العقوبات الأمريكية على القطاع المالي لإيران.. الدوافع والتداعيات

https://rasanah-iiis.org/?p=22586

في خطوة لتعزيز قرار الولايات المتحدة بتفعيل آلية «سناب باك» الخاصّة باستعادة العقوبات الأُممية على إيران، الصادر في التاسع عشر من سبتمبر 2020م، فرضت الولايات المتحدة عشيَّة الثامن من أكتوبر سلسلة جديدة من العقوبات التي استهدفت القطاع المالي الإيراني، والتي لم تكُن مُدرَجةً على قائمة العقوبات الثانوية، بإدراج 18 مصرفًا في إيران في قائمة العقوبات، مع حظر الأُصول الأمريكية وحظر أيّ معاملات بين المواطنين الأمريكيين والبنوك المُستهدَفة، كما تشمل فرض عقوبات ثانوية للشركاء التجاريين مع البنوك الإيرانية. وقالت وزارة الخزانة الأمريكية في بيان لها إنّ العقوبات المفروضة على القطاع المالي للاقتصاد الإيراني تُفرَض باعتباره خاضعًا للأمر التنفيذي رقم (EO) 13902، الذي يتيح للوزارة معاقبة أيّ مؤسَّسة مالية إيرانية، بوصفها وسيلة إضافية لتمويل الأنشطة الخبيثة للحكومة الإيرانية.

وكجزء من هذا الإجراء، فُرِضَت عقوبات على 16 مصرفًا إيرانيًّا لأنشطتها في القطاع المالي الإيراني، وبنك آخر تديره مؤسَّسة مالية مُدرَجة بالفعل على قائمة العقوبات الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، وفي إطار مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، ووفقًا للأمر التنفيذي رقم 13382، فُرِضت عقوبات على أحد البنوك المرتبطة بالقوّات المسلَّحة الإيرانية. كما أوضحت أنّ هذا القرار يعكس التزام واشنطن منع الوصول غير القانوني للدولار الأمريكي، وأنّ العقوبات نفسها لن تؤثِّر على المعاملات الإنسانية وشراء المنتجات الزراعية والأغذية والأدوية والمعدّات الطبيّة.

تُعتبَر جولة العقوبات الجديدة استكمالًا لحملة الضغوط القصوى المفروضة على إيران، وتهدف بها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دفع طهران أكثر نحو تغيير موقفها وقبول التفاوض على صفقة جديدة، كما صرَّح بذلك وزير الخارجية مايك بومبيو بقوله: »حملتنا للضغوط الاقتصادية القصوى ستستمرّ ما لم تقبل إيران بإجراء مفاوضات شاملة تتناول السلوك الضارّ للنظام«، فيما أوضحت وزارة الخزانة الامريكية أنّ هذه العقوبات ستدخل حيِّز التنفيذ خلال 45 يومًا، أي بعد الانتخابات الرئاسية المُقرَّرة في الثالث من نوفمبر، وقبل تولِّي الفائز في الانتخابات الأمريكية مهامّ الرئاسة في 20 يناير 2021، وبمجرَّد انتهاء المهلة المحدَّدة ستصبح المؤسَّسات الأجنبية المالية عُرضة للعقوبات الأمريكية.

وبموجب القرارات الجديدة، أصبح القطاع المالي والاقتصاد الإيراني بأكمله تحت طائلة العقوبات المفروضة من إدارة ترامب، ويحظر التعامل التجاري والتبادل النقدي مع مؤسَّساتها، وستخضع المؤسَّسات المالية الأجنبية لعقوبات في حال تعامُلها مع المصارف الإيرانية المشمولة بقائمة العقوبات، وهو ما يعني عزلها تمامًا عن النظام المالي العالمي. القرار الأمريكي يأتي بعد أسابيع من إعلان واشنطن إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، الذي قُوبِل وقتها برفض واسع من معظم أعضاء مجلس الأمن، وفي مقدِّمتهم أوروبا وروسيا والصين.

أوّلًا: الأُسُس القانونية لقرار فرض سلسلة جديدة من العقوبات على إيران

يخضع معظم المؤسَّسات المالية الإيرانية بالفعل لعقوبات أمريكية أولية صادرة عن مكتب مراقبة الأُصول الأجنبية وفقًا للأمر التنفيذي رقم 13599، ومع ذلك فإنّ الجولة الأخيرة من العقوبات المفروضة قد وسَّعت هذه الإجراءات المحدودة، من خلال فرض عقوبات ثانوية في الأمر التنفيذي 13902. وتستهدف العقوبات الجديدة البنوك الكبيرة العاملة في القطاع المالي الإيراني، وهي: بنك أمين للاستثمار، بنك كشاورزي، بنك مسكن، بنك رفاه كاركران، بنك شهر، بنك اقتصاد نوين، بنك قرض الحسنة رسالت، بنك حكمة إيرانيان، بنك إيران زمين، بنك التعاون الإسلامي الإقليمي، بنك كار آفرين، بنك خاورميانه (المعروف أيضًا باسم بنك الشرق الأوسط)، بنك قرض الحسنة مهر إيران، بنك باساركارد، بنك سامان، بنك سرمايه، بنك توسعه تعاون (بنك التنمية التعاوني)، وأخيرًا بنك السياحة الإيراني. جميع البنوك السابقة التي فُرِضت عليها العقوبات تخضع للرقابة والتنظيم مِن قِبل البنك المركزي الإيراني (CBI)، الذي أُدرِج سابقًا ضمن قائمة العقوبات، بموجب الأمر التنفيذي 13224، لدعمه للأنشطة الخارجية للحرس الثوري الإيراني.

ثانيًا: أسباب ودوافع فرض العقوبات على القطاع المصرفي الإيراني

يهدف فرض العقوبات الإضافية إلى غلق باقي الآليات والقنوات المالية، التي لم تشملها قائمة الحظر الأمريكية السابقة للالتفاف على العقوبات، إذاستفاد الاقتصاد الإيراني سابقًا من كون العقوبات المفروضة تغطِّي فقط تلك المؤسَّسات والشركات التي تمتلك علاقات تجارية مع الاقتصاد الأمريكي، وذلك بجعلها مخيَّرة بين خسارة تجارتها الأمريكية أو تجارتها الإيرانية، أمّا تلك المؤسَّسات التي لا تمتلك علاقات تجارية مباشرة مع الاقتصاد الأمريكي فلن تكون خاضعة لهذه العقوبات، وبذلك تمكَّنت طهران من إنشاء شبكة واسعة من المؤسَّسات والآليات التي تكفُل لها استمرار التدفُّق النقدي والتبادُل التجاري مع باقي دول العالم. تقارير عدَّة كشفت عن استغلال الحكومة الإيرانية لبنوكها الخاصَّة، ومن ضمنها البنوك التي أُدرِجت في قائمة العقوبات الجديدة، في إجراء معاملات مالية مع بنوك خارجية عبر بيع النفط وتبادُل البضائع، والحصول مقابل ذلك على عُملات أجنبية غير الدولار، كاليوان والروبل، تفاديًا للعقوبات الأمريكية، ولذا جاءت القرارات الجديدة بالعقوبات الثانوية لإغلاق هذه الأبواب أمام إيران.

تأتي الإجراءات الجديدة بعد تفعيل الولايات المتحدة -الأُحادي الجانب- في سبتمبر الماضي لآلية »سناب باك»، التي تتضمَّن عودة جميع العقوبات الأُممية المفروضة على إيران. وعلى الرغم من الرفض الدولي لتفعيل الآلية لكون الولايات المتحدة الأمريكية ليست عضوًا في الاتفاقية النووية بعد انسحابها منها عام 2018م، فإنّ الإدارة الأمريكية مُصمِّمة على استكمال هذه الآلية، إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات استهدفت وزارة الدفاع الإيرانية وآخرين متورِّطين في برامجها النووية. وفي الأسبوع نفسه، أدرجت واشنطن أيضًا عديدًا من المسؤولين والكيانات الإيرانية في القائمة السوداء بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتأتي العقوبات الأمريكية الأخيرة التي استهدفت النظام المالي الإيراني في هذا الإطار استكمالًا لهذا المسار نحو تقويض قُدرات الاقتصاد الإيراني وعزله عن النظام المالي الدولي.

وبصرف النظر عن الأهداف السابقة المراد تحقيقها من فرض عقوبات على القطاعات المالية الإيرانية، فإنّ ترامب وإدارته أرادوا بشكل أساسيّ من هذا القرار إيصال عدّة رسائل إلى الناخبين الأمريكيين، وإلى منافسه في الانتخابات الرئاسية جو بايدن، لا سيّما أنّ القطاع المصرفي الإيراني خاضع بالأساس للعقوبات الأمريكية من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ غالبية البنوك التي طالتها العقوبات المفروضة في الثامن من أكتوبر لا ترتبط بشكل مباشر بالإرهاب أو بمكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل. أُولى رسائل الرئيس الأمريكي تهدف إلى إظهار أنّ سياسة الضغوط القصوى في حال انتخابه لفترة رئاسية ثانية ستستمرّ حتّى ترضى الإدارة الإيرانية بالتراجُع عن مساعيها والقبول بمفاوضات جديدة. كما أنّ الرسالة الثانية مفادها تقويض جهود المرشَّح الرئاسي جو بايدن، الرامية إلى العودة إلى اتفاق 2015 مع إيران بشأن برنامجها النووي، وتعقيد أيّ مساعٍ ديمقراطية لإنهاء سياسة الضغط الأقصى التي انتهجها ترامب.

ثالثًا: التداعيات المحُتمَلة من تطبيق العقوبات المالية على إيران

قد يؤدِّي هذا القرار مِن قِبل واشنطن إلى دفع طهران إلى الاعتماد بشكل متزايد على التجارة الدولية غير القانونية أو السرِّية، أو حتّى إلى تهريب النفط عبر سُفنها إلى بعض الدول، من أجل جني بعض الأرباح المستعجلة والتحايُل على العقوبات الأمريكية، كما شهدت الفترة السابقة تزايُد عدد شحنات النفط المُهرَّبة إلى فنزويلا. كما أنّ التجارة السرِّية والمحاولات الإيرانية للالتفاف على العقوبات الأمريكية عبر المصارف غير الإيرانية ستستمرّ رغم الإجراءات الأمريكية الجديدة، ولعلّ زيارة محافظ البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي إلى العراق، التي حملت هدفًا ظاهرًا وهو تحرير الأُصول الإيرانية المُجمَّدة في البنوك الإيرانية جرّاء تصدير الغاز والكهرباء إلى العراق، لها هدف خفيّ وهو السعي الإيراني لتمرير الأموال عبر المصارف العراقية.

كما سيدفع هذا القرار طهران إلى المضيّ قُدمًا في تكثيف نشاطها الدبلوماسي، عبر تعميق تعاوُنها مع البلدان الحليفة لها والمعارضة للسياسات الأمريكية، وإيجاد آليات جديدة وبعض الحلول للتخفيف من وطأة هذه العقوبات. وفي إطار ذلك، دفعت العقوبات المفروضة إيران إلى الاستنجاد بالصين، وذلك عبر زيارة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف لبكين، في زيارة ليومين، بعد يوم من إدراج القطاع المالي الإيراني في القائمة السوداء. وتُعتبَر الصين من أبرز الدول الداعمة لإيران في معرض الاشتباكات والتوتُّرات القائمة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يقتصر الأمر على أنّ الحكومة الصينية من ضمن الدول الموقِّعة على الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015م، بل كونها رفضت المساعي الأمريكية المستمرَّة لتمديد حِزَم العقوبات الاقتصادية على إيران، من خلال منظَّمة الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي.

من شأن هذا القرار أيضًا أن يعمِّق التوتُّرات مع الاتحاد الأوروبي، لا سيّما دول الترويكا (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة)، التي سعت إلى تحقيق توازُن صعب بين مصالحهم الإستراتيجية. فمن ناحية، هناك حاجة إلى عدم إلحاق مزيد من الضرر بعلاقاتها عبر الأطلسي، وحماية استقلاليتها وسيادتها الدولية في مواجهة إعادة فرض العقوبات الأمريكية الثانوية، التي أضرَّت بتجارتها الثنائية مع إيران التي تقلَّصت بنسبة 9% منذ يناير حتّى يوليو للعام الحالي مقارنةً بنفس الفترة من العام السابق. ومن ناحية أخرى، الحفاظ على خطَّة العمل الشاملة المشتركة ومحاولة وضع حدّ لمحاولات الولايات المتحدة إفشال الاتفاقية نهائيًّا، من خلال تمديد حظر الأسلحة وإلغاء العقوبات الأمريكية.

كما أنّه من المُحتمَل أن تكون العُملة الإيرانية من أكثر جوانب الاقتصاد الايراني تأثُّرًا بموجة العقوبات المفروضة، وأن تشهد مزيدًا من التراجُع خلال الفترة المقبلة. فمنذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي لإيران في مايو 2018، وحتّى الوقت الحالي، فقدَ التومان الإيراني كثيرًا من قيمته أمام الدولار الأمريكي، إذ بلغ قرابة 6 آلاف تومان في مايو 2018، ليهبط إلى 29 ألفًا في الثامن من أكتوبر، ويصل إلى مستواه الحالي البالغ 31 ألف تومان للدولار الواحد، وذلك بعد أيّام قليلة من الإعلان عن فرض العقوبات الجديدة. ومن المتوقَّع أن يستمرّ في التراجُع في ظلّ الإغلاق الكامل أمام التجارة الخارجية وتراجُع العُملة الأجنبية، كما أنّه من الطبيعي أن يخلُق تراجُع التجارة الخارجية لإيران أزمةً من خلال زيادة صعوبة الوصول إلى النقد الأجنبي، وهذا من شأنه أن يسرِّع التضخُّم بعد ذلك، ما يجعل الواردات أكثر تكلفة للتجّار الإيرانيين.

وقد تسبَّبت العقوبات السابقة وفرض الولايات المتحدة عقوبات على تصدير النفط الإيراني عام 2018م في تأزيم الأوضاع الاقتصادية في إيران، وبسبب عدم وجود تدفُّق فعليّ للعُملات الأجنبية من بيع النفط خارجيًّا، سقط الاقتصاد تحت دوّامة تخفيض قيمة العُملة والتضخُّم المتسارع، إذ بلغ النمو الاقتصادي -7%، كما بلغ معدَّل التضخُّم مستوى 25.8%، ومعدَّل البطالة 10.7%، بنهاية مارس 2020م، ما يعكس مدى التأثير الفعلي للعقوبات المفروضة، التي ستزيد السلسلة الجديدة منها التأثير المتراكم على الاقتصاد الإيراني. وقبل أيّام، أقرّ الرئيس الإيراني حسن روحاني بأنّ بلاده خسرت أكثر من 150 مليار دولار من الإيرادات منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي المبرم بين البلدين، الموقَّع عام 2015م، وإعادة فرض العقوبات على اقتصادها.

من مجمل ما سبق، يتبيَّن أن توسيع دائرة العقوبات المفروضة على القطاع المالي الإيراني بشكل كامل سيجعل الأوضاع الاقتصادية أكثر تأزُّمًا ممّا سبق. وفي المحصِّلة، على الرغم من أنّ العقوبات الأمريكية على القطاعات المالية والمصرفية لإيران ليست بجديدة، فإنّ دائرة التضييق على الحكومة الإيرانية واقتصادها المنهار بدأت تشتدّ قليلًا، وقد تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من العقوبات الأمريكية، التي قد تعمِّق الأزمة الإيرانية أكثر، لا سيّما في حال التراجُع التجاري لإيران وتقلُّص عدد المنافذ المالية المتبقّية في توفير العُملة الأجنبية، وفشل الإدارة الإيرانية رغم المليارات التي تنفقها على سوق الصرف من أجل إنقاذ العُملة الوطنية من الانهيار مقابل الدولار الأمريكي، بعد تجاوُزها مستوى 31 ألف تومان.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير