تنضوي الرؤية الصينية لإيران ضمن رؤيتها الشاملة لمصالحها في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ فمنذ مشاركتها في مؤتمر باندونغ 1956م، لا تزال تتمسّك بسياستها الخارجية المبنية على «المبادئ الخمسة للتعايش السلمي» وهي: عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، المساواة والمنفعة المتبادلة، التعايش السلمي، احترام سيادة الدول، وحلّ النزاعات بالطرق السلمية. وبعد أن أدرجت الصين هذه المبادئ بصورةٍ رسمية في دستورها، خدمتها زمنًا طويلًا في تحقيق مصالحها الاقتصادية.
وعند النظر إلى إعادة ترتيب توازن القوى الدولية بمحاولات إيران استقطاب حلفاء إستراتيجيين، نجد أنّ الأمر لا يخدم الطموح الإيراني وحده، وإنّما يخدم كذلك أشواق الصين التي جاهدت من أجل أن تكون دولةً مركزيةً في الشرق. ولكن هذا الطموح يحدّه سقفٌ يستمدُّ صلابته من وضع الدولتين في خضم تموّجات العلاقات وحجم تأثيرهما، كلٌّ على حده. ففي مشوار بحثها عن تحالفاتٍ في شرق آسيا، جاء التحرك الإيراني صوب الصين بسبب حاجة إيران لكسر العزلة الدولية التي فرضها عليها الغرب في ظلِّ نفورٍ واضحٍ بينها وبين الدول في منطقتها. واستطاعت الصين نيل الثقة الإيرانية، كبديلٍ عن دول شرق آسيا الأخرى المنافسة لها، لأنّها الوحيدة من بين هذه الدول تُبرز المقاومة ضد الضغوط الأمريكية، بل إنّ هذه الدول تعوّل على الولايات المتحدة من أجل احتواء الصين كقوةٍ ناشئةٍ قد يمتد تأثيرها إليها.
تلتقي هذه الملاحظات مع مباديء تحرّك السياسة الخارجية للصين التي درجت على تأسيس علاقاتٍ قويّةٍ مع الدول المُنتجة للنِّفط والغاز، حتى تلك التي شملتها العقوبات الأمريكية، كـإيران والسودان. بذلت إيران جهودًا كبيرةً مع دولٍ يتوافر لديها البُعد التاريخي والإستراتيجي للعلاقة، ولكن علاقة إيران مع الصين بالرغم من تباين مواقفهما ومدّها وجزرها، فهي تصطدم بالصخرةِ الأمريكية فيما يتعلّق بوجهات النظر.
أما الباعث على التحرّك نحو الصين بشكلٍ حاسمٍ فقد جاء بتوجيه المرشد الإيراني علي خامنئي، حين أعلن في (فبراير 2019م): «أنّه في السياسة الخارجية، أولوياتنا اليوم تتضمن تفضيل الشرق على الغرب». واللافت هنا أنّ هذا التوجيه يناقض أقوى شعارات الثورة الإيرانية للخميني عام 1979م «لا شرق ولا غرب»، ويعني ذلك الشعار عدم المفاضلة بين الولايات المتحدة الرأسمالية أو الاتحاد السوفيتي الشيوعي. ومع أنّ الخميني لم يكن يعني الصين تحديدًا إلّا أنّ أيديولوجيتها مثّلت حاجزًا بين العلاقات. ولكن فيما بعد ونسبةً للاختلاف بين الصين والاتحاد السوفيتي، وتكوين الصين لما أسمته «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، ثم زوال الشيوعية نفسها؛ فقد خفّف ذلك من الأعباء الأيديولوجية واستمسك الحزب الحاكم في الصين باعتماد شرعيته على النمو الاقتصادي وقومية الهان الإثنية التي تمثّل حوالي 92% من مجموع 56 قومية أخرى حكمت حوالي 400 عامًا. ولذا نجد أنّ إيران لا تركّز على شيوعية الصين رغم وقوفهما أيديولوجيًّا على طرفي نقيض. وإلى ذلك فإنّ إيران بخلفيتها وواجهتها الإسلامية تسعى إلى التأكيد ولو من طرفٍ خفيٍّ على أنّ علاقتها مع الصين تقع في ظلِّ عولمةٍ شرقيةٍ بديلة يمكن أن تتحدّى بها العولمة الغربية.
قد يكون تصريح خامنئي أكثر تحفظًّا مما قاله دينغ شياو بينغ قائد الانفتاح الصيني في نهاية سبعينيات القرن الماضي: «لا يهمُّ لون القط إذا كان أسود أو أبيض، فطالما يصطاد فئرانًا فهو قطٌّ جيّد»، إلّا أنّه يلاقيه في أحد وجوه البراغماتية التي اعتنقتها إيران في درب التنازل عن أيديولوجيتها التي تناقض الشيوعية عمومًا بما فيها «الشيوعية ذات الخصائص الصينية».
لعب الاقتصاد الصيني لفترةٍ طويلةٍ دورًا تكامليًّا مع الاقتصاد الإيراني، لدرجة أن أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإيران، بعد الإمارات العربية المتحدة. فعلى مدار العقد الماضي، استثمرت الشركات الصينية أكثر من 5 مليارات دولار في تحسين البنية التحتية لتكرير الغاز والنِّفط الإيراني، وفي مشاريع تنموية أخرى. كما شهد حجم التجارة بين الجانبين نمواً هائلاً، من 1,6 مليار دولار في الثمانينيات إلى 15 مليار دولار في عام 2007م، وحوالي 45 مليار دولار في ( 2014-2015م)، ثم بلغت قيمته عام 2018م حوالي 33,39 مليار دولار.
وبالرغم من ذلك إلّا أنّه بسبب المراهنات والمزايدات بين القوى الاقتصادية الثلاث أمريكا والصين وروسيا، استطاع الاقتصاد الإيراني أن يستمر بشكلٍ نسبيّ. وعلى الرغم من أنّ الاقتصاد الإيراني تأثّر بشكلٍ كبيرٍ بالعقوبات إلّا أنّه لم ينهار، فقد كان بإمكان العقوبات الأمريكية إقعاده جملةً واحدةً لولا سياسة الإنعاش الصينية التي تمارسها بين حينٍ وآخر. ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الصين مغلولة اليد، فهي لا تستطيع تجاهل مصالحها الاقتصادية مع الولايات المتحدة إذ يبلغ حجم المبادلات التجارية بينهما 600 مليار دولار، قرابة 500 مليار دولار منها صادرات صينية إلى الولايات المتحدة.
وبالرغم من مصالحها الإستراتيجية مع إيران، إلّا أنّ حسابات الربح والخسارة تجعل الصين تعيد تقييم أولوياتها، ليجيء الالتفاف على العقوبات كمحاولةٍ لتليين المواقف في الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين. بإمكان الولايات المتحدة استخدام نفوذها على الصين لإيقاف تعاونها مع إيران سواءً بفرض عقوباتٍ على الشركات الصينية أو إثارة المواضيع المتعلقة بالملكية الفكرية، ولكنها تعمل على اقناع الصين بتقليل حجم تعاونها مع إيران، وليس أكثر من ذلك. وبعد أشهرٍ من تحدّي الصين العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على استيراد النِّفط الإيراني، تعتزم الصين الانضمام للتحالف الأمني البحري استجابةً للمقترح الأمريكي بمرافقة سفنٍ بحريةٍ حربيةٍ لناقلات النّفط والسفن التجارية الصينية في مياه الخليج.
وهذا يبدو لأنّ الولايات المتحدة تنظر بالإضافة إلى مصالحها التجارية، كذلك إلى الثغرة المفتوحة في بحر الصين الجنوبي ما يرغمها على التعاون مع بكين، لئلا يؤدّي الضغط عليها إلى توتّراتٍ في المضايق التي تُسيطر عليها الصين. وهذا ما يفسّر عدم استجابة الصين السريعة بالإضافة إلى مسألةٍ أخرى تتعلّق بالدبلوماسية الصينية التي تتخذ دائمًا موقفًا آمنًا أثناء الأزمات الدولية. حيث يتراجع اهتمامها بها لصالح شؤونها الداخلية، وعلى رأسها التنمية الاقتصادية وهو أمرٌ يجعلها لا تشعر بالراحة للتدخل في الشأن الدولي. ولا تكون الدبلوماسية الصينية حاسمة إلّا عندما يتعلّق الأمر بالمصالح الصينية الوطنية المباشرة مثل القضايا المتعلقة بالمناطق ذاتية الحكم مثل التبت، إقليم شينجيانغ، وتايوان، أو ما يتعلّق بقضية حقوق الإنسان في الصين، أو النزاعات الإقليمية البحرية في المياه الإقليمية المحيطة بها.
أما التعاون العسكري بين الصين وإيران، فقد كانت الصين المزوّد الرئيسي للأسلحة لإيران منذ عام 1986م، إذ شملت إمدادات الصين من الأسلحة صواريخ مضادة للسفن من نوع ( HY-2)، كما لعبت دورًا فعّالًا في برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية بتوفير التقنيات والتصاميم اللازمة. بالإضافة إلى توقيع الجانبين اتفاقية التعاون العسكري في ( 14 نوفمبر 2016م)، تعهدا فيها بـ «تعاونٍ أوثق في المجال العسكري ومكافحة الإرهاب».
تنوّع التعاون بين المنح العسكرية وبيع الأسلحة الصينية لإيران، والتدريب والمساعدة في إنشاء مصانع لإنتاج الأسلحة. يتميّز هذا التعاون بالغموض وعدم الشفافية فيما يتعلّق بالجهد العسكري نفسه وهو أمرٌ مفهوم في الأنشطة العسكرية، على أنّ التعاون العسكري بين الصين وإيران ومسألة تصدير الأسلحة والمعدّات العسكرية مسألةٌ تجاريةٌ بحتة، كما تندرج صفقات الأسلحة والمعدات العسكرية الصينية في الكثير من الأحيان ضمن إطار صفقاتٍ متكافئةٍ مع دول أخرى، تُقدّم الصين بموجبها السلاح مقابل النِّفط أو المواد الخام، وفي حالات قليلة تتم نقدًا.
يمكن قراءة خطوة المشاركة العسكرية الصينية في التحالف البحري الأمريكي في الخليج العربي كفرصةٍ للصين لتقديم دعمٍ من خلال قوة متعدّدة الجنسيات لتأمين الناقلات النفطية، ولكن قد لا تذهب الصين إلى أبعد من المشاركة التي ستستفيد منها في استعراض قوتها العسكرية العظمى، وذلك لعدة عوامل:
أولًا: تركّز الإستراتيجية الصينية على المبدأ التوجيهي «الدفاع النشط»، وهو مفهومٌ نابعٌ من جوهر الفكر الإستراتيجى العسكري للحزب الشيوعي الصيني الموروث من المفكّر الصيني العسكري «صن تزو» وجاءت في كتابه «فنّ الحرب» منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وتتسم قواعده بالديناميكية والتطور المستمر في أساليب تطبيقها. يتلخص المفهوم فى: «التمسك بوحدة الدفاع الإستراتيجى والهجوم العملياتى والتكتيكى. والالتزام بمبادئ الدفاع، والدفاع عن النفس والضربة المضادة المابعدية (Post-Emptive). وبأنّ الصين لن تهاجم ما لم تُهاجم، ولكنّنا سنشنُّ بالتأكيد هجومًا مضادًّا إذا ما تعرضنا لهجوم».
ثانيًّا: تركّز الصين منذ قيام الجمهورية على الاستثمار في جيش التحرير الصيني، للدفاع عن أرضها الممتدة، وحتى المساهمات في قوات الأمم المتحدة العديدة لقوات حفظ السلام في مختلف مناطق النزاعات، لم تؤثّر على العددية الهائلة لأفراد القوات المسلحة الصينية البالغة حوالي 2,035,000 فردًا، ما يجعله الجيش الأكبر عالميًا من حيث القوة العددية. وإن كانت القوة العسكرية الصينية أقلّ حداثةً عن القوى الغربية إلّا أنّها نقلت معظم التقنيات الغربية بالتحايل على قوانين الملكية الفكرية، وهي الآن تمتلك الأقمار العسكرية المتطورة، وطائرات التزود بالوقود في الجو، وحاملات الطائرات، والغواصات النووية والإستراتيجية القادرة على احتواء أو مواجهة أبسط الأخطار الموجهة لسيادتها تحت الماء. هذا بالإضافة إلى بنائها «القوات البحرية الزرقاء»، كقوة حديثة قادرة على الدفاع عن المطالب الإقليمية، وإجراء العمليات العالمية، ولكن ذلك سيشكّل تحديًّا حقيقيًّا للبحرية الأمريكية، حسب المسؤولين الصينيين.
ثالثًا: بالرغم من أنّ وجود إيران مزوّدة بمعداتٍ عسكرية متطورة نوعًا ما، يخدم هدف الصين في منع وقوع هذه المنطقة المهمّة جغرافيًّا وإستراتيجيًّا تحت سيطرة الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه يعمل على صرف انتباه الولايات المتحدة عن منطقة المحيط الهاديء ، إلّا أنّ دخول الصين في حربٍ كاملة سيؤّثّر على المصالح الصينية بشكلٍ مباشر، خاصة أنّ حوالي 44 % من واردات الصين من النِّفط تأتي من المملكة العربية السعودية وهي أكبر مورّد لها بعد روسيا، ما يضرُّ باقتصاد الصين المتعطش للطاقة. وهذا يشير إلى أنّه بالرغم من قوتها العسكرية الضخمة، إلّا أنّ الصين ستواصل في التركيز على تنمية اقتصادها، فقد حقّقت معجزة اقتصادية مستفيدةً من دور الولايات المتحدة كشرطي عالمي.
رابعًا: مشاركة الصين في حربٍ طويلةٍ في الخليج، ستشكّل تهديدًا خطيرًا لخطط الصين الاقتصادية المستقبلية في المنطقة، فقد استثمرت الصين في الخليج العربي وإيران لخدمة رؤيتها ومشروعها الاقتصادي الضخم «طريق وحزام الحرير». وقد بلغت الاستثمارات الصينية في النقل والبنية التحتية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت بالإضافة إلى إيران ما قيمته 13,6 مليار دولار أمريكي بين عامي (2013 – 2019م) وفقًا لشركة (China Global Investment Tracker).
وعليه، نجد أنّ علاقات الصين بإيران تأتي في إطار دوران الهياكل الثلاثة: الاقتصادي، السياسي، والعسكري. فالهيكل الاقتصادي يقيّد إلى حدٍّ كبيرٍ خياراتها الإستراتيجية، ما يضطرها للموازنة بين علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، واستيعابها للمعايير العالمية لاقتصاد السوق، وارتباطه الوثيق بالهيكل السياسي أو «التوزيع العالمي للقوى السياسية». أما الهيكل العسكري فيأتي في مؤخّرة مشاركتها الدولية، -وإن تحقّقت- فستكون وفق حساباتٍ خاصةٍ تضع العقيدة العسكرية الصينية ومصالحها الخاصة في مرتبةٍ واحدة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد