انهيارٌ قياسي للعملة الإيرانية.. قاعٌ جديد لن يكون الأخير

https://rasanah-iiis.org/?p=21464

رقمٌ قياسيٌ جديد لانهيار سعر العُملة الإيرانية أمام العُملات الأجنبية، بعد أن كسرَ الدولار الواحد حاجزَ الـ 21 ألف تومان، بعد أيّامٍ من إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية في التاسع عشر من يونيو 2020م، قرارًا يُطالب فيه إيران رسميًّا بالتعاون الكامل مع الوكالة، والكفِّ عن منع مفتِّشي الوكالة من دخول مواقع مُشتبَهٍ فيها، ومع هذا، وصف كلٌّ من الرئيس الإيراني حسن روحاني ومحافظ البنك المركزي عبد الناصر همتي الأمرَ بـ «المؤقَّت»، وأنّ «الوضع تحتَ السيطرة»، وسيعود كما كان سابقًا.

ونناقش هُنا ما يحدُث في أسواق الصرف الإيرانية، في ضوء الظروف الاقتصادية والدولية الراهنة، وانعكاساتِ انهيار العُملة المحلِّية على النظام وعلى الإيرانيين، وخيارات النظام الإيراني للتعامُل مع الأزمة الراهنة. 

أوّلًا: قممٌ جديدة للدولار ومحاولاتٌ يائسة لدعم العُملة المحلِّية

كان سعر الدولار الأمريكي الذي يُفضِّل عامّةُ الإيرانيين حيازته أقلّ من 5 آلاف تومان في أبريل 2018م بالسوق الحُرّة، أي قبلَ الانسحاب الأمريكي من الاتّفاق النووي بشهرٍ واحد فقط، وما لبِث أن دخلَ في سلاسِل متتالية من الارتفاعات، عقِب إعادة فرضِ العقوبات الأمريكية، حتّى كسرَ حاجز الـ 21 ألف تومان في بداية يوليو الجاري، ليكون ارتفاعُه الأخير قد بلغَ نسبة 320% مقارنةً بأبريل 2018م، و 600% مقارنةً بعام 2012م، أيّ قبلَ 8 سنوات فقط.

كما تتّسع حاليًّا الفجوة إلى 5 أضعاف، بين سعر الصرف الحُر واسِع التداوُل، وسعر الصرف الرسمي (4200 تومان/ دولار) المقصور تداولُه على استيراد بعض الأدوية والأغذية الأساسية، وهذه نسبٌ قياسية بكلّ الأحوال، تضُرّ بالنظام وبالشعب على حدٍّ سواء.

شكل بياني (1): سعر صرف الدولار أمام التومان في السوق الحُرّة (2013-2020)

شكل-بياني-1-سعر-صرف-الدولار-أمام-التومان-في-السوق-الحُرّة-2013-2020

المصدر: .bonbast.com

كان أوّل مرَّةٍ يكسر فيها سعر الدولار الأمريكي حاجزَ الـ 10 آلاف تومان في 28 يوليو 2018م، وكان ذلك بمثابة سقفٍ أو قمَّةٍ جديدة في سُلَّم صعود الدولار بلغة محلِّلي الأسواق المالية، لكن السعر لم يهدأ عند هذا المستوى، وسُرعان ما تحوَّلت القمَّة الجديدة إلى القاع لاحقًا، ليُسجِّل الدولار 19 ألف تومان في 26 سبتمبر من نفس العام، وبعد تدخُّلات الدولة والحرس الثوري بضخّ الدولار في السوق، هبطَ سعره قليلًا لكنّه لم يستطع أن يهبط إلى أقلّ من 10 آلاف تومان، أيّ اختراق القاع (الذي كان قمّةً سابقًا).

بمعنى آخر، هناك احتماليةٌ كبيرة بأن يكون الإيرانيون أمام سيناريو مستقبلي مكرَّر، يتحوَّل فيه سعر الدولار البالغ أكثر من 20 ألف تومان من سقف/ قمّة، إلى قاع، ترتدُّ الأسعار منه صعودًا لمستوياتٍ أعلى مستقبلًا، حتّى إن انخفضت الأسعار على مدار الأيام والأسابيع المقبلة، بفعل التدخُّلات وضخّ الدولار في السوق بشكلٍ مؤقَّت لتهدئة الرأي العام.

وكان من الملفت تصريحٌ أدلى به رئيس البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي، خلال الأيام الماضية بأنّ انهيار العُملة المحليِّة أمام الدولار هو أمرٌ مؤقَّت، مع وعدِه باستعادة السيطرة على أسعار الصرف، وهو نفس التصريح الذي أدلى به في ديسمبر 2019م، عندما ارتفعَ سعر صرف الدولار إلى 13 ألف تومان، وسُرعان ما كشفت الأيّام عن صعوبةِ الوفاء بالوعد.

سيحاول النظام الإيراني عبرَ البنك المركزي وبمساعدةٍ من القِوى النافذة في الداخل، والتي تمتلك موارد مالية كبيرة كالحرس الثوري، التدخُّل لضخّ مزيدٍ من الدولارات في السوق، ومحاولة وقفِ تراجُع العُملة المحلِّية. لكن المحاولات السابقة كشفت عن أنّ كلًّا من الطلب المحلِّي المرتفع على الدولار، والضغوط الخارجية المفروضة على الاقتصاد الإيراني، كانت أكبرَ من قُدرات النظام على مواصلة دعم قيمة العُملة أمام الدولار؛ ما يجعلُه يعجزُ تدريجيًّا عن مواصلة تقديم الدعم، وبالتالي تركُ السعر لتحديد السوق. خاصّةً أنّ الحكومةَ تتحمَّل بالفعل فاتورةً مرتفعة لدعم واردات بعض السلع الغذائية الأساسية والدواء (بسعر 4200 تومان للدولار).

ثانيًّا: ضغوط اقتصادية وعوامل نفسية

يلعب العامل النفسي لدى عامّة الإيرانيين دورًا في الانخفاض الحادّ، الذي تشهده العُملة المحلِّية هذه الأيّام، فأغلب الإيرانيين يعتبرون العُملات الأجنبية ملاذًا آمنًا لحفظ مدّخراتهم المالية، مع تدنِّي ثقتهم في العُملة المحلِّية.

 وتحاول طهران تقليل السيولة في أيدي الإيرانيين، والسيطرة على معدَّلات التضخُّم المرتفع، عبرَ جذب مدّخرات الشعب إلى سوق الأسهم، من خلال طرح ما يُسمَّى بـ «أسهم العدالة» (عرض أسهم شركات عامّة للبيع بأسعارٍ متدنِّية)، وثنيُهم عن شراء وتخزين الدولار واليورو، ولهذا السبب، انتعشت مؤشِّرات البورصة خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة.

لكن على ما يبدو أنّ الدولار واليورو لا يزالان يُشكِّلان جانبًا كبيرًا من اهتمام صغار وكبار المستثمرين على حدٍّ سواء في إيران، لذا فإنّ الإقبال يتزايد عليهما في أوقات الخوف من تقلُّبات المستقبل، كما يحدث حاليًّا.

وأصبح لدى عامّة الإيرانيين خبرةٌ في كيفية حماية مدّخراتهم، قبيل كلّ أزمةٍ مرتقبة لبلادهم مع القوى والمنظَّمات الدولية، فيتهافتون لتحويل مدّخراتهم التومانية للعُملات الأجنبية، مثلما حدث عقِب قرار وكالة الطاقة الذرِّية لإيران، ويحدُث مع كلّ أزمةٍ إيرانية مع المجتمع الدولي.

وقد ساعد في حدوث الانهيار السريع لسعر العُملة المحلِّية، استمرارُ الضغوط الاقتصادية القوية الواقعة على الاقتصاد الإيراني مُنذ عامين؛ بسبب فرضِ العقوبات الأمريكية، علاوةً على تأثيرات انتشار فيروس «كورونا» على النشاط الاقتصادي محلِّيًّا ودوليًّا، وشكَّلا معًا ضغوطًا على موارد البلاد من العُملات الأجنبية المُتحَصَّلة من صادرات النفط والغاز، وتجارة إيران غير النفطية مع دولِ الجوار، وعائدات السياحة.

وأكَّد نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري انخفاضَ إيرادات إيران الدولارية من صادرات الطاقة من 100 مليار دولار سنويًّا في عام 2011م إلى 8 مليارات دولار فقط العام الماضي، كذلك تقدِّرُ وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلّة «الإيكونوميست» البريطانية تحقيقَ الميزان التجاري الإيراني لعجزٍ غير مسبوق بقرابة 7 مليارات دولار خلال 2020م، وعجزٍ بحوالي 9% في الموازنة الحكومية، بالاقتران مع معدَّلاتٍ مرتفعة من البطالة والتضخُّم، وتتآكل احتياطات البنك المركزي الإيراني بسرعةٍ لتستقرّ عند معدَّل أقلّ من 70 مليار دولار، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.

ثالثًا: خيارات إيرانية مطروحة لتخفيف الضغوط

تحاول طهران إيجاد مخارج لوضع العُملة المتدهوِر والضغوط الشعبية خاصّة، والوضع الاقتصادي للبلاد عامّة، وهو أمرٌ في غاية الصعوبة، في ضوء ما تعيشُه إيران من عقوباتٍ دولية وآثار تفشِّي جائحة «كورونا». لذا سيكون النظام الإيراني أمام مجموعةٍ من الخيارات المطروحة، لا لعلاج أزماتها الاقتصادية ومشكلاتها المالية، بل لتخفيف الأضرار قدرَ المستطاع:

1- البحث عن موارد مالية جديدة والتنقيب عن المستحقَّات المنسية، كالديون المسكوت عنها، والمستحقَّات المالية النفطية المُحتجَزة لدى بعض البنوك العالمية؛ بسبب العقوبات الأمريكية، والمقدَّرة ما بين 100 إلى 130 مليار دولار بحسب السُلطات الإيرانية، منها حوالي 9 مليارات دولار مؤكَّدة لدى كوريا الجنوبية، وطالبت بها إيران خلال شهر يونيو الماضي، ورفضت كوريا خوفًا من التعرُّض للعقوبات الأمريكية، ما أثار الخلاف بين البلدين دون أن تصل طهران إلى أيّ نتيجة.

أمّا داخليًّا، فتُجبرُ الحكومة المصدِّريين على إعادة حاصلات صادراتهم من العُملة الأجنبية لها واستبدالها بالمحلِّية، وهدَّدت بإشهار ونشر أسماء المخالفين في وسائل الإعلام، بجانب توقُّفها عن تغذية المستوردين بالعُملات الأجنبية.

كما أعاد النظام إحياء مشروعٍ قديم لملء خزائنه الفارغة بالمال، يُطلَق عليه «أسهُم العدالة»؛ لبيع أسهم 49 شركةً عامّةً مملوكةً للدولة في البورصة المحلِّية بأسعارٍ مغرية للمواطنين، تُقدَّر إجمالي قيمتها بـ 369.5 ترليون تومان (قرابة 88 مليار دولار بالسعر الرسمي).

2- الممرّ أو «الكوريدور» العراقي، لاستيراد ما تحتاجُه إيران عبرَ المنافذ العراقية، ويأتي ضِمن ما تخطِّط له طهران للالتفاف على الحصار النفطي والتجاري، ورُبّما محاولة تصدير البضائع الإيرانية للخارج، تحت شعارٍ وهمي «صُنِع في العراق» مقابل رسومٍ للخزينة العراقية، أو مقابل الديون العراقية لإيران المُقدَّرة بـ 8 مليارات دولار، كمتأخِّرات لاستيراد الغاز والكهرباء من إيران خلال العامين الماضيين.

وقد وضعت إيران نُصبَ أعينها هدفَ تصدير ما قيمتُه 41 مليار دولارٍ من البضائع غير النفطية بنهاية العام الحالي، أو ما يعادل نفس قيمة وارداتها المستهدفة خلال العام لتخفيف الطلب المحلِّي على الدولار؛ وفي الأغلب لن تتمكَّن من تحقيق هذا الهدف، في ضوء الظروف الراهنة وتفشِّي فيروس «كورونا»، إلّا بمساعدةٍ قوية من الجار العراقي. لهذا قام رئيس البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي في السابع عشر من يونيو الماضي بزيارة العراق ومقابلة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي أكَّد وقوفَ بلاده إلى جانب إيران لفكّ الحصار عنها.

3- التسليم بالأمر الواقع والرهان على تحمُّل الإيرانيين كالعادة، أيّ القبول بتحمُّل التبعات الاقتصادية السلبية المترتِّبة على انهيار قيمة العُملة الإيرانية، في مقابل استمرار سياسات إيران وسلوكها الخارجي محلَّ الخلافِ مع المجتمع الدولي، على الأقلّ إلى أن يحينَ موعدُ الانتخابات الأمريكية بعد خمسة أشهر.

 رُبّما يكشفُ هذا التوجُّه ما قالهُ رئيس البنك المركزي الإيراني في مقابلةٍ مع التليفزيون الرسمي الإيراني مساء الاثنين 22 يونيو 2020م، بأنّ بلاده «لا يُمكن أن تُوقِف جميع سياساتها من أجل الحفاظ على قيمة الريال أمامَ الدولار».

 أو بمعنى آخر، إنّ انهيار العُملة هو ضريبة السياسات الإيرانية، ولا بُدّ للشعب من التحمُّل والتكيُّف معها، في مقابل إعلاء طموحات النظام الأيديولوجية وأهدافه الخارجية.

لكن في المقابل سيتوجَّب على الإيرانيين تحمُّل ضرائب لن تقفِ عندِ حدِّ انهيار العُملة المحلِّية وحسب، بل سيكون هناك تبعاتٌ أخطر حاليًّا ومستقبلًا، مِثل:

أ- ارتفاع تكلفة المواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة اللازمة لعمليّات الإنتاج.

ب- ارتفاع معدَّلات التضخُّم، وتضاعُف أسعار المنتجات المستوردة خاصّةً.

ج- انخفاض القوّة الشرائية لعامّة الإيرانيين والفقراء تحديدًا، وتآكُل الطبقة الوسطى.

د- زيادة التفاوُت الطبقي.

هـ- ارتفاع الطلب على المساكن والذهب من قِبل المستثمرين وغلاء أسعارهما، وتكشف الإحصاءات الإيرانية عن ارتفاع الإيجارات بنسبة 30-50% في يونيو على أساسٍ سنوي، بينما وصلَ التضخُّم إلى 60% بالنسبة إلى السِلع الأساسية.

خلاصة:

إنّ العُملة المحليِّة لإيران بكسرها حاجزَ الـ 20 ألف تومان للدولار الواحد، تكون قد بلغت قاعًا جديدًا وخطيرًا، وقد ترتفعُ مؤقَّتًا أمامَ الدولار بفعلِ تدخُّلات النظامِ لدعم قيمةِ العُملة وتهدِئة الرأي العام والحديث عن انتصاراتٍ وهميّة. لكنَّ الاحتمالَ الأكبر أن يكون هناك مزيدٌ من الهبوطِ المستقبلي، إذا ما استمرَّ تردِّي الأوضاع الاقتصادية، وتواصلت خلافاتُ إيران مع المجتمع الدولي، وبالتالي سيُشكِّل الحدّ 20 ألف تومان للدولار قاعًا جديدًا للتومان وحاجزًا يصعُب اختراقُه، لتبدأ من عنده سلسلةٌ جديدة من الهبوط مستقبلًا، كما بدأت من نُقطة 10 آلاف تومان في يوليو 2018م، إلى أن وصلَ إلى ما نحنُ عليه اليوم؛ ما سيضعُ مزيدًا من الضغوط المعيشية على حياة الفُقراء والطبقة المتوسِّطة التي ستتآكلُ يومًا بعد يوم، وسيضطرُّ النظامُ للبحثِ كالعادة عن مخارجَ والتفافاتٍ لإدارة الأزمة بأقلّ قدرٍ من الخسائر لاستمرارِ بقائه، كبيعِ ما يُسمَّى بـ «أسهُم العدالة» لإعادة ملء خزائنه الفارغة، واستخدامِ العراق كممرٍّ آمن، والرهانِ على مقدرةِ الشعبِ على التحمُّل، وانتظارِ نتيجةِ الانتخابات الأمريكية بعدَ خمسةِ أشهر.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير