الشعرة الفاصلة بين الوطنيَّة والعنصريَّة في إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=20968

تناولت مواقعُ إخبارية عدّة قضية إلقاء عددٍ من المواطنين الأفغان في نهر هريرود من قِبَل حرس الحدود الإيرانيين، حيث ذهب ضحية ذلك عشرة قتلى وفقدان 13 آخرين. هذا وأقام العشراتُ من الناشطين المدنيّين والمواطنين في مدينة هراتغرب في أفغانستان تجمّعًا احتجاجيًّا أمام القنصلية الإيرانية على خلفية قضية إلقاء المواطنين الأفغان في النهر من قِبَل حرس الحدود الإيرانيين.

وبعث 120 نائبًا في البرلمان الأفغاني وناشطٌ مدني رسالةً مفتوحة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي وحسن روحاني رئيس الجمهورية. وناشد المحتجّون الحكومة الأفغانية والأمم المتحدة لكشف ومعاقبة مرتكبي هذه الحادثة. وطالب المُوقّعون على الرسالة المفتوحة إلى خامنئي وروحاني والتي تسلّمت «BBC» نسخةً منها، بالاعتذار عن هذه الحادثة، ودفْعُ تعويضات مالية لأُسَر الضحايا، ومعاقبة مرتكبيها.

ومن بين المُوقّعين على الرسالة نائباتٌ في البرلمان الأفغاني، وشبكة نساء وناشطات في مجال حقوق المرأة، وتم إرسال نسخة من الرسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. كما غرّد شاه حسين مرتضوي كبير مستشاري الرئيس الأفغاني عبر حسابه على «تويتر» تلميحًا إلى إيران بالقول: «الإغراق هو تخصص الجار».   

وعلى الرغم من نفي السلطات الإيرانية تورطها في هذه الجريمة والزعم بأنّ الأفغان قد ماتوا داخل الأراضي الأفغانية فإنّ الحادثة قد خلقت الكثير من الجدل حول تعامل إيران مع اللاجئين الأفغان، وكذلك جدلًا بين الإيرانيين أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي.  ومن بين من تحدث عن ذلك أستاذ العلوم السياسية السابق في جامعة طهران المحسوب على ما يُسمى بالتيار الإصلاحي في إيران الدكتور عبد الله رمضان زاده حيث غرد عبر حسابه الموثّق على تويتر قائلًا: «إذا ما صحّ الحديث عن غرق لاجئين أفغان في نهر هريرود فإنّ ذلك يُعَد وصمة عار على بدن إيران والإيرانيين وجريمة لا تُغتفر، وأٌطالب بتشكيل لجنة وطنية لتقصِّي الحقائق».  

أثارت هذه التغريدة وغيرها نقاشًا واسعًا بين المغردين الإيرانيين في الداخل والخارج، من الموالين للنظام والمناهضين له، من الداعمين للجانب الثوري المُتشدِّد، وآخرين محسوبين فيما يبدو من ردودهم على الإصلاحيين. فهناك ربما غالبية من اطَّلعتُ على ردودهم وتعليقاتهم من اعتبر نظام الجمهورية الإسلامية لا يُمثل إيران والإيرانيين، والبعض قال: إنّ هذا النظام يُمثل الإسلام والتشيع، وهناك من ذهب أبعد من ذلك للقول: إنّ التصرف العنصري الذي يُعَامل به المهاجرون الأفغان يُمثل العقلية العربية (بزعمهم أنّ الإسلام عربيٌّ والملالي يمثلون العرب ولا يُمثلون إيران وحضارة كوروش)، ولا ينسجم مع الحضارة الفارسية. هناك أيضًا من اعتبر أنّ هذا السلوك يتم ممارسته من قِبَل النظام ليس فقط ضد الأفغان بل أيضًا ضد الإيرانيين أنفسهم مستشهدين بالحوادث المتكررة التي يتعرض لها ما يُعرف في إيران باسم «الكولبران/الحمالون»، وهم شريحةٌ من الأكراد أهالي المناطق الحدودية وبخاصة مع تركيا مِمَّن يعملون في تجارة الشنطة وتهريب البضائع بين الدولتين.

ومن هنا رأوا أنه ينبغي التركيز على هؤلاء الضعفاء بدلًا من قضية اللاجئين الأفغان.  وشريحةٌ أخرى من المغردين انتقدوا التركيز على موضوع اللاجئين الأفغان وانتقاد تعامل السلطات مع أولئك اللاجئين، معتبرين أنّ هذا نوعًا من تقديم البُعد الإنساني على الشعور الوطني، وقالوا: إنّ التعامل مع الأفغان في إيران يُعتبر جنة مقارنةً بتعامل الأفغان مع الإيرانيين في أفغانستان.

الحقيقة أنّ هذا النوع من النقاشات ليس بجديد في إيران والأدبيّات الإيرانية، فمع الأسف الشديد أنّ العنصرية تجاه شعوب المنطقة متجذرةٌ في الداخل الإيراني قبل الثورة وبعدها. فالنظرة الاستعلائية  في إيران تجاه العرب والأفغان حقيقةٌ مؤلمة يَعترف بها كلُّ إيراني منصف، ومن أولئك ما كتبه أكثر من مرة أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران الدكتور صادق زيبا كلام ، حيث مما قاله  في مقابلةٍ مع أسبوعية «صبح آزادي» نُشرت عام ٢٠١١م، تعمّد زيبا كلام مناقشة ونقد نظرة الإيرانيين تجاه الآخرين في الداخل والخارج قائلًا: «للأسف أنا واثقٌ من أنّ الكثير منا – نحن الإيرانيين – عنصريون، فلو نظرتم بإمعانٍ إلى ثقافات الشعوب الأخرى تجاه سائر القوميات والشعوب والإثنيات وأخذتم ظاهرة النكت كمقياس لوجدتم أننا أكثر إساءة من خلال النكت، فانظروا كيف نُسيء إلى الترك واللور». وأضاف: أعتقد أنّ الكثير من الإيرانيين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتديّن وغير المتديّن في هذا المجال، ويبدو أننا كإيرانيين لم ننسَ بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب ولم ننسَ القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنُخفي في أعماقنا ضغينة وحقدُا دفينيْن تجاه العرب وكأنها نارٌ تحت الرماد قد تتحول إلى لهيب كلما سنحت لها الفرصة، على حدّ تعبيره.  

ولقد بحثتُ في هذا الموضوع بتعمّقٍ واسعٍ في أطروحتي لدرجة الدكتوراه تحت عنوان: «الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث» والكتاب متاح باللغة العربية وأصل الأطروحة متاح باللغة الإنجليزية على موقع جامعة ليدن الهولندية تحت عنوان: «Iranian Orientalism: Notions of Other in Modern Iranian thoughts». وتدرسُ الأطروحة مرحلة ما قبل ثورة 1979م؛ ولهذا لن أخوض كثيرًا في مُسبّبات ظهور هذه النزعة العنصرية والشيفونية أحيانًا بين بعض الإيرانيين تجاه شعوب المنطقة، وكيف تمّ ترسيخها وتحويلها إلى حقائق مُتمكّنة من العقل الباطن لكثيرٍ من الإيرانيين وتظهر عند أيّ احتدام في النقاش. لقد تخلت ألمانيا عن نظرية «العرق الآري» وانهارت النظرية بكاملها تقريبًا في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وسقوط النازية، لكنّ هذه النظرية العنصرية التي تُؤمن بأفضلية عرق بشري على سائر الأعراق لا تزال حاضرة في بعض الدول الآسيوية ومن ذلك إيران. ولعل ما يزيد من وهجها بين القوميين العنصريين في إيران موقفهم من الآخر العربي واتهامه بالتخلف والرجعية والبداوة والجلافة وأكل الجراد وشرب بول البعير. والمضحك في الأمر أننا شاهدنا قبل أسابيع شخصًا إيرانيًّا يُروج لشرب بول البعير للعلاج من «كورونا»، وقبل ذلك هناك مقاطع فيديو لأشخاص إيرانيين يستمتعون بأكل الجراد. وكلا هذين المقطعين متاحين على الإنترنت لمن يرغب في البحث عنهما، وذلك عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر، ويوتيوب بعنوان: «ملخ خوردن در إيران» .

ما أردتُ قوله: إنّ الحالات الشاذة حاضرة في كل دولة وبين كل شعب وعرق، وتعميم حالات فردية أو مناطقية على شعوب ودول ليس عملًا مُتّزنًا، كما أنّ اتهام العرب بالرجعية والتخلف مقابل إيران متقدمة ومتحضرة في الوقت الراهن لا يصمد كثيرًا أمام الواقع الذي نعيشه والنزعة نحو صورٍ نمطية يعود تاريخها لعشرات القرون، سواءً من الحركة الشعوبية في القرن الثالث الهجري أو بعض أدبيات ملحمة «شاهنامة» الفردوسي، فهذا هروبٌ من الواقع وارتماء في أحضان الماضي.  

وأخيرًا، من الظلم للعرب ومن الظلم للإسلام أيضًا أنْ يُلصَق بهما سلوكيات وتصرفات نظام الولي الفقيه في طهران، فحتى وإن لبس العمامة السوداء واِدّعى خامنئي وقبله الخميني بأنهما من السادة المنحدرين من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجعلهم في الوقت الراهن عربًا، بل إنّ الأذى الذي لحق بالعرب منهم أكبر مما لحق بالشعب الإيراني، فكيف تلصقونهم بالعرب، وإلصاق تصرفاتهم بالإسلام ظلمٌ للإسلام أيضًا فليس هذا الإسلام الذي نعرفه، وكما قال الراحل آية الله حسين علي منتظري: «إنّ الجمهورية الإسلامية ليست إسلامية ولا جمهورية وأنّ خامنئي بلا شرعية». إنّ ما حدث ويحدث هو استغلالُ اسم الدين لأهدافٍ سياسيةٍ بحتة، فكما أنّ العرب برآءٌ من هؤلاء المعمّمين فإنّ الإسلام أيضًا بريءٌ من تصرفاتهم الديكتاتورية والعدوانية في الداخل والخارج. أما الهمسة الأخيرة فهي لأصدقائنا العقلاء في إيران، لِلَعب دورٍ في محاربة العنصرية المقيتة وقطع الطريق على النظام الذي يعمل على إبقائها واللجوء إلى إثارتها لتحقيق مكاسب شعبويّة داخلية، فالجغرافيا لا يُمكن تغييرها ولا يُمكن نقل إيران إلى أوروبا أو انتقال العرب من المنطقة إلى قارة أخرى، مصيرنا مشتركٌ والجوار بيننا لا يُمكن تجاهله، ولنجعل التنافس بيننا في النهوض معًا بهذه المنطقة والتعايش المشترك بعيدًا عن النزعات العنصرية والعرقية وتضخيم الذات، فكلنا لآدم وآدم من تراب، والتاريخ بكل ما فيه تُؤخذ منه العِبَر والدروس للتقدُّم وليس للرجعية والبكاء على الماضي!

المصدر: Independent Persian


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية