أثر رحيل هوك على مسار الضغوط الأمريكية على إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=21766

أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 06 أغسطس 2020م، أنّ براين هوك المبعوث الأمريكي الخاصّ لإيران سيتنحَّى عن منصبه دون تحديد سببٍ لذلك، وكتب في تغريدةٍ بعد هذا الإعلان أنّ هوك سينتقل إلى القطاع الخاصّ؛ وقد اكتسب هذا الإعلان أهمِّيةً خاصّة، باعتباره تنحٍّ غير متوقَّعٍ في مرحلةٍ حسَّاسة من المهمَّة التي كان يقوم بها هوك في إدارة الرئيس دونالد ترمب، كما أنّها تركت خلفها العديد من التساؤلات حول أسباب هذا القرار المفاجئ، وتأثيره على إستراتيجية الضغوط القصوى، التي صاغها وقام على مباشرتها منذ تولِّيه مهمَّته في 2018م، والمسار المتوقَّع للسياسة الأمريكية تجاه إيران خلال المرحلة المقبلة.

أوّلًا: هوك وحدود مسؤوليته عن ملفّ إيران

هوك رجل قانون تكنوقراط، انضمّ إلى وزارة الخارجية في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، ولعب هوك دورًا بارزًا في تأطير التوجُّهات الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب تجاه إيران، بعد أن ضمّه وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون إلى فريقه في أوائل عام 2017م، وبعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018م.

وأعلن بومبيو عن تشكيل مجموعة عمل بشأن إيران في 16 أغسطس 2018م، برئاسة براين هوك، الذي أصبح الممثِّل الخاصّ لوزارة الخارجية الأمريكية حول إيران، وهذه المجموعة تولَّت مهمَّة تنفيذ إستراتيجية «الضغوط القصوى»، من أجل تغيير سلوك إيران، وكان ضمن أهداف هذه المجموعة، تنسيق أنشطة وزارة الخارجية الأمريكية المتعلِّقة بإيران، والتنسيق بين الولايات المتحدة وحلفائها بشأن العقوبات على إيران، ومتابعة الدول التي تواصل علاقاتها التجارية مع طهران.

كان هوك حتّى الإعلان عن استقالته يتابع تنفيذ إستراتيجية الضغوط القصوى على إيران، وكان يرى أنّ «الضغط الاقتصادي والعُزلة الدبلوماسية والتهديد الموثوق باستخدام القوّة العسكرية للدفاع عن مصالحنا»، من شأنه أن يجبر إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات بشروطٍ أمريكية. ولم تكُن هناك أيّ بوادر أو مؤشِّرات تنذر باحتمال رحيله، بل كان ترمب يشيد بإستراتيجية الضغوط القصوى على إيران، التي هندسها براين هوك، ويقول إنّها وضعت إيران تحت ضغوطٍ غير مسبوقة، حتّى بيان استقالة هوك الذي أعلنه بومبيو قد أشاد بجهود هوك، وقال إنّه «حقَّق نتائج تاريخية في مواجهة النظام الإيراني»، ونجح في الإفراج عن الأسيرين الأمريكيين لدى إيران، مايكل وايت وشيو وانغ، وقال بومبيو: «لقد كان مستشارًا موثوقًا لي وصديقًا جيِّدًا».

هوك نفسه كان يشيد بالإستراتيجية، ويقول إنّها حرمت النظام الإيراني من موارده المالية، ومنعته من تمرير مليارات الدولارات إلى الميليشيات التابعة له في المنطقة، وأثَّرت على شرعية النظام في الداخل بصورةٍ غير مسبوقة، وكان من ثمراتها موجاتُ احتجاجٍ متتابعة ضدّ النظام في الداخل والخارج، نالت من شرعية النظام ومن قدسية قياداته الدينية.

على هذا الأساس، أثار توقيت رحيل هوك جدلًا كبيرًا؛ لأنّه لم يتمّ الإعلان عن أسبابٍ واضحة من وزارة الخارجية، باستثناء ما قاله بومبيو في تغريدةٍ لاحقة بانتقال هوك إلى القطاع الخاصّ، ورغم أنّ هوك نفسه قال «لا يوجد وقتٌ جيِّدٌ للمغادرة»؛ لأنّ المواجهة مع إيران أصبحت سلسلةً دائمة من الاستفزازات والردود والجهود المبذولة لتغيير سلوك طهران، لكن لا يمكن تناول رحيله بعيدًا عن نتائج جهوده في ملفّ إيران، وتوقُّعات ترمب في هذا الملفّ.

ثانيًّا: هل أخفق هوك في مهمَّته؟

حققت الإستراتيجية التي صاغها هوك لتعديل سلوك إيران على مدى سنتين نجاحاتٍ مهمَّة، حيث قوَّضت بعض وأهمّ مكاسب الاتفاق النووي، وحرمت إيران من الاستفادة من فوائده الاقتصادية، وألغت بعضًا من الإعفاءات النووية، بالإضافة إلى توسيع نطاق العقوبات بصورةٍ غير مسبوقة، الأمر الذي حرم إيران من مصادر العُملة الأجنبية، ومن تطوير علاقاتها التجارية والمصرفية مع العالم الخارجي، وفرضت قيودًا على العديد من قيادات النظام ورموزه ومؤسَّساته والشركات المتورِّطة في أنشطته الخبيثة، وقلَّلت من دعم النظام للميليشيات في الخارج، وأعادت بناء شراكةٍ إقليميةٍ ودولية لمواجهة خطر إيران، فضلًا عن تراجع شعبية النظام في الداخل، وبيَّن الحواضن الشيعية في عددٍ من دول المنطقة كالعراق، ولبنان.. إلخ.

حتّى احتجاج الولايات المتحدة باستخدام حقّها كشريكٍ في الاتفاق وفقًا للقرار 2231 وتفعيل آلية فضّ المنازعات غير مضمون، حيث يواجه استخدام الولايات المتحدة هذا الحقّ اعتراض روسيا والصين لأسبابٍ قانونية، باعتبارها قد أعلنت انسحابها من الاتفاق النووي في مايو 2018م بصورةٍ أُحادية، ما يحرمها من الاستفادة من تفعيل هذه الآلية، بالإضافة إلى أنّ تفعيل هذه الآلية يحتاج إلى وقت، وقد لا يُسعف ترمب ذلك قبل انتخابات نوفمبر 2020م.

من جهةٍ ثالثة، لم يتمّ تقويض الاتفاق النووي بصورةٍ كاملة حتّى الآن، ويظلّ بقاؤه انتكاسةً لوعود ترمب الذي وعد بإنهاء آثاره، بل على العكس تخلَّت إيران عن بعض قيود الاتفاق، وخفَّفت من التزاماتها النووية، وشرعت في تعزيز قدراتها على التخصيب، وتخزين المياه الثقيلة، وتطوير أجهزة الطرد المركزي، وأخفت عن الوكالة الدولية بعض أنشطتها، وذلك في وضعٍ يعتبره البعض أسوأ ممّا كان عليه في ظلّ الاتفاق النووي. كذلك تبدو إيران على وشك التحرُّر من الحظر المفروض على السلاح وتعزيز قدراتها الدفاعية، من خلال صفقاتٍ عسكرية مع روسيا والصين، هذا ناهيك عن تطوير برنامج صواريخها البالستية، ومؤخَّرا صاغت الصين اتفاقية استثمار بقيمة 400 مليار دولار مع إيران يُعتقَد أنّها تحتوي على صفقات تسليح، فضلًا عن الاتّجاه لاتفاق إستراتيجي مع روسيا.

كما أنّ الإستراتيجية لم تبتكر آليات أو لم تنسِّق سياساتٍ فاعلة للحدّ من نفوذ إيران الإقليمي، وامتلاك أوراق ضغطٍ غير مسبوقة في الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وهو ما هدَّد مصالح الولايات المتحدة وهدَّد حلفاءها، وقد كانت مناورات «الرسول الأعظم» في منطقة الخليج في أغسطس 2020م والتدريب على تدمير نموذجِ مجسَّمٍ لحاملة طائراتٍ أمريكية، رسالةً للردع والتخويف خشية اتجاه ترمب نحو عمليةٍ عسكرية قبل الانتخابات لتحسين وتعزيز فُرصِه.

حتّى داخل الولايات المتحدة، تتعرَّض إستراتيجية الضغوط القصوى التي تبنَّاها هوك للتشكيك، باعتبارها تكتيكاتٍ لا تتناسب مع هدف تغيير سلوك النظام أو تغيير توجُّهات قيادته، أو إحداث اختراقٍ بالدفع نحو عملية إصلاحٍ أو تغييرٍ جذري للنظام. بالمجمل، يمكن القول إنّ إستراتيجية هوك أضعفت النظام الإيراني، وحرمته من مكاسب الاتفاق النووي، لكنَّها لم تُحدِث اختراقًا كبيرًا، ولم تحفِّزه نحو توقيع صفقةٍ كان ترمب بحاجةٍ إليها في مواجهة منتقدي سلوكه وخياراته الخارجية.

ثالثًا: هوك واتّجاهات السياسة الأمريكية

قد يصاحب رحيل هوك عملية تغييرٍ ما في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، فهوك من الكوادر التكنوقراط والأصوات الدبلوماسية المعنية بملفّ إيران في فريق ترمب، وكان هدفُ إستراتيجية الضغوط القصوى التي صاغها هو الوصول إلى مباحثاتٍ مباشرة مع إيران وتوقيع اتفاقٍ جديد، وهو نفس الطريق الذي انتهجته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مع اختلاف الأهداف والظروف والتوازُنات الدولية المحيطة بالأزمة، والمتغيِّرات التي أحدثها الاتفاق النووي لعام 2015م.

بينما يدعم اختيار إليوت إبرامز تحديدًا كمبعوث خاص لإيران وجود تغييرٍ محتمل سيطرأ على التوجُّهات الأمريكية تجاه إيران، وأنّ التوجُّهات المقبلة رُبّما تكون راديكاليةً بصورةٍ متزايدة، رُبّما تصل إلى تبنِّي تغيير النظام، ما لم يكُن اختيار إبرامز مسألةً مؤقَّتةً وانتقالية لحين تسمية مسؤولٍ آخر لتولِّي مسؤولية ملفّ إيران؛ لأنّ إبرامز واحدٌ من الصقور المسيَّسين والمتشدِّدين تجاه إيران، وهو مخضرٌم وله سجلٌّ حافل بين المحافظين الجُدُد، وقد كان أحد الداعين لغزو العراق عام 2003م، وحاليًّا يقود من خلال موقعه الحالي كمبعوثٍ لفنزويلا حملة الإدارة الحالية للإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، ونجح في شلّ اقتصاد فنزويلا بصورةٍ ملفتة، ورُبّما هو مدعٌو لنهجٍ مماثل مع إيران. ويرى إبرامز أنّ فرص الدبلوماسية مع إيران قلَّت، وهو يؤيِّد هجومًا عسكريًا إسرائيليًا على المنشآت النووية الإيرانية، وخطورة الأمر مرتبطةٌ بالمرحلة الراهنة التي تتزايد الشكوك في برنامج إيران النووي، وتصاعد المواجهة بين إيران وإسرائيل، حيث تتّهم طهران، تل أبيب بالقيام بهجماتٍ على منشآتها النووية والحيوية، ومنها منشأة نظنز، وتدمير أجهزة طردٍ مركزي حديثة.

كذلك قد يدفع إخفاق الولايات المتحدة في تمرير قرارٍ يقضي بتمديد حظر السلاح المفروض على إيران، مع عدم إمكانية تمديد حظر السلاح المفروض على إيران عبر آلية فضّ النزاع في الاتفاق النووي نحو ذلك؛ لأنّ الولايات المتحدة والرئيس ترمب سيكونان بصدد موقفٍ شديد الحرج، إذ بدلًا عن عزل إيران وإعادة فرض العقوبات الدولية، ستكون الولايات المتحدة بصدد عزل نفسها في مواجهة إيران، وهذا لا شكّ سيكون له مردودُه على التوجُّهات الأمريكية المقبلة.

وعلى العكس من ذلك، فقد لا يصاحب عملية تغيير هوك تغييرٌ جوهري على الإستراتيجية الأمريكية، حيث إنّ الوقت ضيِّقٌ بالنسبة لترمب، وهو منشغل بالسباق الانتخابي، ويركِّز على احتواء الأزمة الداخلية المتفاقمة، بعد تفشِّي وباء كورونا، ومحاولة احتواء تقارُب استطلاعات الرأي مع منافسه الديمقراطي جو بايدن.

هذا فضلًا عن أنّ ترمب لا يريد تصعيدًا عسكريًّا مع إيران، وسبق أن أقال مستشاره للأمن القومي جون بولتون في سبتمبر 2019م؛ بسبب الخلاف حول هذا التوجُّه، ورجَّح في حينها توجُّهات هوك. كما أنّ ترمب لا يتبنَّى مسألة تغيير النظام في إيران، وغايته الأساسية تدمير الاتفاق النووي، وتوقيع اتفاقٍ جديد مع إيران، وقد سبق أن أبدى أنّه ليس مُتعجِّلًا من الوصول لهدفه عندما قال للإيرانيين «سأفوز في الانتخابات المقبلة، وستوقِّعون اتفاقًا جديدًا».

إضافةً إلى ذلك، هناك مخاوف داخل الولايات المتحدة من أيّ اتّجاهٍ لتصعيدٍ عسكري مع إيران قد يلجأ إليه ترمب من أجل تحسين صورته قبل الانتخابات، لهذا صادقت لجنة التخصيصات المالية بمجلس النوّاب الأمريكي على تعديل الميزانية الدفاعية لعام 2021م، بما يمنع تمويل عملياتٍ عسكرية ضدّ إيران في حال بدئها بدون موافقة «الكونغرس»، كما صادقت اللجنة أيضًا على تعديلين آخرين يقضيان بسحب تصريحين تمّ منحهما للرئيس الأمريكي في العامين 2001م و2002م لاستخدام القوّة العسكرية، غير أنّ مشروع القانون يجب أن يحصل على مصادقة كلا مجلسي «الكونغرس»، قبل أن يُحال إلى الرئيس الأمريكي للتوقيع عليه».

لكن على الأرجح ستّتجه السياسة الأمريكية في مواجهة إيران نحو مزيدٍ من التشدُّد، في ظلّ التناقُض الحاصل في المواقف بين الطرفين، وفي ظلّ المخاوف الأمريكية من الآثار التدميرية لسلوك إيران على المستويات النووية وغير النووية، فضلًا عن التهديدات التي باتت إيران عنوانها في المنطقة، لا سيما بعد حادثة مرفأ بيروت، التي كشفت عن المصير المُحتَمل لدول المنطقة وللأمن الإقليمي والدولي، إذا ما ظلَّت إيران تمدّ نفوذها وتدعم وجودها في بلدان المنطقة. هذا التشدُّد قد لا يتوقَّف عند حدود الضغوط القصوى التي صاغها هوك من خلال فرض مزيدٍ من العقوبات والتهديد باستخدام القوّة المحدود، ومؤشِّرات ذلك واضحة في الاستهدافات الغامضة للأهداف الحيوية والمنشآت النووية في إيران خلال الشهرين الماضيين، والتي قد تتّسع مع وجود شخصٍ كإبرامز يؤيِّد العمل العسكري ضدّ إيران.

وفي الأخير، لا شكّ أنّ ثمَّة رسائل ضمنية من هذا التغيير المفاجئ للمسؤول عن ملفّ إيران. الرسالة الأولى، لروسيا والصين والأطراف الأوروبية الرافضة لتمديد حظر السلاح المفروض على إيران من خلال مجلس الأمن، وهي أنّ بديل تمديد حظر السلاح هو الاتّجاه للتصعيد العسكري، ومن ثمَّ هي نوعٌ من الضغط لتغيير مواقف هذه الدول.

أمّا الرسالة الثانية، فهي للنظام الإيراني، وهي أنّ خيارَ الحرب ليس مستبعدًا في حالة عدم إحداث اختراقٍ جوهري في مسألة التفاوُض حول اتفاقٍ جديد مع إيران، وفقًا لرغبة الرئيس ترمب.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير