مقدمة
في تصعيدٍ جديد للأزمة الآذربيجانية – الأرمينية المشتعلة بدرجاتٍ متفاوتة منذ عام 1990م، أعلن الجانبان الآذري والأرميني عن تجدُّد أعمال القتال صباح يوم السبت 27 سبتمبر 2020م، وتبادَل الطرفان الاتهام بالبدء في أعمال القتال، فبينما أعلن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشيان قيام آذربيجان بشنِّ هجومٍ صاروخيٍ وبري على أراضي إقليم نجورني قره باغ ذي الأغلبية السُكانية الأرمينية، والذي أعلن استقلالَه عن آذربيجان عام 1992م، صرّح الرئيس الآذربيجاني أن أرمينيا شنَّت هجومًا على المناطق الآذرية الواقعة على طول خطّ التماس بين البلدين، وهو الخطّ الذي تم ترسيمُه بعد انتهاء الحرب الكُبرى بين البلدين في عام 1994م، والتي خلّفت أكثرَ من 30 ألف قتيل وأدّت إلى سيطرة أرمينيا على حوالي 20% من أراضي آذربيجان. يهدف هذا التقدير إلى تقديم تصوّرٍ عن حدود الصراع الآذربيجاني – الأرميني، ومدى تأثيره على منطقة الشرق الأوسط والصراعات الدائرة فيها، وما يمكن أن يشكّله من فُرصٍ وتحديات لدول المنطقة؛ وسيُغطي التقرير عدةَ محاور أهمها جذور الصراع، المؤشرات وأسباب اندلاع القتال، الموقف الميداني الحالي، الموقف الإقليمي والدولي من تجدُّد الصراع، ومخاطر وتداعيات الصراع على المستويين الإقليمي والدولي، وأخيرًا السيناريوهات المستقبلية.
أولًا: جذور الصراع
ترجع جذور الأزمة الآذربيجانية – الأرمينية إلى الحُقبة السوفيتية، عندما تم ضمّ إقليم ناجورني قره باغ المسمى بالأرمينية ارتساخ، وبالآذرية يوخاري قره باغ في عام 1923م إلى أرمينيا، وهو إقليمٌ يقع في قلب الأراضي الآذربيجانية وتسكُنه أغلبيةٌ أرمينية، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي أعلنت كلٌ من أرمينيا وآذربيجان استقلالهما في عام 1992م، وكذلك فعل إقليم ناجورني قره باغ، ورفضت آذربيجان انفصال ناجورني قره باغ عنها فأعلنت الحرب على حكومة الإقليم، ودخلت أرمينيا الحربَ في مواجهة آذربيجان.
انتهت الحرب في عام 1994م بنتائجَ كارثية على آذربيجان، حيث فقدت 20% من أراضيها بعد أن احتلَّ انفصاليو قره باغ المدعومين من أرمينيا ستةَ أقاليم آذرية، بالإضافة إلى إعلان إقليم قره باغ استقلالَه، وكانت أولى أسباب هزيمة آذربيجان عدم امتلاكها للسلاح اللازم مقابلَ دعمٍ عسكريٍ واضح من روسيا لصالح أرمينيا. لكن مع تراكُم عائدات بيع النفط الآذري بالإضافة إلى الدعم التركي لآذربيجان والتعاون مع إسرائيل، بدأت موازين القوى في التغيُّر لصالح آذربيجان، ونفَّذت آذربيجان برنامج تسلّح موسع ركّز على القُدرات الصاروخية والطائرات المسيرة، فاهتمت بشراء الطائرات المسيرة من تركيا مثل الطائرة بايراقتر TB2 ، وهي طائرة تكتيكية متوسطة الارتفاع بعيدة المدى. كما اشترت آذربيجان 60 طائرة مسيرة من إسرائيل من طُرُزٍ وأنواعٍ مختلفة، منها طائرات هاروب المسيرة الانتحارية وطائرات اوربيتر.
وبعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى العاصمة الآذرية باكو 2016م ووقّع خلالها على اتفاق تعاون أمني وعسكري بقيمة 5 مليارات دولار. تزوّدت آذربيجان بنظام “تايفون” المدفعي، فضلًا عن عددٍ من الأنظمة الصاروخية الأخرى والمروحيات؛ وشملت الإضافات الأخيرة في الترسانة العسكرية الآذرية المقاتلات المُسيَّرة الإسرائيلية من طراز “سكاي سترايكر” وصواريخ بالستية وطائرات مراقبة مُسيَّرة إسرائيلية، وراجمات صواريخ تكتيكية بيلاروسية، وطائرة باكستانية للتدريب العسكري، ومدرَّعات وأنظمة تركية مضادّة للطائرات المُسيَّرة، وبنادق قنص جنوب أفريقية وناقلات جنود روسية من طراز “BTR-82A”.
في المقابل قامت أرمينيا بالحصول على قرض من روسيا بقيمة 200 مليون دولار في عام 2015م ، ثم قدمت روسيا قرضًا آخر بدون فوائد لأرمينيا بقيمة 100 مليون دولار في عام 2018م، خُصص لشراء معدات عسكرية روسية، كما اشترت الطائرة المقاتلة سو 30 إس إم والتي استخدمتها في المواجهات مع آذربيجان في اشتباكي أبريل 2016م، ويوليو 2020م، كما حصلت أرمينيا من روسيا على منظومات صواريخ اسكندر، وريللنت واينفاونا وكورنت اي ام. كما تحصل أرمينيا على مساعدات مالية أمريكية سنوية بفضل اللوبيهات الأرمينية القوية داخل الولايات المتحدة وتحديدًا لوبي دعم ارتساخ وأرمينيا داخل الكونجرس الأمريكي.كما لجأت أرمينيا إلى شراء أسلحة قديمة مثل صفقة شراء 35 منظومة دفاع جوي من طراز OSA مستعملة من الأردن بقيمة 27 مليون دولار
ثانيًا: المؤشرات وأسباب اندلاع القتال
- مؤشرات اندلاع القتال
تجمّعت المؤشرات على قرب اندلاع القتال بين البلدين منذ يوليو الماضي عندما أعلنت آذربيجان أن أرمينيا تحشُد قواتها على طول خط التماس، وتأكدت هذه المؤشرات بإصدار وزارة الخارجية الأمريكية تحذيرًا لمواطنيها من السفر إلى كلا البلدين، مع الدعوة إلى سرعة مغادرة المواطنيين الأمريكيين لأراضي كلٍ من آذربيجان وأرمينيا.
وقبل يوم واحد من اندلاع المواجهات اختُتمت أعمال مناورة القوقاز 2020 والتي أجريت في القوقاز الروسية، وضمّت قواتٍ من كلٍ من روسيا وأرمينيا وإيران والصين وكازاخستان وباكستان وروسيا البيضاء، وميانمار، وعُدت تلك المناورة بمثابة تهديدٍ للمصالح الأمريكية في المنطقة وتدعيما للتحالف الروسي الإيراني الصيني المشترك، وترسيخ التعاون العسكري فيما بينهم على غرار المناورة البحرية المشتركة بين الدول الثلاث، والتي أُجريت شمال المحيط الهندي في السابع والعشرين من ديسمبر 2019م.
ومع تعدُّد حالات اندلاع القتال بين البلدين فتَر الاهتمام العالمي بالأزمة، لكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفًا فالقتال هذه المرة بدأ على عددٍ من الجبهات وبقواتٍ ضخمة وبمؤشراتٍ سابقة، وكأن هناك خطة شاملة وضعت منذ فترة تختلف عن الهجمات المحدودة التي كان آخرُها في يوليو الماضي، وأكبرها أثرًا في أبريل 2016م، ويعزز القول بذلك كلًا من إعلان آذربيجان تحريرها لست قُرى من إقليمي فضولي وجبرائيل الآذريين كانت تحت سيطرة القوات الأرمينية، مع الإعلان عن استمرار القتال حتى تحرير كامل الأراضي الآذربيجانية المحتلة، وإعلان أرمينيا الأحكام العرفية وحالة التعبئة العامة؛ ويضاف إلى ذلك ضخامة الخسائر من الجانبين في الساعات الأولى من القتال، إذ أعلنت أرمينيا تمكُنها من تكبيد القوات الآذرية خسارةَ ثلاث دبابات ومروحيتين وثلاث طائرات مسيرة. في حين نفت آذربيجان ذلك، وقالت إن الخسائر لا تتعدّى مروحيةً واحدة بينما تمكَنت قواتها من تدمير اثنتي عشرة منظومةَ دفاعٍ جوي أرمينية. فضلًا عن وضوح التدخل والدعم التركي منذ الساعات الأولى من اندلاع القتال.
2. أسباب اندلاع القتال في سبتمبر 2020م
على الرغم من اندلاع القتال على شكل موجاتٍ متتالية منذ عام 1994م حتى الآن في 2020م إلا أن اندلاع الأزمة الآن ربما يرجع لأسباب بعضها خارج عن إقليم الصراع والبعض الآخر بسبب ديمومة الصراع وتاريخيته، اجتمعت في وقتٍ واحد فكانت النتيجة اندلاع القتال على ذلك النحو، وفي هذا التوقيت.
أ. إرسال تركيا لمقاتلين سوريين إلى آذربيجان
هذه المرة يظهر بوضوح ارتباط اندلاع الصراع بين آذربيجان وأرمينيا بتحدياتٍ شرقَ أوسطية، فآذربيجان التي تؤمن بضرورة تحرير أراضيها من الاحتلال الأرميني الذي دام ثلاثين عامًا وجدت في تركيا الساعية إلى تمديد نفوذها في الشرق الأوسط فرصةً مواتية للحصول على مساندةٍ خارجية، فطلبت الدعم التركي عندما زار وفدٌ عسكريٌ آذري أنقرة في يوليو الماضي، ووقع اتفاقياتٍ مع حكومتها يتم بمقتضاها إنشاء قاعدة عسكرية تركية في إقليم نخجوان الآذري الملاصق للأراضي التركية والمنفصل جغرافيًا عن الأراضي الآذربيجانية، على أن تُنشئ تركيا كذلك معسكرًا لتدريب المقاتلين السوريين في منطقة الباب في ريف حلب الشمالي وترسلهُم للقتال في صفوف القوات الآذرية انطلاقًا من القاعدة العسكرية التركية، على أن يبدأ إرسال المقاتلين السوريين من 25 سبتمبر 2020م.
ب. ارتفاع ميزانية التسلُّح لدى البلدين
زادت ميزانية التسلُّح لدى كلٍ من آذربيجان وأرمينيا خلال السنوات الخمس الماضية بشكلٍ مطرد، ففي آذربيجان التي يبلغ عدد سكانها 10 ملايين نسمة تقريبًا وتعتمد على عائدات تصدير النفط بشكلٍ كُلي اتجهت مؤشرات ميزانية التسلح للصعود التدريجي المستمر بعد الهبوط الحاد الذي لحق بها في عام 2014 نتيجةً لانخفاض عائدات النفط، فمن 3 مليارات دولار في عام 2013م إلى حوالي مليار دولار في عام 2014م ، ثم الصعود التدريجي المستمر حتى عام 2020م حيث وصلت إلى 2 مليار و260 مليون دولار، وذلك على الرغم من استمرار تراجع أسعار النفط عالميًا، في حين لم تتجاوز الميزانية العسكرية الأرمينية 625 مليون دولار في عام 2020م أي رُبع حجم الميزانية العسكرية الآذربيجانية. إلا أنها شهدت تزايدًا خلال السنوات الماضية ولكن على قدر حجم الاقتصاد الأرميني بما يعكس استعداد البلدين لتجدُّد الصراع.
ج. تنامي المكانة الدولية لروسيا
ارتفاع مكانة روسيا في السنوات الأخيرة وظهورها بمظهر القوة العظمى جعل أرمينيا تشعر بمزيدٍ من الثقة في الدعم الروسي؛ فروسيا الحليف التقليدي لأرمينيا على الرغم من لعبها دور الوساطة في النزاع بين أرمينيا وآذربيجان، تحتفظ بقاعدة عسكرية لها في العاصمة الأرمينية يريفان، ومع ما حصلت عليه روسيا من مكاسب عسكرية وسياسية في سوريا والمكانة الدولية التي حازتها في الشرق الأوسط بالتزامن مع التراجع الأمريكي، بات الأرمن أكثر تطلعًا في حسم الصراع لصالحهم بالاعتماد على القدرات الروسية عسكريًا وسياسيًا.
ثالثًا: الموقف الميداني الحالي
نتيجةً لسباق التسلح الذي خاضته الدولتان في السنوات السابقة صار من الطبيعي انتصار آذربيجان في حال الدخول في صراعٍ مسلح مع أرمينيا من خلال احتساب موازين القوى، وهو ما حدث في جولة الصراع الكبرى الأخيرة التي خاضها البلدان في أبريل 2016م، حيث تمكنت آذربيجان من تحرير عددٍ من القرى المحتلة، إلا أن الضغوط الدولية أجبرت آذربيجان على وقف الهجوم سريعًا، لكن مقابل التفوق التسليحي الحالي لصالح آذربيجان نجدُ أن الطبيعة الجغرافية لإقليم ناجورني قره باغ تشكّل ميزةً كبيرة للانفصاليين فهو مساحة من المرتفعات الجبلية مكسوة بغطاء كثيف من الغابات تطل على السهول الآذربيجانية، الأمر الذي يصعّب عملية اقتحام القوات الآذربيجانية لأراضي الإقليم، إلا بحجم خسائر بشرية كبير؛ وقد كانت القُرى التي تم تحريرها في عام 2016م ضمن الأراضي المنخفضة في إقليمي فضولي وجبرائيل اللذين اُحتلّا من قِبل الانفصالين؛ ومن ثم نجد أن المواجهة العسكرية الحالية مرشحةٌ لأن تكون طويلةَ الأمد نظرًا لعدم قدرة الطرفين على الحسم السريع ووجود أطراف دولية مستعدة لدعم كلٌ منهما في مواصلة الحرب، وقد وضَح في اليوم الثاني لاندلاع القتال، تكثيف آذربيجان من هجماتها على مناطق فضولي وجرائيل واغدام وترتر، وهي المناطق الأقل وعورة في شمال وجنوب إقليم نجورني قره باغ، والتي يمكن اقتحامها بسهولة أكثر من منطقة الوسط التي بها عاصمة الإقليم المعروفة في الأرمينية بمدينة ستيبياناكرت، بينما يسميها الآذريون خانكندي.
رابعًا : الموقف الإقليمي والدولي من تجدد الصراع
تتقاطع أزمة الصراع بين آذربيجان وأرمينيا مع العديد من التوازنات الدولية والإقليمية، فإقليم القوقاز المليئ بالصراعات الحدودية والنزاعات الانفصالية نتيجة حقبة الحكم السوفيتي للمنطقة يشكل ساحة تنافس بين عددٍ من القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران وفضلًا عن تفاعلات القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا؛ وفيما يلي نستعرض موقف كل واحدة من تلك القوى من تجدد الصراع في سبتمبر 2020م.
- الموقف التركي
صرّحت تركيا رسميًا وفور اندلاع القتال بمساندتها لآذربيجان وحمّلت أرمينيا مسؤوليةَ بدءِ الهجوم واعتبرت أن آذربيجان تقوم بالرّد على الاعتداء الأرميني على أراضيها، وهو ما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي صرّح أيضًا بأن تركيا سوف تقف بكامل قوتها إلى جوار آذربيجان، وكتب أردوغان، على موقع تويتر، “الأمة التركية تقف، كما كانت دوماً، بكل الوسائل إلى جانب الأخوة والأخوات الآذربيجانيين“.
اللافت في الموقف التركي أنه عبّر وبوضوح عن أن الاشتباكات لن تكون محدودة وإنما هي حرب شاملة تستهدف تحرير كامل الأراضي الآذرية وأنها تتمنى نجاح آذربيجان في تحقيق استعادة أراضيها بأقل قدرٍ من الخسائر في الأرواح. التصريحات التركية صدرت في نفس يوم الهجوم الآذربيجاني يوم الأحد الموافق 27 سبتمبر 2020م، وهو ما يجعل الرواية الأرمينية بوجود تنسيقٍ تركي – آذربيجاني مُسبق بشأن الهجوم أقرب إلى التصديق.
وتدعم تركيا ظهور آذربيجان كأقوى جمهورية بالقوقاز في ظلّ الروابط العرقية واللغوية التي تجمعها بالآذريين، وهو ما يُعزز مكانتها في الإقليم ويضيف إلى مشروعها التوسعي سواءٌ في الشرق الأوسط أو في آسيا الوسطى والقوقاز، وآذربيجان مرشحةٌ بقوة لتبوء هذه المكانة في القوقاز فهي الدولة النفطية الوحيدة بالمنطقة، وقد حققت آذربيجان عائداتٍ نفطية في العقدين الماضيين تُقدر بـ 190 مليار دولار استثمرت جزءًا كبيرًا منها في إنشاء بنية تحتية لإنتاج وتكرير ونقل النفط، وبدأت في جني عائداتِ استثماراتها ويتوقع أن تحقق عائدات من بيع النفط والغاز تقدر بـ 260 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة. وفي المقابل تعصف الأزمات الاقتصادية ببقية جمهوريات القوقاز أرمينيا وجورجيا.
وللأسباب سالفة الذكر دخلت تركيا ساحة الصراع الآذربيجاني – الأرميني بثقلِها، فهي ترى هذه المرة أن آذربيجان بلغت من القوة حاليًا ما يمكنها من استعادة أراضيها من أرمينيا بما يحقق خلق واقعٍ جديد في منطقة القوقاز تكون فيه آذربيجان القوية حليفةً لتركيا، وبالتالي تحقق تركيا أهدافها المتمثلة في: إنشاء تمركز عسكري تركي بالمنطقة عبر القاعدة العسكرية التركية في آذربيجان؛ تدعيم أمن الطاقة التركي بزيادة الاعتماد على النفط والغاز الآذربيجاني بديلًا لنفط وغاز الخليج أو حتى النفط الروسي، فضلًا عن الرد على الضغوط الأرمينية على تركيا بشأن المطالبة بإدانة تركيا العثمانية لتنفيذها مذابح بحق الأرمن، وهي الورقة التي أسهمت إلى حدٍ كبير في تعطيل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وتشويه سمعة الدولة التركية.
لكن الموقف التركي ينطوي كذلك على قدرٍ كبير من المخاطرة فهو يجعل تركيا على خط الصدام مع روسيا ويهدد التفاهمات التي توصلت إليها معها في سوريا، ولا شك أن روسيا لن تشعر بالارتياح من المساندة الصريحة والمعلنة من قبل تركيا لآذربيجان، ولا من نقل المقاتلين السوريين من إدلب إلى القوقاز التي تشكل منطقة نفوذ روسية، خاصة وأن أحد الدوافع الرئيسة لدى روسيا للتدخل في الأزمة السورية هو القضاء على الأصوليين الإسلاميين القادمين من آسيا الوسطى والقوقاز إلى سوريا لمساندة المعارضة ضد نظام بشار الأسد، خشيةَ ارتداد موجات إرهاب على الأراضي الروسية، فإذا بتركيا بعد نجاح روسيا في حسم الصراع السوري لصالحها بشكلٍ كبير تنقُل المقاتلين السوريين إلى الحديقة الخلفية لروسيا، وهو ما لا يمكن أن تتعايش أو تقبله روسيا بأي حالٍ من الأحوال، وبالتالي يمكن أن يؤدي الموقف التركي إلى توتّر الوضع في سوريا والإضرار بالتفاهمات الروسية – التركية بشأنها.
2- الموقف الإيراني
دائما ما تلعب إيران دورَ الوسيط في الصراع الآذربيجاني – الأرميني، وهو ما عبّر عنه الموقف الإيراني الرسمي من المواجهات الأخيرة، فقد صرّح وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف على موقع التدوينات القصيرة بقوله “ندعو إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية وبدء المباحثات لتسوية الخلافات”؛ وقال: “إن جيراننا هم أولوياتنا وإننا مستعدون لتوفير أرضية جيدة للحوار. إن منطقتنا بحاجة إلى السلام الآن” كما أجرى وزير الخارجية الإيراني اتصالات هاتفية مع وزيري خارجية البلدين، ودعا المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده الأطراف لضبط النفس وطالب بإنهاء فوري للصراع وبدء المحادثات بين البلدين.
ولكن خلف الدور المحايد والوساطة المعلنة لإيران في هذا الصراع، لا تخفي إيران مخاوفها من ظهور آذربيجان القوية لعدة أسباب منها؛ التقارب الواضح بين آذربيجان وتركيا منافسها التقليدي في منطقة القوقاز، وجود أقلية عرقية آذرية داخل الأراضي الإيرانية تشكل حوالي 20% من عدد سكان إيران تنظر دائمًا إلى جمهورية آذربيجان بأنها أفضل حالًا من إيران المتأزمة اقتصاديًا، التعاون الآذري المكثف مع كلٍ من الولايات المتحدة وإسرائيل، واعتبار أن آذربيجان تشكل قاعدة متقدمة للأنشطة التجسسية والعسكرية الإسرائيلية ضد إيران، فضلًا عن التنافس الاقتصادي بين آذربيجان وإيران بحكم أنهما دولتان منتجتان للنفط تستهدفان نفس الأسواق التصديرية.
في حين تنظر إيران إلى أرمينيا على أنها بوابة التعاون الشمالية لها مع روسيا، وسوق تصريف منتجاتها وبخاصة النفطية، وأداة كبح النفوذ التركي في القوقاز، ووسيلةً لإبقاء آذربيجان تحت الضغط الدائم وتوجيه اهتمامها بعيدًا عن إيران وأوضاع الأقلية الآذرية بها.
ويتيح الصراع الآذري – الأرميني فرصًا عدة خاصةً إذا ما استمر لفترةٍ طويلة؛ منها ارتفاع مكانتها الإقليمية بلعب دور الوسيط بين طرفي النزاع، حدوث تباعد بين تركيا وروسيا في ملف الأزمة السورية بما يضمن استعادة إيران لمكانتها في سوريا بعد أن تراجعت بشكلٍ كبير بسبب التقارب التركي – الروسي هناك، تراجع النمو الاقتصادي التركي بما يخدم إيران في تنافسها الاقتصادي مع تركيا، احتمالية توقف ضخ النفط الآذري لتركيا أثناء أعمال القتال وبالتالي تزايد احتياج تركيا للنفط والغاز الإيراني. لكن مخاطر اندلاع الصراع بالنسبة لإيران تتمثل في احتمالية تمكن آذربيجان من تحقيق نصرٍ حاسم على أرمينيا على نحوٍ يُعظم من مكانة آذربيجان ويحقق المصالح التركية والآذرية على النحو سالف الذكر، كما أن استمرار النزاع يهدد أمن المناطق الحدودية الإيرانية المجاورة للبلدين المتنازعين، وقد تعرضت قرى إيرانية بالفعل لقذائف مدفعية وصاروخية خلال اليومين الماضيين، فضلًا عن توقف مشروعات نقل الطاقة والتجارة ضمن مشروع محور الشمال – الجنوب الإيراني الروسي المشترك.
3- الموقف الروسي
أعلنت روسيا فور اندلاع القتال عن إجراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاتٍ مع رئيس وزراء أرمينيا، ناقشا فيها الأوضاع الحالية للقتال الدائر مع آذربيجان. كما أعرب الكرملين عن قلقه البالغ إزاء استئناف الاشتباكات واسعة النطاق، وفي خطوة تعكس التدخل التركي والروسي في الصراع أجرى وزير الخارجية الروسي لافروف مشاورات مع نظيره التركي حول القتال الدائر بين آذربيجان وأرمينيا، ودعا إلى العودة إلى المفاوضات.
ويمكن فعليًا إطلاق مسمى الوسيط المنحاز على الدور الروسي في الصراع الآذربيجاني – الأرميني، فروسيا التي تبيع السلاح للطرفين، وظلت لفترة طويلة تلعب دور الموازن بين القوتين العسكريتين للدولتين من خلال تحديد نوعية وكمِّ ما تبيعه من سلاح للدولتين واضحةَ الانحياز لأرمينيا، ففضلًا عن الوشائج الدينية التي تجمع البلدين هناك تحالف عسكري وسياسي معلن بين جمهورية أرمينيا وجمهورية روسيا الاتحادية، يُعززه انتشار القوات الروسية بشكل دائم في الأراضي الأرمينية واحتفاظها بقاعدة عسكرية في منطقة غيومري شمال غرب أرمينيا، والتي أُنشأت بمقتضى اتفاق بين البلدين وقع في عام 2010م وينص على التواجد الروسي بالقاعدة حتى عام 2044م، وتنشر روسيا خمسة آلاف جندي بالقاعدة وصواريخ اس 300 وعددًا من مقاتلات ميج 29 فضلًا عن أعداد من الدبابات والمدرعات، وتجري روسيا مناورات دورية مع القوات الأرمينية غالبًا ما تتزامن مع مناورات آذربيجانية – تركية.
ويشكل اندلاع الصراع في القوقاز من جديد فرصةً لروسيا لنشر مزيدٍ من القوات في الأراضي الأرمينية وإحكام قبضتها على القوقاز الجنوبي، لكنه ينطوي على مخاطر لروسيا أكثر من الفرص فهو يعرّض مشروعاتها الاقتصادية بالمنطقة ويهدّد تفاهماتها مع تركيا ويتيح مساحةَ تدخلٍ جديدة لكلٍ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويهدد أمن واستقرار منطقة بحر قزوين والقوقاز الذي بذلت الدبلوماسية الروسية الكثيرَ من الجهد لضمانه حتى تم توقيع اتفاق تقسيم بحر قزوين في عام 2018م، والذي كان أحد بنوده الالتزام بعدم وجود قوات خارجه عن الإقليم فوق أراضيه، ولا شك أن هذا النزاع سوف يهدد أمن منطقتي بحر قزوين والقوقاز ويفتح الباب أمام التدخلات من خارج الإقليم، وهو ما لا تريده روسيا بأي حالٍ من الأحوال لأنها تطمح في استعادة الهيمنة على الإقليم على غِرار الوضع في الحُقبة السوفيتية.
4- موقف الاتحاد الأوروبي
دعي تشارلز ميشيل رئيس المجلس الأوروبي، إلى وقف القتال و”العودة الفورية للمفاوضات” ، وكتب ميشيل على تويتر “يجب أن يتوقف العمل العسكري على وجه السرعة لمنع المزيد من التصعيد”، داعياً إلى “العودة الفورية للمفاوضات دون شروط. هذه الدعوة الأوروبية تعكس الرغبة في إعادة تفعيل مجموعة عمل مينسك المنبثقة عن مجلس الأمن والتعاون الأوروبي للوساطة بين آذربيجان وأرمينيا والتي يرأسها ثلاثة رؤساء مشاركين من كلٍ من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، وشُكّلت المجموعة عام 1991م لبحث النزاع الآذربيجاني – الأرميني؛ ويبدو أن تجمّد أعمال المجموعة لفترةٍ طويلة وعدم بحث حلٍ دائمٍ وشامل للأزمة، هو أحد الأسباب المباشرة لاندلاع القتال المتكرر بين الطرفين، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعول كثيرًا من الناحية الاقتصادية على مد مظلة التعاون مع دول القوقاز إلا أنه لم يبذل الجهدَ الكافي لحلّ المشكلات المزمنة في هذه المنطقة، والتي بلا شك سوف تنعكس على أمن واستقرار الاتحاد الأوروبي.
5. موقف الولايات المتحدة
انضمت الولايات المتحدة إلى الدعوات العالمية لأرمينيا وآذربيجان لإنهاء الاشتباكات الدامية بشأن ناغورني قره باغ، وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها اتصلت بالبلدين “لحث كلا الجانبين على وقف الأعمال العدائية على الفور، واستخدام روابط الاتصال المباشرة القائمة بينهما لتجنّب المزيد من التصعيد”.
لكن تحوم الشبهات حول الولايات المتحدة بشكلٍ أو بآخر في دفع كلٍ من تركيا وآذربيجان لإشعال الصراع الحالي لعددٍ من الأسباب أهمها ضربُ المخططات الروسية في القوقاز وبحر قزوين، وبخاصة منظمة التعاون الأوراسي التي شكّلتها روسيا لتضم عددًا من الدول الأعضاء السابقين بالاتحاد السوفيتي، وفتح بابٍ للتواجد الأمريكي بالمنطقة عبر تعظيم الدورين التركي والإسرائيلي، وإدخال روسيا في دوامة الصراعات الإقليمية بل والداخلية على غِرار الحرب الشيشانية؛ إذ من المرجح في حال نجاح الآذريين في تحقيق انتصاراتٍ على الأرمن أن يشجع هذا الأقليات العرقية المسلمة بالقوقاز الروسي على استئناف أعمال التمرد، وبخاصة جمهورية الشيشان وأقلية الانجوش، ويعزز هذا الرأي وجود المقاتلين الأجانب القادمين من إدلب، والذين بلا شك يضمون في صفوفهم أعدادًا من الأصوليين الروس ذوي الأصل القوقازي.
وفي السابق قدّمت الولايات المتحدة مقترحًا لحل الأزمة بين آذربيجان وأرمينيا، وعلى الرغم من رفضه من كلا البلدين يبدو المقترح واقعيًا إلى حدٍ كبير، ويقضي المقترح باعتراف آذربيجان باستقلال إقليم نجورني قره باغ مقابل استعادتها لأقاليمها الست الأُخرى المحتلة خارج قره باغ، مع تنازل آذربيجان عن ممر لاشين بما يسمح بوجود اتصالٍ جغرافي بين نجورني قره باغ وأرمينيا، وتنازُل أرمينيا عن ممرٍ يسمح باتصال إقليم نخجوان مع الأراضي الآذرية.
خامسًا :مخاطر وتداعيات الصراع على المستويين الإقليمي والدولي
- تهديد أمن الطاقة
يشكل إقليم القوقاز بشكلٍ عام مستودعَ أزماتٍ بالمنطقة، فهناك امتداداتٌ عرقية ودينية تجعل الإقليم مؤثرًا بشكلٍ كبير على دول الجوار، كما تتشابك مصالح تلك الدول فوق أراضيه؛ ويهدد الصراع الآذربيجاني – الأرميني مشاريعَ نقل الطاقة المارة بالقوقاز وبخاصة خط باكو- تبليسي- جيهان الذي يبدأ من العاصمة الآذرية باكو على بحر قزوين ويمر بالعاصمة الجورجية تبيلسي وصولًا إلى ميناء جيهان التركي على ساحل البحر المتوسط، ومنه إلى كلٍ من إسرائيل وأوروبا، فقد أصبحت آذربيجان رابعَ أهم مصدرٍ للنفط لإسرائيل بنسبة 30% من واردات النفط الإسرائيلية كما تُسهم بشكل ٍكبير في واردات النفط لتركيا. كما تُعلّق إيران آمالًا كبيرة على تنفيذ محور الشمال – الجنوب لنقل التجارة من ميناء تشابهار على خليج عمان إلى روسيا، ومن ثم إلى أوروبا عبر إنشاء خطوط سككٍ حديدية تمر بدول القوقاز، وتُشكّل آذربيجان وأرمينيا محطتين مهمتين في ذلك المشروع.
2. تهديد الأمن البيئي والنووي العالمي
ولا تقتصر خطورة الصراع بين آذربيجان وأرمينيا على مخاطر إمدادات الطاقة لأوروبا وإسرائيل أو مشروعات نقل الطاقة الروسية – الإيرانية فقط، وإنما تمتد لتهديد الأمن البيئي والنووي العالمي، إذ تُهدد آذربيجان باستهداف محطة ميتسامور للطاقة الكهروذرية والواقعة على بُعد 35 كيلو مترًا فقط غرب العاصمة الأرمينية يريفان، وهي المحطة التي أنشأها السوفييت في سبعينات القرن الماضي، وتوقف العمل بها في عام 1988م على إثر زلزالٍ أصاب المنطقة، ولكن أُعيد تشغيل أحد مفاعلاتها في 1995م ليمُد أرمينيا بـ 40% من احتياجاتها من الطاقة؛ وبالتالي ينطوي الصراع الأرميني – الآذربيجاني على مخاطر اقتصادية ونووية كذلك تهدد أمن واستقرار العالم خاصةً في ظل التطور التسليحي الذي حققهُ البلدان خلال العقدين الماضيين، والذي يسمح لهما بشن حربٍ طويلةِ الأمد عاليةِ المخاطر.
3. ارتفاع أسعار النفط عالميًا
نظرًا لأن آذربيجان إحدى الدول المصدرة للنفط وتتّجه صادراتها إلى تركيا وإسرائيل وأوروبا، وهي أسواقٌ محدودة البدائل في ظلّ توقف صادرات النفط الليبي، من المتوقع أن يحدُث ارتفاعٌ في أسعار النفط خلال الأيام القليلة القادمة، خاصةً إذا ما تعرّض خط أنابيب باكو جيهان للقصف من قِبل أرمينيا.
4. اندلاع موجات نزوح من القوقاز
يتوقع في حال استمرار القتال بين الجانبين أن تندلع موجاتٌ من النزوح الجماعي من مناطق التماس إلى العُمق الآذربيجاني والأرميني يعقُبها نزوحٌ إلى خارج أراضي الدولتين في حال استمرار القصف واستهداف العُمق، وإيران هي أكثر الدول المرشحة لاستقبال النازحين من كلا الدولتين، تليها تركيا ثم روسيا.
سادسًا: السيناريوهات المستقبلية
تنبني السيناريوهات المستقبلية لاندلاع القتال بين البلدين على احتماليةِ الحرب الشاملة واستمرارِ عمليات القتال لفترةٍ تتجاوز الشهرَ من القتال المباشر، مع تعرُّض أيٍ من أراضي الدولتين لاقتحامٍ وتوغل من قوات الدولة الأُخرى، وعدم اقتصارِ القتال على أراضي إقليم نجورني قره باغ والأقاليم الآذرية المحتلة من قِبل قوات الإقليم المدعوم من أرمينيا. لأنه في هذه الحالة نكون أمام أحد هذه السيناريوهات التالية:
- انتصار القوات الآذربيجانية واستعادة قره باغ وبقية الأقاليم الآذرية المحتلة
في هذه الحالة يبدو أن التدخل الروسي المباشر سوف يكون شبه مؤكد لضمان سلامة الأراضي الأرمينية، ودعم القوات الروسية المتمركزة فيها، وعلى الرغم من هذا لا يتوقع أن تغامر تركيا بحدوث اقتتالٍ مباشر بين عناصرها والقوات الروسية أو حتى قوات آذربيجان وروسيا، وإنما سوفَ تستخدم ورقةَ تدخلها المباشر لمنع التدخل الروسي المباشر، ثم يبدأ تراجُع آذربيجان إلى الحدود الدولية مع تثبيت الوضع القائم، وخوض مفاوضاتٍ عقِب إعلان وقف إطلاق النار.
هذا السيناريو يكفل تحقيقَ مصالح وأهداف تركيا التي أشرنا إليها وظهور آذربيجان القوية، وتغيير معادلات التوازن إلى حدٍ كبير في القوقاز، والتي سوف تنعكس بالتالي على منطقة الشرق الأوسط، حيث تؤدي إلى تعظيم النفوذ التركي في المنطقة وتشجيعها على خوض غمار مزيدٍ من التدخلات سواءً في ليبيا أو سوريا، والصعود النسبي لتيار الإسلام السياسي بشكلٍ عام في المنطقة. لكن في نفس الوقت سوف تتوتّر العلاقات الروسية – التركية إلى حدٍ كبير، ولعلّها تكون بدايةَ انهيارِ اتفاق إدلب، واستئناف الهجمات الروسية والإيرانية على جيوب المعارضة في سوريا.
2. فشل الهجوم الآذربيجاني وتوقُّف الهجوم
ترتبط احتمالية فشل الهجوم الآذري بحجم الخسائر البشرية التي سوف تلحق به لدى الإقدام على اقتحام المناطق الجبلية الوعرة بإقليم قره باغ، وعلى الرغم من أنه يمكن تجنّب هذه الخسائر إلى حدٍ ما بالهجوم على أطراف المناطق المحتلة من الشمال والجنوب، وهي مناطقٌ ذات طبيعةٍ أقلَّ وعورة مع تجنب الهجوم على وسط الإقليم، لكن الانتصار الحقيقي لآذربيجان لا يمكن أن يكتمل إلا باقتحام المناطق الجبلية بما فيها ستيبانا كرت عاصمة إقليم قره باغ، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى ارتفاعِ الخسائر البشرية في الصفوف الآذرية. في هذه الحالة يتجمّد الطموح الآذري والتركي لفترةٍ من الوقت، ويتوقّف حسابُ المكاسب والخسائر لكلٍ من تركيا وآذربيجان على نتائج المفاوضات اللاحقة لوقف أعمال القتال، لكن حتى مع احتمالية فشل الهجوم الآذري لا شكَّ أن آذربيجان سوف تُحقق مكاسب ولو محدودة على الأرض، لأن موازين القوة تميلُ لصالحها بشكلٍ كبير، ولا يمكن لقوات إقليم قره باغ ولا القوات الأرمينية الصمود كثيرًا بدون الدعم الروسي الذي سوف يُجمّد لبعض الوقت بسبب تلويح تركيا بالتدخل.
3. إيقاف الهجوم نتيجةَ الضغوط الدولية والدخول في مفاوضات
بالفعل صدر عن أرمينيا مناشداتٌ دولية بالعمل على دعوة آذربيجان إلى وقف الهجوم، ونَشطت اللوبيهات الأرمينية في أوروبا والولايات المتحدة لدفع حكومات هذه الدول للتقدم إلى مجلس الأمن بطلب إصدار قراراتٍ بوقف إطلاق النار، وبالفعل تقدم مندوب بلجيكا في مجلس الأمن بطلب عقد جلسةٍ طارئة يوم الثلاثاء الموافق 29 سبتمبر 2020م لبحث تطورات الأوضاع بين آذربيجان وأرمينيا، وانضمّت كلٌّ من ألمانيا وفرنسا لهذا المطلب ثم لحقت بهم بريطانيا، وفي حال صدور قرارٍ بوقف إطلاق النار واستئناف أعمال التفاوض لحل الأزمة، والتي تجمّدت منذ عام 2010م، من المرجح قبول آذربيجان للقرار ووقف القتال استنادًا إلى تصريح الرئيس الآذري إلهام علييف الذي أكّد يوم الاثنين الموافق 28 سبتمبر 2020م خلال محادثاتٍ مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، على ضرورة تسوية الصراع في إقليم قره باغ بناءً على قرارات مجلس الأمن الدولي؛ ويستند علييف إلى قراراتٍ سابقة لمجلس الأمن تُلزم أرمينيا بالانسحاب من جميع الأراضي الآذربيجانية التي احتلّتها.
والسيناريو المرجّح هو إيقاف الهجوم نتيجةَ الضغوط الدولية والدخول في مفاوضات، لكن مع سعي آذربيجان لتحقيق أكبر قدرٍ من الانتصارات في أسرع وقت وأقل خسائر بشرية، وبالتالي تغيير الواقع على الأرض بما يتوافق مع واقع موازيين القوة بين آذربيجان وأرمينيا ولو بشكلٍ نسبي، وتحول ورقة الصراع الآذربيجاني – الأرميني إلى ورقةِ تفاوضٍ وضغط بين عديدٍ من القوى الإقليمية والدولية، وتصدّرها للاهتمام العالمي لفترة، وبناءً عليه سوف تحقق تركيا قدرًا من المكاسب يتوقف على حجم الانتصارات الآذرية المتوقعة تنعكس بالإيجاب على مكانةِ تركيا في كلٍّ من القوقاز والشرق الأوسط، هذا ما لم تُقدِم روسيا على تقديم الدعم القتالي لأرمينيا وانفصاليي قره باغ بما يضمن لهم التفوق على آذربيجان من البداية وعدمَ انتظار تعرُّض الأراضي الأرمينية نفسها للهجوم من قِبل آذربيجان.