوضاع في الداخل، كما سيعوّل عليه في مخططات التغلب على العقوبات، ولا سيما العقوبات النفطية والعقوبات على القطاع المالي، وهذا سيمدّد من دوره ليس على حساب الإصلاحيين فحسب، بل وعلى حساب الأصوليين كذلك، وفي حالة وفاة خامنئي الذي يعاني من مشاكل صحية حقيقية، فإن الحرس الثوري قد يسارع إلى ملء الفراغ السياسي، والقفز إلى السلطة عبر انقلاب عسكري ناعم، يُجرى من خلاله إبراز شخصية دينية لخلافة خامنئي يقود الحرس الثوري من الخلف.
على صعيد آخر، ونظرا لتوجهات الحرس الراديكالية، فإن الأزمات الإقليمية مرشحة للتفاقم، وبخاصة في رفع ميزانية الحرس الثوري المتزايدة، إذ يعوّل النظام الإيراني على نفوذه في الإقليم كورقة ضغط من أجل مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومن ثمَّ قد يزيد من استثماراته في حروب الوكالة عبر ميليشياته، لإرباك المشهد، وبقاء معركته خارج الحدود.
لكن بمرور الوقت، وكما فقد مشروع إيران الإقليمي مشروعيته في الداخل تحت شعار «لا سوريا ولا لبنان روحي فداء لإيران.. واتركوا سوريا واهتموا بأمورنا» فإنه مرشح ليفقد مبررات بقائه على المسرح الإقليمي، إذ تُجرى جهود دولية وعربية لاستعادة الاستقرار في دول المنطقة، كما أن خطر داعش تقلّص إلى حدٍّ بعيدٍ، والدولة في العراق وسوريا واليمن بصدد استعادة قوتها وسيطرتها، والمملكة العربية السعودية وحلفاؤها بصدد بناء شبكة أمن إقليمي متعددة وواسعة، تشمل المجالات الحيوية العربية الرئيسة، ناهيك عن أن الضغوط الداخلية قد تدفع النظام الإيراني لتقديم تنازلات إقليمية؛ ليخرج النظام من أزمته.
أما على الصعيد الدولي: يمكن القول أن عام 2019 سيكون اختبارًا مهمًا لإستراتيجية الضغوط القصوى التي تنتهجها إدارة ترامب، ورغم ما يبدو من مكاسب ستجنيها إيران من الانسحاب الأمريكي من سوريا أو حتى أفغانستان، غير أن رهان ترامب على تعديل سلوك إيران مرتبط بصورة أساسية بمستقبله السياسي، وتحدي إيران لإستراتيجيته سيكون أمرًا مصيريًا بالنسبة له، وبالتالي وإن كانت انسحاباته تلك مرتبطة بعقيدته حول تقليص الانتشار العسكري الأمريكي في الخارج، لكن ضمن عقيدته أيضًا عدم استبعاد التدخل في حالات الضرورة، ولا سيما أن الوجود الأمريكي لا يزال مؤثرًا في العراق والمنطقة بشكل عام، وأعداد الجنود الأمريكيين القريبين من الحدود الإيرانية تتزايد بشكلٍ ملحوظٍ.
وعموما بحلول مارس المقبل، ستكون سياسة إدارة ترامب قد كشفت عن موقفها من الاستثناءات المتعلقة بصادرات النفط الإيراني، وهو ما سيكون له موقف مؤثر على تفاقم كافة الأزمات الداخلية والخارجية أمام النظام الإيراني، الذي بدوره يدير الأزمة ولا يواجهها، معوّلًا على عامل الوقت وصولًا إلى عام 2020، آملًا في إدارة أمريكية جديدة بتوجهات مختلفة، باعتبار أن الولايات المتحدة سبب الأزمة، مع أن حفيد الخميني يرى أن جوهر الأزمة في الداخل وليس في الخارج، كما يراها الشعب أيضًا الذي يهتف «عدونا هنا وليس الولايات المتحدة».
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد