كثيرًا مانجحت الدول التي تحتضنُ عباقرةً في الفكر الإستراتيجي والإنساني في انتشال دولهم من خِضم الفوضى السائدة وتغيير مسار الأحداث لتحقيق تنمية مستدامة. دولٌ سيذهب بها إعصار كورونا إلى مكانٍ سحيق، وأخرى ستنجحُ في خلق الفرص من رماد الأزمات. لا تملكُ الصين في معجمها اللغوي كلمة «أزمة» أو «فرصة» مستقلتين؛ كلاهما يجمعهُما كلمة واحدة مركبة «الأزمة الفرصة»! كثيرًا ماساعدت الحرب الدول المنتصرة على تحقيق التنمية والازدهار؛ النموذج البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى العكس نجحت دولٌ في تحويل خسارتها في الحرب إلى انتصارٍ لاحق في التنمية؛ لأنها عالجت ذاتها المنكسرة بالصدمة؛ ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. مع ذلك الحرب والأزمات والجوائح الوبائية لم تكُن دومًا آليَّة كافية لتحقيق قفزات تنموية وازدهار. التاريخ الاقتصادي علمنا أنه لاغنى عن استنفار خمسة عوامل حيوية؛ التقدم التكنولوجي، الفكر الإبداعي، الإرادة السياسية، الوعي الاقتصادي، والانفتاح على الخارج معرفيًّا واقتصاديًّا.
باستثناء العامل الأول الذي يحتاج إلى تطوير بِنية تحتيّة تقنيّة وبحثيّة، الباقي ليس صعبًا. عندما غابت هذه العوامل عن أوروبا خلال القرون الوسطى تخلّفت ونهض العالم الإسلامي؛ لأنه من حيث المجمل وفَّر هذه الشروط. كتب المُنصفين من مفكري الغرب عن النموذج الإسلامي الأندلسيّ معترفين أنه بفضل إشعاعه خرجوا من عصور الظلام. طبعًا، القاعدة أنْ تتوفر شروط النهضة. مع ذلك هناك دولٌ خرقت القاعدة وحقَّقت تنمية حقيقية على الرغم من غياب أحد هذه العوامل. على سبيل المثال: أثناء حكم سلالة تشو- السلالة الصينية الأطول حكمًا (1122-216 ق.م) ازدهرت الإقطاعية، وتطورت البلاد بوتيرة أسرع من تطور اليونان؛ على الرغم من أنّ الصين كانت منغلقة دائمًا أمام التواصل الخارجي. الحال الآن مختلف مع الصين التي انخرطت في العولمة منذ انضمامها لمنظمة التجارة العالمية عام 2001م واستوعبتها وطوَّعتها كي تعمل لصالحها. هي اليوم أكثر المستفيدين منها. في وقتنا الحالي 50 مليون صينيﱟ يعملون في إفريقيا وحدها.
لا شكّ أنّ التقدم التكنولوجي كان القوة الرئيسة الدافعة لنمو الإنتاج على مر التاريخ. وحاليًّا لا ينقطع الحديث عن الاقتصاد القائم على المعرفة «الاقتصاد المعرفي» الذي يرمي إلى التأكيد على الدور الاستثنائي للفكر في خلق قيمة جديدة. تاريخيًّا، كل الفترات التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا كانت قائمة على المعرفة. تُقاس الأمم بمدى قدرتها على توليد الأفكار. وأيضًا بنقلها للمعرفة وذكائها في الإضافة عليها. فالتقدم لم يكُن، دائمًا، قائمًا بالضرورة على الاختراعات. بل كان من الممكن أن يقوم أيضًا على التقليد. كما كان الحال فترة طويلة مع اليابان، وكما هو وضع الصين اليوم. مع ذلك فالصين تجاوزت اليابان والولايات المتحدة الأمريكية في براءات الاختراع حسب الإحصائية الأخيرة لصندوق البنك الدولي الذي يَعُد كلّ تطويرٍ لابتكار قديم اختراعًا. لم يُرضِ ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تتَّهمُ الصين بسرقة حقوقها الفكرية! والرئيس ترامب عازم على ملاحقتها قانونيًّا.
الإرادة السياسية هي دينمو الفعل الاقتصادي ومن تنفخ فيه الروح. إذا تجاور الفكر السياسي والعقلانية الاقتصادية كان الازدهار هو الجائزة. إنهما شرطان أساسيان للتحرك من دائرة الركود الاقتصادي إلى دائرة الديناميكية الاقتصادية. القرارات الاقتصادية الراشدة التي تعتمدُ على بيانات وأرقام صحيحة، ومؤشرات أداء وقراءة للمستقبل، وتتجنَّب تعتيم الحقائق وتزييفها، وقصر النظر، والمصالح الخاصة بمجموعة معينة، غالبًا ما تُسفر عن استدامة تنموية. وفوق ذلك قدرة كبيرة على احتواء صدمات السوق، والتعامل مع الأزمات الطارئة. أينما يحدث تقدم اقتصادي كبير يرتفع مستوى الرضا الاجتماعي، وتتوسع شريحة الطبقة الوسطى كصمام أمانٍ للمجتمع. مع ذلك لاننتظر أن ينقطع التذمر الاجتماعي في أيّ بلد!
عامل الوعي الاقتصادي مهمٌّ كذلك. حرص الدولة على تنوع مواردها الاقتصادية مؤشرٌ على وعيها. الدولة ذات الثقافة الاقتصادية الواحدة لا تتقدم أو تتقدم ببطء. الموارد الأولية الضخمة كالمعادن والبترول تعمل على تسريع وتيرة عمليات التقدم أكثر فأكثر. الكارثة أنّ هذه الموارد غالبًا ما تكون ناضبة. امتلاك المال لا يعني امتلاك الاقتصاد. الحل هو حُسن توظيف عوائد الموارد الأولية، وإجراء إصلاحات مؤسَّسية وهيكلية، وإحراز تقدم تكنولوجي واقتصادي. هذا ماتعلمناه من رؤية 2030 للمملكة العربية السعودية. تراكم الثروة ليس القوة المحركة للاقتصاد الكلي ولا القوة المحركة للتاريخ، ومن ثَمَّ ليس الباعث الأساس على التنمية. نيجيريا واحدة من أكبر الدول المنتجة للنِّفط في العالم. هي اليوم إحدى أشد دول العالم فقرًا.
من الوعي الاقتصادي أنْ تَبنِيَ الدولة نموذجها الاقتصادي الملائم لطبيعة ظروفها. استنساخ النماذج الخارجية ليس دومًا حلًّا. الليبرالية الاقتصادية الجديدة أظهرت أنها تتثاءب. سالت أحبارٌ كثيرة من مُحلِّلي الغرب نقدًا لأدائها قبل وخلال أزمة كورونا. طالبوا بإعادة تأهيلها. لماذا؟ يتحدثون أنها زادت الأغنياء غنًى والفقراء فقرًا. وهذا ما انكشف خلال جائحة كورونا، حيث دخل الاقتصاد الحر مرحلة الركود في أقل من شهرين. القطاع الخاص اِنهار ولم يستطِع مساندة الدولة في استقرار الأسواق. قبل ذلك، فشلت النظرية الليبرالية الجديدة الاقتصادية، أكثر من مرة، على أرض الواقع، لأن إنتاجها لم يُسفر عن استقرار حال الأزمات ولا توازن طويل الأجل من النواحي المالية والاجتماعية. لم تؤدِّ إلى تنمية اقتصادية فعلية. حاولتْ إقناع الناس منذ بداية نظام «الداو جونز» بأنّ الخيار الأفضل هو «دعه يعمل». بمعنى تركُ كلّ شيء لرأس المال الخاص واليد الخفيَّة للسوق. ومن اللافت للنظر أنّ آدم سميث الأب الروحي لليبرالية الاقتصادية، في كتابه «ثروة الأمم» حذّر من أنّ السوق الحرة لا تُوفر ضمانات تلقائية لتحقيق توازن اقتصاديﱟ فعّال. الأزمة المالية التي بدأت في أمريكا عام 2007م والتبعات الاقتصادية لجائحة كورونا ليست إلّا رأس جبل الجليد! أعنف الضربات الموجهة لليبرالية الجديدة لم تأتِ بعد. الصين بنت نموذجها الاقتصادي الخاص بها «الليبرالية الاشتراكية» ونجحت في هذا الدمج المتوازن إلى حدﱟ كبير. استخدمت بشكلﱟ واعٍ ومدروس ومسيطر عليه مؤسّسات السوق بوصفها أدوات لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. تَعمّم نموذجها في كثير من دول آسيا. برهنت أزمة كورونا أنّ الاقتصاد شبه المركزي كان أداؤه أفضل من الاقتصاد الحر. على الأقل ظهر متماسكًا ومسيطرًا عليه.
على كل حال، الخروج من ركود جائحة كورونا يستلزم تطويرًا لمساراتٍ إستراتيجية لهذه العوامل الخمسة. يبقى أنّ رأس المال البشري المرتكز على مستوى التعليم هو من يُحرك كل هذه العوامل. وهو العجلة التي تنقلنا من حالة الركود والتضخم والكساد إلى تنمية حضارية مستدامة. مازال التعليم هو الفاعل الأساس في جعل بلدان الدول الإسكندنافية الأكثر دخلًا واستقرارًا اقتصاديًّا رغم ندرة الموارد الطبيعية. فالنرويج، ولسنين عديدة، تحتل المركز الأول بين دول العالم في ترتيب مؤشّر التنمية البشرية. والسؤال الذي يدور، في ظل آثار جائحة كورونا، كم من الدول العربية بدأت بالفعل في وضع خارطة طريق لإنعاش اقتصاداتها، ومن هي التي ذهبت أبعد من ذلك ورسمت خطةً اقتصادية طويلة المدى؟
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد