عودةُ إيران إلى القائمة السّوداء لـ FATF: التداعياتُ والمآلاتْ

https://rasanah-iiis.org/?p=20486

ظلَّت الحكومة الإيرانيَّة منذ الاتفاق النوويّ المبرم بينها وبين مجموعة 5+1 في العام 2015، تبذلُ جهودًا كبيرةً للخروج من القائمة السّوداء لمجموعة العمل المالي الدوليَّة (FATF) والاستفادة من مزاياها الماليَّة، من خلال قبول القوانين الخاصّة بمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. وفي ضوء التنازلات والمبادرات الإيجابيَّة التي أبدتها إيران بعد الاتفاق النوويّ، قرَّرت مجموعة العمل المالي في 2016 حذف إيران مؤقَّتًا من قائمتها السّوداء؛ أملًا في موافقة النظام الإيراني على لوائحها المتعلِّقة بمكافحة الجرائم الماليَّة.  

رغبة الحكومة بالانخراط في المجتمع الدوليّ والالتزام بقوانينه، اِصطدمت بتعنُّت وتشدُّد مجلس صيانة الدستور؛ الذي رفض المصادقة على هذه القوانين رغم إقرارها من قبل البرلمان؛ بحجَّة أنّها تتناقض مع الشريعة الإسلاميَّة والدستور الإيراني. ونتيجةً لهذا الخلاف، تمّ رفع الأمر إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام المعنيّ بحلّ الخلافات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور إضافةً لمسؤولياته الأُخرى، لكنَّ الخلاف استمرّ طيلة الفترة الماضية، بعد أنْ فشل مجمع تشخيص مصلحة النظام في إنهاء حلّه.

على الرغم من أنَّ مصادقة إيران على معاهدة مجموعة العمل الماليّ لا تعني بالضرورة حلّ جميع مشاكلها الاقتصاديَّة والمصرفيَّة، لكنّها سوف تُسهِّل عليها بعض معاملاتها الماليَّة مع دول العالم، وستؤدِّي إلى تبييض صفحتها من تمويل الإرهاب ودعم غسيل الأموال، وعدم تعرُّضها لعقوباتٍ إضافية من مجموعة العمل، في ظلّ العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. أمّا المجتمع الدولي، فإنَّ تطبيق إيران المعايير الماليَّة الدوليَّة، يعني أنّ الحسابات والمعاملات الماليَّة، حتّى داخل الدولة، ستخضع للإشراف الدولي، وسيتطلَّب ذلك من الجانب الإيراني أنْ يكون شفّافًا في تعاملاته الماليَّة، وهو ما يريده المجتمع الدولي. كما أنّ انضمام إيران إلى اتفاقيتيْ مكافحة غسيل الأموال ووقف تمويل الإرهاب، سوف يضعها في مواجهة نظامٍ ماليٍّ ونقديٍّ دوليّ، ويساعد الولايات المتحدة على كشف المحاولات الإيرانيَّة للتحايل على العقوبات المفروضة عليها.

نتيجةً للانقسام الدائر بين مؤسَّسات النظام الإيراني حول قوانين مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال؛ أمهلت مجموعة العمل المالي الحكومة الإيرانيَّة عدَّة مرَّات لتمرير التشريعات الخاصّة بها، وقبل المهلة الأخيرة والتي انتهت في فبراير الماضي. حذَّرت المجموعة الجانب الإيراني صراحةً من أنّها ستُعيد فرض تدابيرَ مضادّة على إيران، مثل تعزيز آليَّات الإبلاغ المنتظم عن المعاملات الماليَّة، وزيادة التدقيق والفحص لفروع المؤسَّسات الماليَّة الأجنبية الموجودة على الأراضي الإيرانيَّة، إبقاءُ إيران في القائمة السوداء لتمويل الإرهاب، تضرُّ الأرصدة الماليَّة الإيرانيَّة في البنوك الأجنبية، وتُوقّف هذه البنوك عن التعامل المالي مع البنوك والمؤسَّسات الماليَّة الإيرانيَّة، إذا لم تُسَنّ اللوائح المتعلِّقة بمكافحةِ تمويل الإرهاب وغسيل الأموال بحلول أكتوبر المقبل.

أولًا: موقفُ الحكومةِ الداعم للمصادقة على اللّوائح

نتيجةً للعقوبات الأمريكية المفروضة عليها، سَعت الحكومة الإيرانيَّة لإقناع الدول الأوروبية بضرورة السماح لشركاتها بمواصلة التجارة معها، لكنَّ الدول الأوروبية خاصّةً ألمانيا وفرنسا، أصرَّت على أنَّ الانضمام إلى الاتفاقيّتيْن هو شرطٌ أساسيٌّ لتفعيل القناة التجاريَّة الأوروبيَّة مع إيران، وعلى مدى العام الماضي حذَّر الرئيس الإيراني حسن روحاني مرارًا من مغبَّة عدم المصادقة على اللائحتيْن، ورَهَن تنمية العلاقات البنكيَّة مع دول العالم بموافقة مجمع تشخيص مصلحة النظام على تجاوز عقدة مجموعة العمل المالي والمصادقة على قوانينها، ورفض تحميل حكومته أيّ مسؤوليةٍ عمّا ستؤول إليه الأوضاع الاقتصاديَّة، أو أيّ عقوباتٍ مستقبليَّة قد تطال البنوك الإيرانيَّة. أمّا مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة غلام رضا أنصاري، فقد حذَّر من أنَّ عدم التوقيع على لوائح مكافحة الارهاب وغسيل الأموال أشبه بإطلاق رصاصة الرحمة على القطاع المصرفي، الذي تضرَّر بشدَّة بعد العقوبات الأمريكية.

رغم هذه التحذيرات، واصل المتشدِّدون في النظام الإيراني رفضهم للمصادقة على اللوائح، وانتهت المهلة الأخيرة الممنوحة لطهران، دون أنْ تُحقِّق أيّ خطوةٍ في هذا الاتجاه، وفي الاجتماع الدوري الذي عُقِد في الحادي والعشرين من فبراير الماضي بالعاصمة الفرنسية باريس؛ قرَّرت دول المجموعة إعادة إدراج إيران على قائمتها السّوداء لإخفاقها في الالتزام بالقواعد الدوليَّة لمكافحة تمويل الإرهاب، وقرَّرت إلغاء تعليق كلّ العقوبات المفروضة على إيران وإعادة العقوبات التي عُلَّقت مؤقَّتًا في 2016 ، ودعت الدول الأعضاء إلى تطبيق هذه العقوبات بفاعلية. وبإدراج إيران في القائمة السّوداء لمجموعة العمل الماليّ، يكون المتشدِّدون قد أضافوا للحكومة أزمةً جديدةً من سلسلة الأزمات التي تواجهها، بعد أنْ أفشلوا كلّ الجهود التي بذلتها خلال السنوات القليلة الماضية؛ للبحث عن مخرجٍ للضغوط الاقتصاديَّة التي تتعرَّض لها إيران.

ثانيًا: لماذا يرفضُ المتشدِّدون في النظام الإيراني الانضمام إلى مجموعة العمل المالي؟

ترى الأطراف الرافضة أنّ لوائح المجموعة تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية والدستور الإيراني، وتخشى من أنْ تؤدِّي المصادقة عليها إلى فتح الباب أمام إمكانية محاسبة إيران دوليًّا؛ بسبب دعمها لعددٍ من الجماعات التي تمّ تصنيفها كمنظَّماتٍ إرهابيَّة مثل حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، كما أنَّ موافقة إيران على هذه اللوائح سيؤدِّي إلى فرض رقابةٍ مشدَّدة على أنشطة الحرس الثوري المشبوهة، والتي تتضمَّن الجرائم المنظَّمة العابرة للحدود؛ كغسيل الأموال ودعم التنظيمات الإرهابيَّة.

إضافةً للأسباب المذكورة أعلاه، فإنَّ الكثير من المستفيدين من الاضطرابات الماليَّة ونقص الشفافيَّة التي تتميَّز بها إيران خلال الوقت الراهن، باتوا يمتلكون فرصةً ذهبيةً لزيادة ثرواتهم؛ لذا فإنّ التوقيع على لوائح مجموعة العمل المالي لن يكون في صالحهم، كما أنَّ بعض المتشدِّدين الرافضين للاتفاقية لديهم عقليةٌ أيديولوجيَّة، ويفضِّلون المصالح الأيديولوجية على المصالح الوطنية، بينما أثار البعض الآخر قضايا مثل الحقّ في السيادة الوطنيَّة، ورفض الهمينة الغربية، والقيود المحتملة بعد الانضمام إلى الاتفاقيَّتيْن، كأسبابٍ رئيسيَّة لرفضهم المصادقة على اللوائح.

المتشدِّدون في النظام الإيراني يرون كذلك أنَّ مجموعة العمل المالي تستخدمُ المعايير الأمريكية في قوانينها كمعيار لعملها؛ ما يعني أنَّ قبول قوانين المجموعة هو تطبيقٌ غير مباشرٍ للقوانين والدستور الأمريكي. ويُصرّ المعارضون لاتفاقيتيّ مجموعة العمل المالي على أنَّ إيران لم تنتفع بأي شيءٍ من الاتفاق النوويّ، الذي أبرمته مع مجموعة 5+1؛ لأنَّ الأطراف الغربية الموقِّعة عليه ولا سيَّما الولايات المتحدة لم تلتزم به، لذا يجب ألّا تدخل إيران في أيّ التزامٍ جديدٍ مع القوى الغربية.

سببٌ آخرَ وهو  أنَّ إيران إذا انضمَّت إلى مجموعة العمل المالي الدوليَّة، يجب عليها الكشف عن جميع الحسابات البنكيَّة لجميع المسؤولين الذين شملتهم العقوبات الأمريكية، وبالنظر إلى أنّ إيران تخضع في الوقت الراهن لعقوباتٍ من قبل الإدارة الأمريكية، وتواجه صعوباتٍ كبيرة لتلبية احتياجات شعبها، ولا يمكن لرجال الأعمال الإيرانيين استخدام الأنظمة المصرفيَّة الرسميَّة للتحايُل على العقوبات، ويضطرُّون للالتفاف عليها عبر قنواتٍ غير رسمية، فإنَّ المصادقة على لوائح المجموعة الماليَّة سوف يُحتِّم على إيران الالتزام بالعقوبات الأمريكية، والكشف عن كلّ رجال الأعمال الذين يتحايلون عليها.

ثالثًا: التداعيات الاقتصاديَّة لإدراج إيران في القائمة السّوداء

لطالما طالب محافظُ البنك المركزيّ الإيرانيّ عبد الناصر همّتي بضرورة الموافقة على اللوائح؛ لتجنُّب الآثار الخطيرة التي قد تتعرَّض لها البنوك والمؤسَّسات الماليَّة الإيرانيَّة المختلفة، في حال إعادة إدراج بلاده في القائمة السّوداء لمجموعة العمل المالي الدوليَّة، لكن بعد صدور القرار في فبراير الماضي عدل عنْ موقفه، وادّعى بأنًّ إيران لا تخشى من ضمِّها إلى هذه القائمة بحجّة أنّها تمكَّنت خلال السنوات الماضية من نسج شبكة علاقاتٍ قوية خارج الإطار العام لمجموعة العمل المالي، لكن ردود الفعل الإيرانيَّة الغاضبة بعد إدراجها في القائمة السّوداء والتحذيرات الحكومية السابقة من الاستمرار في رفض لوائح المجموعة الدوليَّة، يُثبت أنَّ هذه التصريحات هي مجرَّد محاولةٍ إيرانيةٍ يائسةٍ للتقليل من أهمِّية القرار والهروب من تبعاته الاقتصاديَّة، والتي قد تظهر بصورةٍ جليّةٍ خلال الفترة المقبلة.

وممّا لا شكّ فيه أنَّ إدراج إيران في القائمة السّوداء، سوف يؤدِّي إلى تفاقم جراح الاقتصاد الإيراني وامتناع المؤسَّسات الماليَّة العالمية عن التعامل مع شبكة المصارف الإيرانيَّة، ووقف نشاط الشركات الوطنيَّة بالخارج، وربّما يؤدِّي إلى تصفير الاستثمار الخارجي. وقد يقود حتّى الدول التي تتمتَّع بعلاقاتٍ تجاريةٍ جيِّدة مع إيران إلى الامتناع عن التعامل معها؛ كالصين التي حذَّرت الحكومة الإيرانيَّة، من أنّها قد لن يعود بمقدورها إجراء أيّ تعاملات بنكيَّة معها، في حال عدم المصادقة على اللوائح المنظَّمة لمجموعة العمل المالي الدوليَّة،  والأسوأ من ذلك قد تتعرَّض طهران لعقوباتٍ ماليةٍ جديدة تُضاف إلى العقوبات الأمريكية كفرض قيودٍ على العلاقات الماليَّة مع الشركات الإيرانيَّة، وإجراء مزيدٍ من التحقيق في المعاملات الماليَّة المتعلِّقة بها، وإرسال تقرير عن أيّ معاملاتٍ ماليةٍ تقوم بها إلى مجموعة العمل، ومنع إنشاء فروعٍ جديدة للمصارف الإيرانيَّة في الخارج، وكذلك حرمانها من افتتاح فروعٍ لبنوكها في الخارج. وفي ظلّ هذا الوضع وتراجع مصادر الدخل الحكوميّ جرّاء العقوبات وعجز الموازنة وتراجع التجارة الخارجيَّة وانخفاض بيع النِّفط، قد تضطرّ الحكومة لاتّخاذ سلسلةٍ من الإجراءات، من قبيل زيادة أسعار الخدمات الحكوميَّة، وزيادة الضرائب، ورفع أسعار الوقود.

الخلاصة

يظلّ من غير الواضح أنّه في ظلّ إعادة إيران إلى القائمة السّوداء واستمرار حالة الانقسام الدائرة منذ شهور بين مؤسَّسات النظام الإيراني حول معاهدة مجموعة العمل المالي (FATF)، ما إذا كانت إيران ستضطرّ في نهاية المطاف على الموافقة على لوائح هذه المجموعة، بيد أنَّ المؤشِّرات تُرجِّح أنّه في ظلّ العقوبات الأمريكية وتوقُّف تعاون البنوك الإيرانيَّة مع البنوك الدوليَّة ووقوع القطاعات المهمّة في الاقتصاد الإيراني كالنِّفط والبتروكيماويات والمعادن تحت طائلة العقوبات ولجوء إيران إلى بعض الآليَّات الموازية للتحايُل على العقوبات، فمِن غير المحتمل موافقة إيران على الأقلّ في المدى القصير على اللوائح الخاصّة بمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.

وينشأ هذا الاحتمال من التصوُّر الذي يروج له المتشدِّدون، والقائل إنَّ موافقة إيران أو عدمها على لوائح مجموعة العمل الماليَّة الدوليَّة لن يُغيِّر شيئًا بالنسبة لإيران، في ظلّ العقوبات التي تتعرَّض لها.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير