إيران والانتخابات الأمريكية.. فرص التأثير وحدوده

https://rasanah-iiis.org/?p=21254

تتنبّه الإدارة الأمريكية وتحديدًا الرئيس دونالد ترامب إلى تأجيل إيران البتَّ في مسألة التفاوض وعدم الاستجابة للضغوط الأمريكية في المرحلةِ الراهنة، على أمل إخفاقِ ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020م، لهذا وجَّه ترامب رسالةً غيرَ مرةٍ إلى الإيرانيين بألّا يعوّلوا على عدمِ نجاحِه، وكان آخرها في 05 يونيو 2020م عندما غرَّد عبرَ حسابه قائلًا: «لا تنتظروا حتى بعدَ الانتخابات الأمريكية لإبرام الصفقة الكبرى. سأفوز، وسيُبرمُ اتفاقٌ أفضل!». 

وعلى الرغم من ردِّ وزارة الخارجية الإيرانية بأنَّ إيران لن تبنِي سياساتِها على شؤونٍ داخليةٍ أمريكية، مِثل الانتخابات، وكذلك تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن أنَّ فُرصَ ترامب في الانتخابات القادمة كبيرة وتصل إلى نسبة 50 %، غيرَ أنَّ هذا لا يعني أن طهران لن تُتابِع سياستَها للتأثير على نتائج الانتخابات بصورةٍ أو بأُخرى. فالجناح المُتشدّد قَد يجد أنَّ ضيقَ الفجوة بين المنافسين فرصةٌ مناسبة لممارسة دورٍ ممكنٍ ومحتمل للتأثير على فُرصِ ترامب، لا سيما في ظلّ الضغوط واسعةِ النِطاق خلال المرحلةِ الحالية، سواءٌ مساعي تقويض بقية مكتسبات الاتفاق النووي، ومن ضِمنها مساعي تمديدِ حظرِ بيع السلاح إلى إيران الذي يُعدُ آخرَ مكاسب الاتفاق التي لم تستهدِفها الولايات المتحدة، أو مساعي إلغاء كافة الإعفاءات الأمريكية وتكثيف الضغوط التي يقودُها الجمهوريون في الكونجرس لوضع النظام الإيراني على حافةِ الإفلاس.

تطرح هذه المُلابسات عددًا من التساؤلات، أهمّها محفزات إيران للتدخل في الانتخابات الأمريكية، ومحاولة التأثير على مسارِها، والعوامِل المُستجدة المُؤثرة على فُرصِ ترامب في تجديدِ ولايتِه، والفُرصِ المُمكنة لإيران للتأثير على الانتخابات، والقيودِ التي تواجهُها طهران في هذا الصدد؛ ويمكن معالجة هذه التساؤلات مِن خلال ما يأتي:

أولًا: دوافِع إيران للتدخل في الانتخابات الأمريكية

مثَّلت الولاية الأولى لترامب كارثةً بالنسبة لإيران، فمنذُ انتخابه واجَهَت أشدَّ الإدارات الأمريكية تشددًا منذُ الثورة عام 1979م، حيث قوَضَت سياساتُه بعضَ مكتسبات الاتفاق النووي؛ إذ أعادت الولايات المتحدة كافةَ عقوباتِها النووية على إيران، بل ووسَّعَت من نِطاق العقوبات بصورةٍ غير مسبوقة، لتشمَلَ قطاعاتٍ اقتصادية رئيسية مؤثرة على الدخل القومي، ووَصَلت بصادرات النفط الإيراني إلى أدنى مستوياتِها، حيث انخفضَت عائداتُه من 100 مليار دولارٍ سنويًا قَبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، إلى 8 مليارات دولارٍ في 2019م، وفَرَضت حظرًا شاملًا على التعامُلات الإيرانية المالية مع العالم، باستثناء التعامُلات ذات الطابِع الإنساني، وأدرَجَت على قائمة عقوباتِها رموزَ النظام السياسي، بمن فِيهم المُرشد الأعلى علي خامنئي والمقرَّبين منه، وكذلِك صنَّفت الحرس الثوري كمنظمةٍ إرهابية، واستهدَفَت قائد فيلق القُدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سُلماني، وعزَّزَت من قُدرتِها لردع أي تهديداتٍ إيرانية بالتحالفِ مَع شركاءٍ إقليميين ودوليين.

ولا شكَّ أنَّ ولايةً جديدةً لترامب من وجهَة نظرِ إيران، لن تكون أقلَّ ضغطًا من سابِقتها، بل يستعدُ الجمهوريون للوصولِ بالضغوط القصوى إلى أبعدِ حدودِها، بوقف كافة الإعفاءات التي تَمنحُ إيرانَ متنفَّسًا لمواجهة الولايات المتحدة، مَع فرضِ مزيدٍ من الضغوط على الوجود الإيراني خارجَ الحدود، في سوريا واليمن والعراق والخليج العربي؛ ويَظهرُ ذلِك من قانون «قيصر» الذي استهدَف نظامَ الرئيس السوري بشار الأسد حليف إيران، وهذا القانون يُعيد الولايات المتحدة بقوةٍ إلى الفاعِلية في الملف السوري وترتيباتِه المُقبِلة، فضلًا عن الحوار الإستراتيجي مع العراق، ومحاولةِ تقويض ما تبقَّى من مكتسباتِ الاتفاق النووي عبرَ تمديدِ حظرِ بيع السلاح لإيران، ودفع إيران نحوَ انتهاكاتٍ واسعة لالتزاماتها النووية عبرَ إلغاء الإعفاءات النووية، ومؤخرًا طرَحَ الجمهوريون قانونًا لتشديدِ العقوبات على إيران وأذرُعها لفرضِ أمرٍ واقعٍ جديد على النظام.

وإلى جانِب الدوافِع الإيرانية للتأثير على فُرصِ ترامب، أغرَت تطوراتٌ على الساحة الداخلية الأمريكية إيرانَ بإمكانية التأثير على فُرصِ ترامب، فقَبلَ شهورٍ كانت حُظوظ الأخيرِ في الفوز بولايةٍ انتخابيةٍ جديدة كبيرةً، لكنْ تطوَّرت الأوضاعُ بصورةٍ مُتسارعة، وأصبح الإنجازُ الاقتصادي لترامب في مهبِّ الريح، بعدما عَصَفت أزمةُ «كورونا» (كوفيد-19) باستقرار الأوضاع في الداخِل الأمريكي، وأظهَرَت ضعف الأداء الحكومي على أكثرِ من مستوى وقطاع، من ضِمنها قطاعُ الصحَّة والتخطيط الفعَّال لمواجهة الجائحة، لا سيما بعدما تخطَّى عددُ الوفيات 100 ألف شخص، ويشارُ كذلِك إلى تأزُّم الأوضاع الاقتصادية، حيث تم إعلانُ إغلاقٍ تام في العديدِ من الولايات، وتراجَعَت معدلات التشغيل التي كانت محطَّ فخرِ ترامب، حيث تخطَّى عددُ العاطلين عن العمل 40 مليون عاطل، وتعرَّض سوقُ بيع النفط العالمي وأمريكا لأكبر صدمةٍ في تاريخ النفط، وباتَ العالم برمَّته ومعهُ القوة الاقتصادية الأكبر أمام أزمةٍ كُبرى بلا أُفق.

واتصالًا بتداعِيات «كورونا»، جاءت الاحتجاجاتُ التي عمَّت جميع الولايات على خلفِية مقتلِ المواطن الأمريكي جورج فلويد ذي الأصول الأفريقية على يد شرطيٍ أمريكي، لتضيف مزيدًا من التعقيد إلى المشهد الانتخابي أمام ترامب، الذي كان واثقًا من تجديد الثِقة فيه لولايةٍ جديدة، حيث أصبَحَ يواجِه الرئيسَ تحدياتٍ رئيسية مِن ضِمنها انهيار الدعم الذي كان يتلقَّاه؛ بسبب الوضع الاقتصادي الجيد في الداخل الأمريكي خلال السنوات الثلاث الأولى، ومع تلاشِي هذا الدعم اتجَه التركيز إلى سلوكِ الرئيسِ الشخصي أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، وقُدرتِه على إدارة الأزمات أو تسبُبه في تأجيجِها، وكذلِك إلى أدائه الشخصي وخطاباتِه المُتحيزة والاستِعلائية وتناقُضاته.

إنَّ ترامب يواجهُ كشفَ حسابٍ على سياساتٍ داخليةٍ مُرتبكة، وعِدائية، منها عِداؤه مع الصحافة، ومَع المؤسسات المُختلفة عبرَ تعييناتٍ وإقالاتٍ واسِعة لأسبابٍ شخصية، وصراعٍ مع شخصياتٍ بارِزة، وخطابٍ عُنصريٍ فَجّ، وكذلِك توجّهاتٍ خارجيةٍ صِدامية مع المؤسساتِ الدولية والحلفاء التقليديين عبرَ الأطلَسي، وصراعٍ مفتوحٍ مع الصين، وانسحابٍ من اتفاقياتٍ دولية؛ وكان يُمكن لكلِّ هذه التجاوزات أن تمرَّ لولا التطورات الأخيرة المُرتبطة بأزمة «كورونا» والكسادِ الاقتصادي الذي صاحبها، وأخيرًا الاحتجاجاتُ على مقتل فلويد، وردودِ فِعل ترامب على هذه الأحداث.

في ظلِّ هذه التطورات، تراجَعَت التوقُّعات المُتفائلة بحسم ترامب للسِّباق الانتخابي، وبعدما باتت التوقُّعات غيرَ محسومةٍ فمِن اليوم وحتى موعِد الانتخابات الأمريكية المُقبلة ستكون التطورات في الداخِل الأمريكي المُحدد الرئيسي لمَن سيكون الوجهَ القادم في البيت الأبيض، وستنتظرُ قوى خارجية دولية وإقليمية نتائجَ هذه الانتخابات، لما سيكون لها من أثرٍ كبير على السياسة الدولية كَكُل.

 ومُجمل القول إن تغيُّر استطلاعاتِ الرأي ومَنحَ الطرفين المُتنافِسين، دونالد ترامب (الجمهوري) وجو بايدن (الديمقراطي) فُرصًا مُتقاربةً في الفوز يُغرِي إيرانَ بمحاولة التأثير على نتائج الانتخابات، وذلك بعكسِ وجودِ توقُّعاتٍ محسومة تحديدًا لترامب، لهذا لا يُستَبعدُ دورٌ ما لإيران للتأثير على الانتخابات الأمريكية.

ثانيًا: أدواتُ وفُرص تأثير إيران

 نظرًا لإدراك النظام الإيراني بأنَّ بقاءَ ترامب في البيت الأبيض يُمثِّل خطرًا كبيرًا على إيران، بحيث يدفعُ النظامَ إلى مواجَهةِ أزمةٍ أشدُّ وطأةً من تِلك الأزمةِ التي واجَهَها في فترةِ ولايته الأولى، أو الرضوخ في النهاية لشروط ترامب والقبول بصفقةٍ قَد تكون مُذلةً أو قاصِمةً للنظام، ومبدّدةً لشرعيته ولمكتسباته داخليًا وخارجيًا، فإنَّ إيران ستُوجّه جهودَها لإضعاف فُرصِ ترامب في الفوز بولايةٍ ثانية.

في هذا الإطار قَد تتجهُ إيران إلى التأثير على حظوظ ترامب، من خلال إحراجِه عبرَ تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة في المنطقة خلال الشهور القادمة، وذلك على غِرار ما حدث في أزمة الرهائن التي نجَحَت إيران بتوظِيفها ضدَّ الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر؛ وربما تتخطَّى المواجهةُ حدودَ المنطقة واستهداف المصالح الأمريكية في الخارج عبرَ أحد أذرُعها كحزب الله اللبناني.

وتُشير الشواهد خلال الفترة الماضية إلى عودة إيران إلى سياسة التصعيد غيرِ المباشر، فقد احتكَّت الزوارق الإيرانية السريعة بالقِطَعِ العسكرية الأمريكية في الخليج العربي، وضَغَطت طهران لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق من خلال أدواتٍ سياسية وأُخرى عسكرية، وهو ما اضطرَّ الولايات المتحدة إلى فتحِ حوارٍ إستراتيجي مع الحكومة العراقية، فضلًا عن إعادة تموضُعٍ لقواتِها لتفادي الهجمات العسكرية المُتواصلة على قواتِها من الميليشيات المحسوبة على إيران في العراق؛ وتُعدُ العراق أحد أهم المناطق التي تمِلك إيران فيها قدرةً على التأثير على الولايات المتحدة، ورأينا كيفَ تم توظيفُ الهجوم على السفارة الأمريكية وقتل السفير الأمريكي في ليبيا عام 2012م في التأثير على حظوظ وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلنتون، وإيران ربّما تكون مستعدةً لعمليةٍ على هذا النَمَط من خلال وكلائها في أيٍّ من دول العالم، من أجل التأثير على حظوظ ترامب، وبالفعل شنَّت ميليشيا «حزب الله» العراقي هجومًا في 11 و14 مارس 2020م أسفَرَ عن مقتل جنديين أمريكيين وآخرَ بريطاني، وأصابَ جنودًا آخرين، ولا شكَّ أن تزايد وتيرة هذه الهجمات مُتوقعٌ مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية.

وربما تتجهُ طهران إلى تسخين الصراع في مياه الخليج العربي، عبرَ استهداف حركةِ الملاحة، والتهديد بإغلاق مضيق هُرمز، الممرِّ المائي الأهم لإمدادات النفط العالمية، أو الاحتكاك بالقوات البحريَّة الأمريكية كما جرى في أبريل 2020م، وقَد بعَثَت إيران برسالةِ تهديدٍ عبرَ بناءِ نموذجٍ لحاملة طائرات قُبالَة ساحِلها الجنوبي لإجراء تدريباتٍ مُحتملة بالذَّخيرة الحية.

وربما تستهدفُ إيران حلفاءَ الولايات المتحدة بمزيدٍ من الضربات المؤثرة، كتلِك التي استهدفت معاملَ تابعةً لأرامكو في بقيق وخريص بالسعودية، وذلك لإظهار ضعف إستراتيجية ترامب والتشكِيك في وعودِه لحلفائه، بل إضعاف إستراتيجيته تجاهَ المنطقة وتجاهَ إيران على الأخص، ورغم أن توجيه الولايات المتحدة ضربةً للجنرال سُليماني في يناير 2020م قد قطَعَ الطريقَ على تلِك التهديدات الإيرانية، غيرَ أنها يُمكن أن تعودَ مع اقتراب موعِد الانتخابات.

ربما يرى البعض أنَّ التطورات في الشرق الأوسط لها تأثيرٌ محدود على الانتخابات الأمريكية، لكنَّ تطوير إيران لهجماتِها سيكون قضيةً انتخابية متنازعٌ عليها بين المتنافسين وخلال المُناظرات الانتخابية، وسيُثير الشُكوك في قُدرة ترامب على تجنُّب جرِّ الولايات المتحدة إلى الحرب، كما قد يؤثر على صورة الرئيس في حالة عدم إدارتِه للأزمة بصورةٍ مُقنعة، وسيسمحُ ذلِك لمُنافِسه بايدن بتوجيه انتقاداتٍ حادة لسياسةِ ترامب تجاهَ إيران تضافُ إلى الانتقادات الواسعة لطريقة إدارته للسياسة الخارجية، وهي الأُمور التي لا يُمكن استبعادُ تأثيرها على شعبية ترامب.

قَد يزيدُ من احتمالات لجوءِ إيران إلى التصعيد أنَّ الصراع بين المتنافسين أصبح محتدمًا، وأن حظوظَ ترامب الكبيرة قَد تقلَّصت بعدَ تفشّي «كورونا» وتداعِياته على الداخل الأمريكي، وأصبَحَت استطلاعاتُ الرأي تُظهِرُ تقارُبًا بين المتنافسين، ومن ثم فإن مزيدًا من الإحراج الخارِجي لترامب قَد يُرجِّح الكفةَ لصالِح بايدن، وهذا بعكس ما إذا كانت المؤشرات متباعدةً لأيٍ منهُما، إذ في هذه الحالة ربما تُفضلُ إيران عدَمَ التدخل وانتظارَ نتائج الانتخابات؛ وقد يُغري إيران بالاندفاع نحوَ إثارة أزمةٍ إقليمية في مواجهة ترامب قراءةَ التحولات الإقليمية والدولية لصالِحها، باعتبار الصِّراع المفتوح الذي أثاره ترامب مع القوى الدولية الرئيسية، ومع المؤسسات الدولية المُختلفة، ووجودِ رفضٍ دوليٍ لخطابِه وممارساتِه، وعقوباتِه المُتعددة على روسيا والصين، وهو ما قَد تقرأُه طهران على أنه استقطابٌ يحمِيها من ردودِ الفِعل الأمريكية، ولو بطريقةٍ غيرِ مباشرة.

كذلِك يُشجِّع إيرانُ إدراكها بأنَّ المِزاج الأمريكي غيرُ راغبٍ في الانخِراط بمواجهاتٍ عسكرية، وهو ما ظَهَر في القانون الذي أقرَّهُ الكونجرس لمنعِ ترامب من استخدام القوةِ العسكرية ضدَّ إيران، والذي استخدَمَ ترامب ضدَّه الفيتو لعدمِ تقييد وغلِّ يدِه عن التعامُل في مواجهة أي ظرفٍ طارئ أو واقعٍ تفرِضُه إيران في الفترةِ الحرجةِ المُقبلة.

لدى إيران جهودٌ أقلَّ تأثيرًا كالقرصنة، وتسلِيح وسائل التواصل الاجتماعي، والهجمات على البُنية التحتية للانتخابات، ويُساعد إيرانَ وجودُ بُنيةٍ تحتيةٍ سيبرانية، وقُدرةٍ على شنِّ هجماتٍ إلكترونية من أجل التأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية، حيثُ عززت إيران خلال السنوات الأخيرة من قُدرتِها على شنِّ هجماتٍ إلكترونية مُنسقة وتوظِيفها لصالِح سياساتِها، وقد تعرَّضت العديدُ من المؤسسات الأمريكية لهذه الهجمات خلال الفترة الأخيرة، وتُعدُ تلِك الوسيلة مناسبةً لقِلَّة تكلُفتها، وتوفر إمكانياتِها، فضلًا عن إمكانية استخدام بعض اللوبيات التابعةِ لها بغَرَضِ الترويج لعدم انتخاب ترامب، وذلِك من خلال نفوِذ تلِك اللوبيات في مراكز البحث والجامعات ووسائل الإعلام، ونفوذِها وعلاقاتِها مع بعض الشخصيات والمؤسسات في الولايات المتحدة.

ثالثًا: التحديات والمعوقات أمام إيران

لا تأمَنُ إيران ردودَ فِعل ترامب على أيِّ اعتداء، وهو الأمرُ الذي قَد يدفعُ إيران إلى عدمِ التصعيد خلال المرحلة التي تسبِق الانتخابات، لا سيما وأن ترامب قَد يستغل الموقف التصعيدي ذاته من أجل تحسين مواقفه الانتخابية، ويشنُّ هجومًا ثانويًا غيرَ مباشرٍ على إيران، وربما مباشر ضدَّ منشآتِها النووية أو الثقافية كما هدَّدَ من قَبل، مستغلًا تقاريرَ وكالة الطاقة الذرية التي تُفيد بتجاوز إيران لالتزاماتها النووية، وتذمُّر الأوروبيين من الخُروقات الإيرانية، أو الرضوخِ لضغوطِ الصُقور في إدارته والحزب الجمهوري وبعضِ حلفائه الإقليميين كإسرائيل في وقتٍ حرجٍ انتخابيًا.

يعززُ هذا الخيار أنَّ انخراطَ الولايات المتحدة في صراعاتٍ أو مواجهاتٍ خارجية قُبَيل الانتخابات لم يكُن حائلًا دونَ إعادة انتخاب الرئيس في ظروفٍ مُشابهة، على سبيل المثال أبراهام لينكولن فاز بولايةٍ ثانية أثناء فترةِ الحرب الأهلية، وفرانكلين روزفلت فاز بولايتِه الثالثة في عشية الحرب العالمية الثانية، وكذلك فاز جورج بوش الابن بولايتِه الثانية بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003م، لكنَّ هذا التوجه ينطوي على مخاطرةٍ كذلِك، حيث لم ينجَح بوش الأب في الحصول على ولايةٍ ثانية في عام 1992م رغم نجاحِه في حرب تحرير الكويت وانهيار الاتحاد السوفيتي في عهدِه.

كذلِك تُعد تكلُفة إثارة أزمةٍ دولية أو صراعٍ في الوقت الراهن باهِظةَ التكلفةِ بالنسبة إلى إيران، حيث تحتاج إيران وحتى أكتوبر المُقبل -أي بفاصلِ أسابيعَ مِن الانتخابات- إلى استمرارِ الدعم الدولي للاتفاق النووي واستحقاقاتِه، وذلك للحيلولةِ دونَ تمرير الولايات المتحدة قرارًا من مجلس الأمن بموافقةِ أعضائه على تمديدِ حظرِ السلاح على إيران، ليس هذا وحسب، بل قَد تكون إثارةُ أزمةٍ أو صراعٍ أو تصعيدٍ غير مسبوق سببًا في تغيُّر مواقف القوى الدولية واستعادةِ العقوبات الدولية بكامِلها، وانتهاء فاعِلية الاتفاق النووي.

ويخشَى النظام الإيراني خلال المرحلة الراهنة من تزايد عُزلته، وانعكاسات فرض مزيدٍ من الضغوط على شرعية النظام وبقائه، خصوصًا في ظلِّ تفشّي وباء «كورونا»، والتداعيات الاقتصادية التي خلَّفَها انتشار الوباء على نطاقٍ واسع، وسوءِ إدارة الحكومة بالتعامُل مع الأزمة، وهو ما قَد يحدُّ من طموحاته لإثارة أزمةٍ مع الولايات المتحدة لأغراضٍ انتخابية، لا سيما إذا ما كان النظام لديه ثقةٌ في القدرة على تحمل مزيدٍ من الضغوط، أو لديه خُطةٌ بديلة للتَّعاطي مع ترامب لولايةٍ ثانية.

إضافةً إلى ذلك هناك العديدُ من القيود والتحدّيات التي تحُولُ دونَ وجود تأثيرٍ قوي على مسار الانتخابات، فعلى مستوى الداخل الأمريكي، لا تُمثِّل الجالية الإيرانية ثقلًا كبيرًا داخل المجتمع، فضلًا عن أنَّ أغلَبَهم معارضون للنظام الإيراني، وبعضهم هاربٌ من قمعِه وبطشِه، كما لا تملِك إيران قدرةً فعلية على التأثير على مسار الانتخابات، وبالأساس قلَّما نجحت دولةٌ تُعدُ معاديةً في التأثير على مسار انتخاباتٍ في دولةٍ أُخرى مهما بلغت قوة تأثِيرها وثِقلِها، فما بالُنا بإيران، التي بينها وبين الولايات المتحدة هوٌة، وتفاوتٌ كبيرٌ في القوة والتأثير، كما أنَّ الانطباعات الشعبية عنها في الداخل الأمريكي سلبيةٌ إلى درجةٍ بعيدة.

حتى المال السياسي الذي لهُ دورٌ بالِغُ التأثير في الحملات الانتخابية للمرشَّحين وفي حشدِ وسائلِ الإعلام خلفَ برنامجِه، لا تملِكُ إيران منابرَ إعلاميةً مؤثرة، ولا فوائضَ مالية تُساعدُها على ذلِك، خصوصًا في ظلِّ الأزمة الحالية التي باتَت تُهدِّد قُدرةَ الدولة على الوفاءِ بالتزاماتِها الأساسية، ولا سيما التزاماتِها الخارجية الحيوية.

خلاصةُ القول إن إيران وعلى الرغم مما تُعلِنه بأنها لا تبنِي سياساتِها على مواقف داخلية أمريكية، ومِنها الانتخابات، غيرَ أنها ستقومُ بتوظيفِ ما لديها من أوراق ليفوزَ بايدن، لأنها لم تواجِه سياسةً متشددةً وعقوباتٍ شاملة كتِلكَ التي واجهتها في ظلِّ إدارة ترامب، واستمرارُه سيفرضُ مزيدًا من الضغوط على إيران وسيُقوّض الاتفاقَ النووي بالكلِّية، بل قَد تضعُ ضغوطُه المُكثفة النظامَ على حافةِ الانهيار، في حين أن نجاحَ بايدن سيفتحُ لإيران أفقًا جديدةً لإعادة التفاهُم مع الولايات المتحدة، ربما لا تحصُل على المكاسِب القديمة ذاتَها بعد توقيع الاتفاق النووي، لكن بالتَّأكيد ستكون خسائرُها أقل.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير