تجاوزت العلاقات الروسية-الإيرانية مرحلة التباعد السياسي في المواقف والتنافس على تقاسم النفوذ وصولًا إلى اتساع دائرة الاشتباكات المسلحة ومزيد من التصعيد الروسي ضدّ إيران في سوريا، وبشكل متكرر في مناطق سورية متفرقة، وذلك في سياق الصراع على نطاق النفوذ الأكبر واليد الطولى في المعادلة السورية الجديدة، في وقت تتعرض فيه إيران لموجة حصار أمريكية مكثَّفة وغير مسبوقة.
بدايةً، لم تأتِ الجولات المكوكية للمسؤولين الروس والإيرانيين إلى دمشق خلال الأسابيع القليلة الماضية اعتباطًا، بل شكّلَت سباقًا محمومًا لاستقطاب الرئيس السوري بشار الأسد وتحذيره من مغبَّة الرضوخ للطرف الآخر في سياق التنافس على تقاسم النفوذ في سوريا، ولكن يبدو أن الضغوط الروسية على الرئيس الأسد كانت قاسية لإنجاز الهدف التالي المتمثل في تقليم أظافر إيران بعد انتهاء الهدف الأول المتمثل في بقاء الأسد، في وقت تُجري فيه دمشق إعادة هيكلة شاملة لمؤسساتها العسكرية.
في غمار عملية إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية السورية ضغط الروس على الأسد لاستبعاد المقاتلين الموالين لإيران، إذ أيقنت موسكو أن جميع إنجازاتها في سوريا ستصبّ في صالح إيران إذا ما سارعت نحو استبعاد هؤلاء المقاتلين، وذلك لعدم امتلاك موسكو قوات برية على الأرض السورية، ولعدم الحاجة إلى وجود إيراني كثيف في سوريا بعد حسم الصراع في الجبهات الساخنة لصالح الأسد، ومِن ثَمَّ أصبح ملف إخراج الميليشيات الإيرانية في سوريا مطروحًا بقوة على الطاولة الروسية.
يتمثل المؤشر الأول للاستهداف الروسي لإيران في سوريا في الضغط على الأسد بإعادة هيكلة الفرقة الرابعة بالجيش السوري بقيادة حليف إيران الأول في سوريا ماهر الأسد، شقيق بشار، لغير صالح إيران، بهدف توحيد الولاءات في يد موسكو بما يضمن كسر شوكة ماهر الأسد، إذ تُعَدّ الفرقة الرابعة من أكثر الفرق السورية تجهيزًا وتسليحًا، وتجذُّرًا في مناطق ومفاصل الدولة السورية، والأكثر قربًا من إيران بحكم تكوينها الطائفي، لذلك ارتكزت عليها إيران بشكل رئيسي في استهداف المعارضة السورية منذ بداية الأزمة مطلع عام 2011.
فقد انزعجت روسيا من تنامي سيطرة الفرقة الرابعة على الواقع الميداني بشكل يتعارض وقدرة الروس على فرض الرؤى الاستراتيجية بما يعظّم المصالح الروسية، لذلك كثّف الروس ضغوطهم على الأسد منذ مطلع عام 2019 لإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية الخاضعة للفرقة الرابعة كهيئة الأركان العامة وشعبة التنظيم والإدارة بالإضافة إلى قيادة الأمن العسكري الأكثر ولاءً لإيران في سوريا، وإلغاء قوات الدفاع الوطني الموالية لإيران بالمضي في تنفيذ قرار يونيو 2018 بسحب صلاحياتها ومصادرة أسلحتها.
ويتمثل المؤشر الثاني في ضغط الروس على دمشق لعزل وتسريح مئات الضباط المحسوبين على ماهر الأسد، وإحالة أكثر من 600 ضابط من الضباط المواليين لماهر الأسد للتحقيق، مقابل تعيين ضباطًا أكثر ولاءً لروسيا لإعداد جيش جديد يأتمر بأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والسيطرة على معسكرات التدريب والتطوُّع السورية وإنشاء فيالق عسكرية جديدة تحت قيادة ضباط موالين لروسيا في دمشق.
ويدور المؤشر الثالث في استحداث روسيا معتقلات إضافية تابعة للسجون السورية لتوقيف ومعاقبة مقاتلي الميليشيات الإيرانية المخالفة للأوامر الروسية، فقد كشف الخبير العسكري والاستراتيجي السوري العميد أحمد رحال في 29 أبريل 2019 على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي «تويتر» عن خبر مفاده أن قريتي المختارية والكم الشيعيتين في محافظة حمص شهدتا خلال شهر أبريل 2019 عمليات دهم واعتقال نفذتها قوات موالية لروسيا بحق عناصر حزب الله اللبناني في سوريا، مما أسفر عن اعتقال 12 من عناصر الحزب.
أما المؤشر الرابع، والأهم، فيتمثل في تجدُّد اندلاع المواجهات المسلحة بين القوات الموالية للروس والإيرانيين في سوريا، فلم يمر سوى ثلاثة أشهر على الجولة السابقة من المواجهات قبل نهاية يناير 2019 في منطقة الغاب بحماة، حتى تكررت المواجهات في منتصف أبريل 2019، واستمرت لـ7 أيام، ووصلت إلى حد استخدام الأسلحة الثقيلة في مناطق متفرقة في سوريا منها محور الراشدين وحيّ الخالدية وحيّ النيل، وفي درعا وريف حماة والحسكة ودير الزور وحلب، مما أسفر عن مقتل 12 شخصًا، ومقتل اثنين من الحرس الثوري الإيراني بدير الزور.
من الواضح أن موسكو تتحرك على مسارين لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا: الأول بناء جسم عسكري قوي موالٍ للروس لتأمين مناطق النفوذ الروسية من خلال شراء ولاءات الضباط المتنفذين في الجيش السوري. والثاني إضعاف الميليشيات والفيالق الموالية لإيران من خلال تكثيف الضغوط على الأسد لتفكيك المليشيات غير المنضوية تحت لواء الجيش السوري، وطردهم من مناطق تمركزات القوات الموالية لروسيا، وأكبر مثال على ذلك طرد قائد الفرقة الخامسة السورية سهيل الحسن الموالية للروس، قوات الفرقة الرابعة الموالية لإيران من منطقة سهل الغاب.
ارتفع معدَّل التصعيد الروسي ضدّ إيران في سوريا لعدة دوافع، يأتي في مقدمتها إدراك الروس أهمية اللحظة التاريخية التي تمرّ فيها إيران بضغوط أمريكية مكثفة وعقوبات اقتصادية قاسية، فضلاً عن تصنيف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الحرس الثوري الإيراني منظمةً إرهابيةً ضمن استراتيجية أمريكية تهدف إلى تعديل سلوك النظام الإيراني والحد من نشاطاته الإقليمية، وهو ما أتاح لروسيا فرصة وظفتها لتتضيق الدائرة على الميليشيات كافة الموالية لإيران في سوريا، ولسان حال الروس أن على إيران الاستجابة للأوامر الروسية بسحب ميليشياتها، مع التلويح بأن الروس يستهدفون تنظيمات إرهابية موالية لإيران عسكريين كانوا أو مستشارين كما يردّد الإيرانيون ليل نهار في أبواقهم الإعلامية.
كذلك يُعَدّ تنامي التنسيق الروسي-الإسرائيلي بعيدًا عن إيران في وقت لم تعُـد فيه روسـيا بحاجـة إلى الوجـود العسكري الإيراني الكثيف في المحافظات السورية من أبرز أسباب ارتفاع معدَّل التصعيد الروسي ضدّ إيران في سوريا، فمن غير المنطقي أبدًا تصوُّر تجرُّؤ الإسرائيليين على اختراق الأجواء السورية وضرب المقرات الإيرانية في سوريا دون تنسيق مسبق مع الروس، بما يعني أن موسكو باتت تأخذ الأمن القومي الإسرائيلي في سوريا بعين الاعتبار.
اتسعت هُوَّة التباينات بين موسكو وطهران بانتفاء المصالح المشتركة المتمثلة في الحفاظ على نظام الأسد ودرء مخاطر المعارضة وداعش، إذ إن مصالح إيران في سوريا تتعارض مع نظيرتها الروسية، ففيما تعمل طهران على إعادة تموضع ميليشياتها في المناطق كافة المسترَدَّة من داعش والمعارضة، تعمل روسيا على الحَدّ من النفوذ الإيراني ضمن استراتيجية مغايرة عن الاستراتيجية الإيرانية، وهو ما يفسِّر الافتراق الروسي-الإيراني على شكل الدولة السورية الجديدة، ففيما يفضِّل الروس تقوية النظام وإعادة بناء الدولة، يعمل الإيرانيون لاستمرارية بقاء النظام ضعيفًا تابعًا لإيران لاستكمال تنفيذ مخططاتها، فضلاً عن الافتراق حول سبل تقاسم الموارد وعقود إعادة الإعمار.
عززت المساعي الروسية -أيضًا- للتحرك ضدّ النفوذ الإيراني في سوريا تأكيد أوساط إعلامية موافقة الأسد أثناء زيارته إيران في فبراير 2019 على تأجير مرفأ اللاذقية لإيران بداية من شهر أكتوبر 2019، وهو ما يُعَدّ حال تنفيذه نجاحًا لإيران في الحصول على موطئ قدم على البحر المتوسط، واعتبرته روسيا زحامًا إيرانيًا للنفوذ الروسي شرق المتوسط.
يبدو مما سبق أن روسيا عازمة على الخطوة التالية في سوريا، وهي تحجيم الدور الإيراني هناك بما لا يجعل إيران رقمًا معرقلاً للمصالح الروسية، وهو ما يعني أن مصير ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة بات محسومًا لدى موسكو بأن لا يكون له وفرقته مستقبل في سوريا الجديدة، ولكن دموية ماهر الأسد قد تزيد الاشتباكات والمواجهات مع القوات الموالية لروسيا.
وعلى هذا النحو يمكن القول بأن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو سيناريو تصاعد وتيرة الاشتباكات بين القوات الموالية للروس والإيرانيين في كل مناطق سوريا، إذ إن روسيا التي استفادت من لحظة الضغوط الأمريكية المكثفة على إيران تعمل على فصل مناطق نفوذها عن مناطق نفوذ إيران، تمهيدًا لفصل طويل من المواجهات مع القوات الموالية لإيران، بخاصة مع التمسك الإيراني بالحصول على موطئ قدم على البحر المتوسط، وتمسُّك الروس بضرورة إنجاز الخطوة التالية المتمثلة في تقليم أظافر إيران في سوريا وتحويلها إلى منطقة نفوذ روسية شبة خالصة في وقت التقت فيه المصالح الإسرائيلية والأمريكية والروسية على ضرورة إخراج إيران من سوريا.