أصبحت منطقة الشرق الأوسط وما تعيشه من أزمات وتناقضات مثالًا لتعقيد الأمور وتشابك المصالح وتنافرها؛ فلا يمكن الجزم إذا كانت الثروات الطبيعية، مثل الغاز والنِّفْط، نعمة أو نقمة، ولا غرابة أن يصرِّح وليّ العهد السعودي بعد إطلاق رؤية المملكة 2030 بأن السعودية تعمل بجدية على التخلُّص من «الإدمان على النِّفْط».
حاليًّا تتبلور إشكالية في سوق الغاز بالمنطقة، فقطر ترغب في رفع إنتاجها منه، وهذا يهدد مصالح روسيا وإيران لما بين قطر وإيران من حقول مشترَكة، ولِمَا تسعى له روسيا من احتفاظ بمكانتها كإحدى أكبر بلدان العالَم إنتاجًا للغاز الطبيعي. في الوقت نفسه تستورد تركيا الغاز من إيران، وبين الدوحة وأنقرة تناغم سياسي واقتصادي، وإذا أوصلت قطر غازها إلى تركيا فهذا يعني أنها على أبواب أوروبا؛ مما يفتح لصادراتها من الغاز أسواقًا جديدة. ويفكّر الرئيس التركي أردوغان في استثمار دعمه لتميم عبر الحصول على الغاز بأسعار مخفَّضة، ليتخلص من الضغط الإيراني المستمر. هنا يُمكن الإشارة إلى سابقة بين إيران وتركيا، هي تعثُّر صادرات الغاز الإيراني لتركيا عبر الأنابيب، وقلّتها عن المتفَق عليه؛ مما سبّب خسارة اقتصادية جعلت تركيا تقاضي إيران في المحاكم الدوليَّة. لكن خلال العام 2019م انخفضت ورادتها بنسبة 50% تقريبًا من كلﱟ مِن روسيا وإيران، وزادت حدة الانتقادات التركية لإيران؛ بسبب جودة وتسعير الغاز الإيراني الذي تستورده، وأعلن أردوغان عن مخططاتٍ لتحويل تركيا لمصدر للطاقة عبر زيادة الاكتشافات المحلية للاكتفاء الذاتي ثُمَّ التصدير، وفي 2020م أعلنت تركيا اكتشاف حقلٍ كبيرٍ في البحر الأسود سيكون جاهزًا للإنتاج بحلول 2023م، وحتى حلول وقت الجاهزية للإنتاج ستُمثِّل الاكتشافات ورقة ضغطٍ للتفاوض على تقليل أسعار شراء تركيا للغاز من الخارج، علاوةً على سعي تركيا الدؤؤب لاسكتشاف حقول الغاز في البحر المتوسط- أي إنَّ حاجة تركيا إلى استيراد الغاز في طريقها للزوال ، وعلى الأرجح ستبدأ بالتخلي عن الغاز الإيراني.
وإذا فكَّرَت قطر في تصدير الغاز إلى تركيا فستحتاج إلى مدّ أنابيبَ عبر الخليج العربي إلى العراق أو إيران، ومِن ثَمَّ إلى تركيا، ولن تسمح إيران بمرور هذه الأنابيب عبر أراضيها، أو حتى المياه الإقليميَّة أو أعالي البحار؛ لأنه يقلّل نصيبها من السوق التركية. وتُركز إيران في صادراتها من الغاز حاليًّا على السوق الآسيوية، خاصةً الهند وأفغانستان، وبين إيران وباكستان مشروع أنابيب غاز متعثّر، كما تحدثت وسائل إعلامية عن تفاوض إيران مع الهند لصفقة غاز استثمارية بـ200 مليار دولار، لكنّ الهند رسميًّا عدم إمكانية تحقُّق مشروع لبناء خط أنابيب نقل الغاز من إيران إلى الهند عبر أراضي باكستان في المستقبل المنظور بزعم المشكلات الأمنية في باكستان، كما تخلت عن تعهداتها بالاستثمار في ميناء تشابهار منذ خروج أمريكا من الاتفاق النووي- والسوابق التاريخيَّة تكشفُ أنَّ الهند من بين أوائل الدول التي تتخلى عن الاستثمار في إيران عند ظهور أيّ بادرة خلاف إيراني مع أمريكا.
وتنبأت قطر بهذا التوجه الإيراني فألغت قرار تجميد حقل الشمال المشترك مع إيران الذي كان مفعَّلًا منذ أكثر من اثني عشر عامًا تقريبًا، لكن سرعان ما عاد التعاون الإيراني-القطري في استخراج الغاز من حقل بارس المشترك وتتولى إيران إنشاء البنية التحتية ومنصات الإنتاج وتتولى قطر البيع والتوزيع لتجاوز العقوبات الأمريكية على إيران. يُشار هنا إلى أنه خلال السنوات القليلة الماضية كانت إيران تتَّهمُ قطر باستغلال حقل الغاز المشترك في مياه الخليج العربي؛ بسبب ضعف البنية التحتية الإيرانية والإنتاج الإيراني الضعيف نسبيًّا من الحقل، بل اتُّهم بعض المسؤولين الإيرانيين بالتواطؤ والرشوة من الحكومة القطرية، بغض النظر عن الإنتاج القطري المتصاعد من الحقل دون غيره.
تمتلكُ إيران ثاني أكبر احتياطيﱟ من الغاز في العالَم بعد روسيا، إلّا أنّها تستهلك معظم إنتاجها منه، ففي 2018م أنتجت 239.5 مليار متر مكعب، واستهلكت محليًّا 92.2% من إجمالي إنتاجها لنفس العام أو 225.6 مليار متر مكعب- والملفت للنظر أنَّ معدل نمو استهلاكها المحلي من الغاز خلال عشر سنوات يتزايد بسرعة ويكاد يقترب من معدل نمو إنتاجها السنوي من الغاز وإذا ما استمر الأمر على نفس المنوال سوف يتآكل فائض تصديرها منه تدريجيًّا، وتستورد أيضًا كميات كبيرة من أذربيجان وتركمانستان، بخاصة للمناطق الشمالية من البلاد. فطهران، إلى جانب رغبتها في التخلص من الضغوط السياسية من تركمانستان في الشتاء القارس والتهديد بقطع تصدير الغاز، كما فعلت في عام 2016م، تحتاج إلى تطوير حقول الغاز المشتركة، بخاصة مع قطر، وقد تستغلُّ الأوضاع الراهنة للاستعانة بالتكنولوجيا المستوردة التي تمتلكها قطر، لتطوير الجزء الخاصّ بها، وبالتالي ترفع معدَّلات إنتاجها، وهو ما نشهد بوادرهُ منذ خروج واشنطن من الاتفاق النووي.
أما روسيا، فتُعَدّ المورِّد الأول للغاز إلى كثير من الدول الأوروبية، وسابقًا أبدت موسكو امتعاضها من أيّ محاولات أو تفكيرٍ إيراني جادّ لتصدير الغاز إلى الدول الأوروبية والاستيلاء على السوق هناك على حساب روسيا. والآن، مع دخول قطر للمعركة، فلن تقبل روسيا بذلك أيضًا، وقد ينعكسُ على مواقفها السياسية من المثلث التركي-الإيراني-القطري. ولا تزال روسيا حتى الآن هي المصدر الأساسي لإمداد أوروبا بالغاز عبر الأنابيب الأرضية الأقل كلفة ، بينما الوجهة الأساسية للغاز القطري هي الصين والهند ودول آسيا وبعض الدول الأوروبية عبر ناقلات الغاز المسال عادة،- ولكن هناك مستجداتٌ في سوق الغاز تُقلل من فرص نجاح المخططات القطرية لتصدير الغاز لأوروبا، وربما حتى تٌشكل تحديًّا للهيمنة الروسية على تصدير الغاز لأوروبا مثل اكتشافات غاز كبيرة حوَّلت دولًا قريبة جغرافيًّا لأوروبا من مرحلة الاستيراد لمرحلة التصدير سريعًا (مصر)، وتحولت بوصلة دول أخرى مجاورة لأوروبا لاستغلال احتياطها الضخم من الغاز (السعودية وبقية دول الخليج).
في عهد أوباما، خلال المفاوضات النووية، كانت الولايات المتحدة بالفعل تُغرِي إيران سِرًّا بسوق الغاز الأوروبية، وكانت موسكو تلوِّح بالورقة الإيرانية عند أيّ مفاوضات حول الأزمة الأوكرانية. حاليًّا تسير إدارة الرئيس ترامب في عكس اتجاه إدارة سلفه، ولكنها أيضًا تُواجه الإشكالية الروسية، وتهدِّد الاتِّفاق النووي مع إيران بالإلغاء أو بتشديد الرقابة وفرض كثيرٍ من الإجراءات الصارمة ضدّ طهران.
إنَّ بروز الأزمة الخليجية أحيا الصراع على سوق الغاز، وبالتالي سوف تنعكسُ كل هذه الحسابات على المعادلات السياسية والتكتُّلات الجيو-سياسية في المنطقة، وسوف يظهر ذلك جليًّا إذا استمرت الأزمة الخليجية فترةً طويلة، وهي مرشَّحة لذلك بالفعل في ظلّ المعطيات الراهنة.
من جانبها، كانت السعودية تركز على عائدات النِّفط وتتجنب سوق الغاز لأسباب كثيرة، حتى قيل إنَّ الرياض تحرق الغاز ولا تصدِّره إيثارًا منها للجانب القطري في السنوات الماضية، وتُفكر السعودية حاليًّا في حصة من كعكة الغاز العالميَّة وتستثمر في ذلك بشكلٍ مُعلن وهو توجّهٌ سعوديٌ جديد لدخول سوق الغاز بقوة. من المؤشرات على ذلك أنَّ السعودية زادت إنتاجها من الغاز الطبيعي بنسبة 47 % خلال آخر عشرة أعوام، وتستهدفُ المملكة أنْ تصبح ثالث أكبر منتجٍ للغاز الطبيعي في العالم بحلول 2030م، فهل ستعملُ على دراسة نقله عبر أنابيب إلى سواحل البحر الأحمر ومنها عبر قناة السويس إلى أوروبا؟ وبما أنّ مصر لاعب رئيس في التجاذبات السياسية الراهنة في المنطقة، فهناك خِيار إستراتيجي يتمثَّل في استخدام احتياطي الغاز المصري ورقة ضغط بعد اكتشاف حقول غاز مصرية عملاقة في البحر المتوسط (حقل ظُهر) ، وقربها من أوروبا وبدء الإنتاج من هذا الحقل العملاق ، للاكتفاء الذاتي ثُم التصدير، وفي حال التنسيق المصري-السعودي يمكن مدّ شبكة خطوط أنابيب غاز عملاقة تنقل كميات هائلة من الغاز السعودي والمصري إلى أوروبا عبر البحر المتوسط وخلق عامل ضغط جديد قد يقلب موازين اللعبة السياسية في الأسواق العالميَّة للطاقة -على غرار خط أنابيب النِّفط «سوميد» الذي ينقل جزءًا من صادرات النِّفط السعودي والخليجي إلى البحر المتوسط عبر الأراضي المصرية منذ عام 1977م.
عمومًا، فكرة إيصال نفط المنطقة الخليجية إلى القارة الأوروبية ليست وليدة اللحظة، فإيران كانت اقترحت في 2011م مد أنابيب الغاز من حقل «بارس الجنوبي» إلى العراق، ثُم سوريا، ومِن هناك إلى لبنان، ليصبّ في البحر الأبيض المتوسط ويسهل نقله إلى القارة الأوروبية. وقبل ذلك بعامين اقترحت قطر على بشار الأسد تأسيس خطّ أنابيب غاز من الحقل المشترك مع إيران (القبة الشمالية-بارس الجنوبي)، ليمرّ عبر العراق وسوريا، ثُم عبر محافظة حلب إلى تركيا، وأيضًا لإمداد تركيا بالغاز، وأيضًا التصدير إلى أوروبا، إلّا أنَّ بشار الأسد رفض ذلك بسبب علاقته مع إيران وروسيا.
إجمالًا، يُمكن القول: إنَّ الخطوط متشابكة تمام التشابُك، والمصالح متضاربة تمام التضارُب، حتى بين الحلفاء السياسيين، ولا يبدو في الأفق والمستقبَل القريب حلٌّ سلِس لهذا التضارُب، دون أن يبدأ جميع الأطراف بتوفير وتهيئة مصادر أخرى للتنمية الاقتصادية بعيدًا عن النِّفْط والغاز. وإذا كانت الأزمة الخليجية قد قرَّبت بين وجهات النظر التركية والقطرية والإيرانية بشكلٍ مكشوف، فإنَّ هذا جانبٌ تكتيكي أكثر من كونه إستراتيجيًّا، والدبّ الروسيّ يراقب عن كَثَب لحماية مصالحه وحصته العالمية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد