في خضم التصعيد العسكري الأمريكي-الإيراني على الساحة العراقية بقدوم العام 2020، وفي مشهدٍ إيرانيٍّ رسميٍّ غير مسبوق لم يلتفت إليه الخبراء والمختصون بالشأن الإيراني لانشغالهم بمستقبل التصعيد وسيناريوهاته ومآلاته، رغم دلالاته الخطيرة، ظهر عبر شاشات التلفاز يوم 9 يناير 2020 قائد القوة الجو-فضائية بالحرس الثوري الإيراني العميد أمير علي حاجي زادة بتصريحات عن الهجمات الصاروخية الإيرانية على القواعد الأمريكية بالعراق وخلفه 9 أعلام، بخلاف السابق، حيث كان قادة الحرس الثوري، يتحدثون وخلفهم فقط أعلام الحرس الثوري وإيران.
6 من هذه الأعلام تخص ما تطلق عليهم إيران محور المقاومة ضد الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة الشرق أوسطية، وهم الميليشيات الشيعية المسلحة الموالية لإيران في الدول العربية، بالترتيب كما يظهر بالصورة خلف زادة: علم ميليشيا «زينبيون» الشيعية الباكستانية في سوريا، وَعلم ميليشيا «فاطميون» الشيعية الأفغانية في سوريا، وَعلم حركة «حماس» الفلسطينية، وَعلم ميليشيا «الحشد الشعبي» العراقي، وَعلم ميليشيا حركة «أنصار الله» باليمن (الحوثيين)، وَعلم ميليشيا «حزب الله» اللبناني، والـ3 أعلام المتبقية هي أعلام إيرانية بالترتيب علم سلاح الجو الإيراني، علم القوة الصاروخية الإيراني، وأخيرًا علم إيران.
تعود أهمية مشهد الأعلام إلى كونه يُعد وثيقةً إيرانيةً رسميّةً لنقل العلاقة بين الميليشيات المسلحة في الدول العربية وإيران إلى مرحلة جديدة عنوانها الاعتراف الرسمي الإيراني بتبعية الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين لإيران، وأنها باتت أذرعًا إيرانية رسمية في الدول العربية، ولذلك، لم يعُد «الحشد الشعبي»-بهذا المشهد-حالةً عراقية و«الحوثيين» حالةً يمنية و«حزب الله» حالةً لبنانية والميليشيات الشيعية في سوريا حالةً سورية، وَحركة «حماس» حالة فلسطينية، فجميعهم باتوا حالةً إيرانيةً داخل الدول العربية تعمل لصالح المشروع الإيراني التوسعي بالمشاركة في مدّْ وتأمين نطاق النفوذ بالقوة المسلحة.
يكشف هذ المظهر عن عددٍ مِن الرسائل الإيرانية، والتي تُعَد، في مجملها، بمثابة تحدٍّ إيرانيٍّ جديد أمام المجتمعين الإقليمي والدولي، وعدم احترام إيران لقرارات الشرعية الدولية ومبادئها المتعلقة باحترام سيادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، أوّل هذه الرسائل: أنها تمتلك رسميًا أذرعًا شيعية عابرة للحدود الجغرافية تعيش على أراضي الدول المجاورة لتنفيذ مشروعاتها وتحقيق طموحاتها التوسعية.
ثانيها، أنها، وَمِن خلال هذه الأذرع، تجاوزت مرحلة تقديم الدعم المالي والسياسي والعسكري للميليشيات المسلحة في الدول العربية، إلى مرحلة المشاركة الأصيلة في صناعة واتخاذ القرارات المصيرية في العراق وسوريا ولبنان رغم كونها حالاتٍ إيرانية وليست وطنية؛
ثالثها، إنَّ الدور الحقيقي لهذه الميليشيات، وبدليلٍ قاطع، تعمل لصالح إيران لا لصالح الدول القاطنة فيها، وأنها تَعُد إيران وطنها الأول بينما لا تعُد كلًا مِن العراق وسوريا ولبنان واليمن حتى مجرد كونها وطنًا ثانيًا لها، وإنما مجرد امتدادٍ جغرافيٍّ إيراني تسهر على أمنه وتسعى لتمدده.
رابعها، أنها تمتلك قوة الأذرع الشيعية التي تستطيع مِن خلالها الدخول في مواجهات مع الأعداء مِن خلال نمط الحرب متعدد الجبهات لإرهاقه.
ولذلك، بناءً على هذا المظهر الإيراني الذي يؤكد قطعًا، وباعتراف إيراني رسمي، تبعية الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين للحرس الثوري الإيراني، يمكن تصنيف تلك الميليشيات كليًا وليس جزئيًا ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية بوصفها أذرعًا مسلحة إيرانية تابعة للحرس الثوري المصنف أمريكيًا، ضمن القوائم الإرهابية، كما أنها قامت وما زالت تقوم بأعمال قتل، بقيادة قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، توصف بالإرهابية، والتي جعلت الكثيرين يقضون حياتهم في بعض الدول بدون أرجل وأذرع كما يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا المشهد-أعلام وكلاء إيران- يعكس تخبطًا وارتباكًا إيرانيًا يضاف لسلسلة الإخفاقات التي مُنيت بها إيران منذ دفعها الميليشيات الشيعية بالعراق لشن هجمات أودت بحياة متعاقد مدني أمريكي، حتمًا سيخصم من رصيد نفوذها الإقليمي وسيضرها دون أدنى شك أكثر مما يفيدها، لكونها قامت، بشكلٍ علنيّ وباعتراف رسمي، بتعرية تلك الميليشيات للمرة الأولى، أمام جماهير الدول القاطنة فيها، حيث إنّ بعض تلك الميليشيات-في الدول القاطنة فيها- يحتشد جماهيرها ضد النفوذ الإيراني، وأمام دول العالم والمجتمع الدولي، كما قامت بنفيها للبعد الوطني الشكلي عن تلك الميليشيات وجعلها تشكيلات إيرانية أصيلة تعمل لصالح إيران، لتتحول مثلا الميليشيات الشيعية الموالية لإيران بالعراق إلى الميليشيات الإيرانية في العراق، لتقدم بذلك أكبر هدية للدول التي تريد استهداف الميليشيات، وتجعل من استهدافها كأذرع تابعة للحرس الثوري لا للعراق أو لبنان أمرًا مباشرًا.
وأخيرًا، يطرح هذا المظهر تساؤلاتٍ غايةً في الأهمية، وسيترتب عليها تداعيات كثيرة في المستقبل المنظور، منها: كيف يمكن أن يكون الحشد الشعبي تابعًا رسميًا للجيش العراقي ولجناحه السياسي برلمانيين ووزراء في الحكومة والبرلمان العراقي وهو ميليشيا إيرانية بهذا المظهر تعمل لصالح إيران لا العراق؟ وكيف يكون لحزب الله أعضاء بالحكومة اللبنانية وبرلمانيون وهو يعمل لصالح إيران لا لبنان؟ وماذا عن حركة حماس التي تعُد نفسها حركة مقاومةٍ إسلامية وليست وكيلًا إيرانيًّا ألا يُعَد ذلك اعترافًا إيرانيًا بعمالتها لصالح إيران؟ كيف يمكن أن تقبل الدول وشعوبها بتشكيلات وهيئات وأحزاب تعمل ضمن نظامها السياسي وأجهزتها ومؤسَّساتها الرسمية وهي تابعة لدولة أخرى مثل إيران التوسعية، الإجابة تتوقف على مواقف حكومات تلك الدول ومدى رغبتها في الحفاظ على البعد العروبي والحضاري، ووحدتها الترابية، والحفاظ على أمنها القومي بوصفها دولةً مستقلةً ذات سيادة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد