في خضم احتدام الصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ بعد تداعي الهدنة التي توسطت فيها روسيا لا تزال المحافظة الحدودية الإيرانية “أذربيجان الشرقية” تُستهدف بالصواريخ، وبات من الواضح أنّ الصواريخ التي تستهدف قرى المحافظة تُطلق من الحد الأذربيجاني، ففي 15 أكتوبر نقلت وسائل إعلام حكومية إيرانية عن حاكم مقاطعة خدا آفرین “علي إميري” في محافظة “أذربيجان الشرقية” قوله إنّ 10 قذائف سقطت في قريتين في المحافظة، وقد استهدف صاروخٌ أحد المنازل ممّا أسفر عن إصابة مدني، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية سعيد خطيب زاده في تصريح له إنّ الحفاظ على أمن واستقرار المواطنين الإيرانيين القاطنين في المناطق الحدودية “خط أحمر بالنسبة لقواتنا المسلحة”.
وقد حذرت إيران أكثر من مرة بأنها لن تبقى مكتوفة اليدين في حال استمر طرفا النزاع في الاعتداء على الأراضي الخاضعة لسيادتها، إذ تعرضت المناطق الحدودية الشمالية الغربية في إيران لهجماتٍ بقذائف الهاون والصواريخ بوتيرة متقطّعة منذ اندلاع القتال بين أرمينيا وأذربيجان في 27 سبتمبر.
وقبل أسبوعين تقريبًا أسقطت إيران طائرة مسيرة ثانية في مجالها الجوي كانت تحلق فوق أذربيجان الشرقية، وليس وقوع هذه الحوادث بالأمر المعتاد، فإيران لا تتعرض لتهديداتٍ أمنية كبيرة في تلك المناطق الحدودية، كما أنّ الطائرة المسيرة الأولى التي استهدفتها إيران كانت تركية الصنع والثانية كانت إسرائيلية الصنع وهو أمرٌ يثير قلق الحرس الثوري الإيراني بصورة أكبر، وقد أسقطها الجيش الإيراني بدقّة باستخدام مدفعٍ مضاد للطائرات بدلًا من استخدام صاروخ لاعتراضها بأقل قدٍر ممكن من الضرر، وقد يكون الحطام مفيدًا لإيران لأغراض الهندسة العكسية.
وقد نشرت إيران- منذ مطلع أكتوبر – قواتها على حدودها مع أذربيجان وأرمينيا، وتفيد تقارير أيضا بتزويدها أرمينيا بالأسلحة في ناغورنو كاراباخ، فيما نفت إيران صحة الاتهامات التي وجهها لها الرئيس الأذربيجاني ومقطع الفيديو الذي استندت إليه اتهامات أذربيجان، وبالرغم من ذلك تسمح إيران لروسيا باستخدام مجالها الجوي لتزويد يريفان بالأسلحة، وقد حاولت حكومة روحاني -في ظل الخسائر الكبيرة التي ألحقتها أذربيجان بالقوات العسكرية الأرمينية والاحتجاجات على دعم إيران المستمر لموقف أرمينيا من احتلال ناغورنو كاراباخ-حاولت اتّباع نهجٍ جديد متوازن وبراغماتي لحل الصراع.
واتضح هذا النهج في تصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أثناء لقائه نظيره الأذربيجاني جيحون بيراموف، إذ أبدى ظريف استعداد إيران للإسهام في إحلال السّلام والتوصل إلى حلٍ مستدام للصراع في إطار مبادرة إقليمية بين إيران وتركيا وروسيا، تكون مكملة لآليّة مجموعة “مينسك” التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
غير أنّ نهج الحكومة الإيرانية الجديد (المتوازن والبراغماتي) لم يلقَ تأييدًا من المرشد الأعلى الإيراني أو مكتبه أو الحرس الثوري الإيراني، إذ اختار المرشد الأعلى الصمت بشأن هذه المسألة بينما اكتفى الحرس الثوري الإيراني بإدانة بعض القذائف التي استهدفت أذربيجان الشرقية.
وقد اندلع صراع ناغورنو كاراباخ في فترة تُعَد الأسوأ بالنسبة لإيران، إذ أصبحت أقل حدودها تعرضًا للاضطرابات الأكثر استهدافًا فجأة، وتخشى إيران (التي تسكنها أقلية عرقية آذرية يتجاوز عددها سكّان أذربيجان نفسها) من وقوع اضطرابات سياسية، كما يبدو احتمال قيام حركات تمرد انفصالية أكثر واقعيّة من أي فترة في الماضي، ويضاف إلى مخاوفَ إيران علاقات أذربيجان الإستراتيجية القوية مع إسرائيل التي تُعَد أحد كبار مصدري الأسلحة الفعّالة لها، وبالتالي فثَمَّة عديد من الأمور تثير قلق إيران، وحتى لو عكست نهجها إزاء صراع ناغورنو كاراباخ فلن يُسفر ذلك عن إضعاف العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان أو إنهاء العداء بين باكو ويريفان.
وفي أعقاب استعادة أذربيجان لإقليم ناغورنو كاراباخ ستتقلص حدودها مع أرمينيا إلى 42 كيلومترا، وقد استفادت إيران من فرصة تعامل يريفان مع الاقتصاد العالميّ، إذ حصلت منها على ما تحتاجه من الدولارات والتكنولوجيا والأغذية وغيرها من اللوازم الحيوية، وإلى حين توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة كانت أرمينيا وإيران تجريان محادثاتٍ لعقد تعاون عسكري، ولكنّ المحادثات لم تسفر عن تطور هام بسبب خوف أرمينيا من أنْ تدرجها الولايات المتحدة على القائمة السوداء وبسبب الضغط من روسيا التي لا تزودها بالأسلحة فحسب بل تملك قاعدة عسكرية فيها.
وفي حال نجاح أذربيجان في تحرير ناغورنو كاراباخ أو نجاح أيّ جهد جديد لوقف إطلاق النار، فإنّ الحدود الشمالية الغربية في إيران سوف تظل مضطربة، فمن منظور باكو فإنّ احتمال وقوع حرب عصابات في الأجزاء المحررة من ناغورنو كاراباخ سيجعلها تتخذ الحذر على حدودها مع إيران. ومن منظور إيران، فإنّ نشر منظومات الدفاع الجوي والمدفعيات والفرق المدرعة أمرٌ حتمي، ومِن ثَمَّ سيتعين على إيران -في ظل وجود قوات عسكرية تواجه بعضها البعض وسط انعدام الثقة المتبادل- أن تواجه وتتصدى لـِ استياء الإيرانيين ذوي الأصول الأذربيجانية الذين يعيشون في المناطق الحدودية النائية، وقد تتحول الطرق أو شبكات التهريب الإيرانية الحاليّة نحو إقليم ناغورنو كاراباخ (التي تسيطر عليه أرمينيا) إلى خطوط إمداد داخلية في محافظة أذربيجان الشرقية وما بعدها.
وعلى المدى القصير ستسعى إيران للتوصل إلى اتفاق وتنفيذ وقف لإطلاق النار دون مشاركة القوى الأوروبية أو الغربية، بل ستحاول عقد هدنة أوليّة مع موسكو وأنقرة، وترفض أرمينيا وساطة تركيا في الصراع أو أيّ جهد تركي لإحلال السّلام، ولكن نادرًا ما تلبّي مطالب الطرف الأضعف في الصراع.
وبالرغم من أنّ إيران قد أثبتت قدرتها على تأسيس الميليشيات المرتزقة، فإنّ التوقعات لا تبدو لصالحها في أذربيجان، ففي ظل المراقبة الجوية الإسرائيلية والتركية ووجود قواتٍ أذربيجانية على الأرض في المناطق الحدودية يكاد يكون من المستحيل أن تنجح إيران في تأسيس ميليشيا على نمط “حزب الله”، كما يبدو احتمال أنْ يزداد نشاط المعارضين بين الأقليّة الأذربيجانية في إيران أكثر ترجيحًا، ولطالما حرّك الرئيس الأذربيجاني الحسّ القومي؛ بهدف منع الأغلبية الشيعية من الابتعاد عن باكو والتأثر بالرواية الإيرانية القائلة “إنّ الشيعة إخوة”، وقد زاد الاقتتال الأخير بين أذربيجان وأرمينيا من تأجيج الحماسة القومية لدى الأذربيجانيين وكشف بوضوح عن علاقة إيران بعدوهم.