اعتمد الإيرانيون بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003م، إستراتيجية تأسيس كياناتٍ وفصائل موالية للولي الفقيه مذهبًا ومنهجًا، وتوظيفها كأدواتِ ضغط، ديني وسياسي وعسكري، تكفُل المصالح الحيوية للإيرانيين في العراق.
وفي هذا السياق العراقي المليء بالحركات السياسية والفصائل العسكرية التطييفية، والمُتخَم بتدخُّلاتٍ إيرانية، أعلن «رجل الدين» العراقي هاشم الحيدري -المقرَّب من المرشد الإيراني- عن تأسيس حركةٍ جديدة باسم: «حركة عهد الله الإسلامية»، في الثالث من نوفمبر 2020م. وتكمُن أهمِّية هذا الإعلان أنّه جاء في توقيتٍ يحاول فيه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي كبحَ جماح الميليشيات المسلَّحة، والفصائل الخارجة على مؤسَّسات الدولة العراقية، بالإضافة إلى تزايُد استهداف السفارات والبعثات الأجنبية، لا سيما الأمريكية منها، في المنطقة الخضراء وغيرها؛ ولا شكّ أنَّ لهذا الإعلان أهدافٌ ليست بعيدةً عن تلك المياه الجارية.
أوّلًا: بيئة الإعلان وتوقيته
جاء إعلان تأسيس حركة «عهد الله» في توقيتٍ بالغِ الحساسية، إذ إنَّ القنصليات الأجنبية والسفارة الأمريكية على وجه الخصوص في بغداد تتعرَّض لقصفٍ بالصواريخ بين الفينةِ والأُخرى، مع دعوة الفصائل المسلَّحة -وفي القلب منها كتائب حزب الله- إلى إنهاء التواجُد الأمريكي في العراق، ودُعِمت تلك المطالب بفتاوى من بعض رجال الدين الولائيين، البارزين، أمثال آية الله كاظم الحائري، وغيره.
ولكي نفهم بشكلٍ أوسع سياقَ تأسيس تلك الحركة، ينبغي التنويه أنّه تمّ الإعلان عن تأسيس عدَّة حركاتٍ مسلَّحة بُعيد مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني (1957 – 2020م)، ورفيقه أبو مهدي المهندس (1954- 2020م)؛ ومن أبرز تلك الأسماء المُعلَنة: «حركة أصحاب الكهف»، و«قبضة المهدي»، «عُصبة الثائرين»، التي قِيل وقتَ تأسيسها من بعض قيادات الفصائل إنَّ تأسيسها جاء لتجنُّب مواجهة الفصائل مع الحكومة العراقية، فجاء تأسيس «عُصبة الثائرين» كحركةٍ مجهولة، تتبنَّى العملَ المسلَّح ضدَّ المصالح الأمريكية والغربية، كغطاءٍ لفصائلَ أُخرى مثل «النُجباء» و«كتائب حزب الله»، ولتجنُّب العقوبات أو الاستهداف الأمريكي المباشر.
والأرجح أنَّ جُلّ تلك الحركات التي أُعلن عنها بُعيد مقتل قاسم سليماني، هي مجرَّد حركاتٍ وهمية ومجرَّد أذرُعٍ لفصائل قائمة بالفعل تُتيح لها مساحاتٍ للعمل المسلَّح دون حرجٍ سياسي، وهي إستراتيجيةٌ إيرانية اتّبعتها بعد زيادة الضغوط القصوى الأمريكية على بعض الفصائل ووضع بعضها على قوائم الإرهاب، وبعد استهداف سليماني والمهندس، وهو ما أكَّده حينئذ أحد المصادر الأمنية في وزارة الداخلية العراقية.
لكن تختلف طريقة تأسيس حركة «عهد الله» عن طريقة تأسيس تلك الفصائل السابقة كـ «عُصبة السائرين» وغيرها، إذ إنَّ حركةَ «عهد الله» أعلنت عن تشكيلها بشكلٍ رسمي، عبر هاشم الحيدري، وجاء إعلان الحركة في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، في محاولةٍ لتوظيف الذكرى، وتعزيز الشرعية الدينية.
وهذا الإعلان الرسمي رُبّما يُشير إلى الطبيعة الموكولةِ والمُتوقَّعة من تلك الحركة، فمن المستبعد أن تنخرط الحركة بشكلٍ رسمي ومُعلَن في العمل المسلَّح ضدّ التواجُد الأمريكي والغربي في العراق، ذلك أنَّ وظيفتها ستكون على ما يبدو وظيفةً ثقافية كما صرّح المؤسِّس، فهي وجهٌ دينيٌ وسياسي لكتائب «حزب الله»، وإن لم يُعلَن عن ذلك رسميًا. إلَّا أنَّ الحيدري مؤسِّس «عهد الله» قريبُ الصلة بكتائب «حزب الله»، ومقرَّبٌ بشدَّة من المرشد الإيراني، ويجهر بالولاء له، ولولاية الفقيه، وفاعلٌ في مناطق الكتائب في بغداد دون غيرها؛ ما يُعزِّز قراءة تخليق غطاءٍ سياسيٍ وديني لكتائب «حزب الله»، وبعض الفصائل الولائية؛ ويأتي ذلك في وقتٍ تواصل فيه مفوَّضية الانتخابات قبولَ تسجيل طلبات الكيانات السياسية الجديدة استعدادًا لخوض الانتخابات المقرَّرة في يونيو المقبل.
ثانيًا: شخصية المؤسِّس.. المُحدَّدات والأدوار
عند النظر في خلفيات مؤسِّس حركة «عهد الله» هاشم الحيدري، وأفكاره، ومبادئه، وشبكة علاقاته، وطرائق خطاباته، نجدُه من أشدّ الداعمين والمؤيِّدين للمرشد الإيراني علي خامنئيّ (1939م-..)، ولنظريةِ ولايةِ الفقيه المُطلَقة.
ففي أغسطس 2020م، قال في خطابٍ له إنَّ زمننا هو زمن الولي الفقيه: «زمانُنا هو زمان الولي الفقيه، الذي يحمل راية الإسلامِ والمقاومة في العالم، زماننا هو زمان الحشد الشعبي، والجمهورية الإسلامية، وحزب الله، وأنصار الله، وشعب البحرين، ومجاهدي سوريا».
وهُنا يتبنَّى نفس الخطاب الإيراني، ويسمِّي التدخُّلات العنيفة وغير القانونية من إيران وأذرُعها بالمقاومة والجهاد.
والملاحظ أنّه حريصٌ جدًّا على تقليد حسن نصر الله (1960م-..)، في خطاباته أداءً وسردًا، ومصطلحات، بلّ وأحيانًا في شكل ثيابه، وعِمامته.
وقد أبدى إعجابه بـ«حزب الله» مرارًا؛ فيقول في أحد خطاباته إنّ «حزب الله هو الثمرة الأولى، والأعمق، والأقدس للثورة الإسلامية، ولحركة الإمام الخميني..، التاريخية والكونية. فشبابُ حزب الله لا يمكن أن يُوصَفوا بأنَّهم مجاهدون عاديون، إنَّما هُم أهل بصيرة، لا بل يمكن أن نطلق عليهم أنَّهم «نافذو البصيرة». كما أنَّ تعامُل «حزب الله» مع الولي الفقيه ليس تعاملًا فقهيًا وانتظارًا للأحكام فحسب، بل هم حزبُ عشقٍ للولاية، وليسوا حزب فقهٍ وطاعةٍ فقط».
وكأنَّ خطابه هذا موجَّهٌ إلى القواعد في العراق؛ لتحفيزهم على التأسِّي بعناصر «حزب الله»، والطاعة العمياء للولي الفقيه في طهران.
ونُلاحظ أنَّ خطابه يمثِّل اليمين المتطرِّف للولائيين، فالولائيون أنفسهم خطابهم على مستويات وليس على نمطٍ واحد، فثمَّة ولائيون عراقيون يمركزون المسألة العراقية ولا يستفزُّون الجمهور بخطابِ الخاضعِ والمستسلمِ لطهران، وثمَّة يمينٌ متطرِّف كخطابِ الكتائب يجهرُ بالخضوع للولي الفقيه والسياسة الإيرانية، ويُوجب على العراقيين نحو هذا.
وثمَّة بُعدٌ آخر في شخصيته، يوحي بانتباذه العقلانية، ويؤمن ببعض الخرافات -كأضرابه من الروحانيين الإيرانيين- التي هي أقرب إلى المزايدة المذهبية، وإيثار الجانب الشعبوي المذهبي، بُغية تعزيز الشرعية المذهبية، وحشد أكبر عددٍ من العامَّة، ففي أحد حواراته يقول إنّ «قضية الحسين مكتوبة في العرش، وأنَّ الأنبياء بكوا عليه»؛ وهو ما يُسمِّيه المفكِّر الإيراني علي شريعتي (1933- 1977م) بـ«التشيُّع الصفوي».
وحاصل القول إنّ شخصية هاشم الحيدري ليست شخصيةً عسكرية، ولا شخصيةً دينيةً متجذِّرةً عراقيًا، بيدَ أنّه دائم الذكر في بياناته لولاية الفقيه، ودائم الثناء على شخصية المرشد الإيراني؛ وقد حاول الحيدري في السابقِ، مرارًا، أن يلعب دورًا بارزًا في الساحة العراقية، إلّا أنَّ محاولاته باءت بالفشل، وبقى نشاطُه منحصرًا في منطقة البلديات ببغداد، حيث تتركَّز قوَّة كتائب «حزب الله».
ثالثًا: مبادئ وأهداف الحركة
هناك عدَّة مبادئ أعلنها الحيدري في بيان تأسيسهِ لحركة «عهد الله»، من أهمِّها:
- تبنِّي ولاية الفقيه المُطلَقة
أعلن الحيدري صراحةً أنَّ حركته تعتقد ولاية الفقيه، وتُدين بالولاء للولي الفقيه في إيران: «هدف الحركة وخطّها ومشروعها هو الإسلام وولاية الفقيه، ونحن نؤمن بأنَّ الدين يقود الحياة، ونؤمن بمنهج الإمام الخميني».
ثمَّ أشار إلى ما هو أخطر من ولاية الفقيه في حدّ ذاتها، فأكَّد على أنَّ «منهج الخميني لا يختصّ ببلدٍ دون آخر، ولا بقوميةٍ دون أُخرى، ولا بشعبيةٍ دون غيرها».
وفي هذا إشارةٌ إلى إيمانه بعدم انحصار ولاية الفقيه في حدود الجغرافيا الإيرانية فحسب، بل تشمل المسلمين جميعًا، وبالتالي فإنَّ الواجب على العراقيين وفقًا لهذه القراءة، أن يدينوا بالولاء للولي الفقيه، وذلك في الحقيقةِ نسفٌ للعملية السياسية العراقية برُمّتها، إذ إنَّه لا فائدة منها في حال الاعتقاد بولاية الفقيه، والإذعان له، فالمفارقة أنّه يدخل من باب السياسة والتعدُّدية لتأسيس حركةٍ دينية لا تؤمن لا بالسياسة ولا التعدُّدية.
وحسب حُجَّة الإسلام محسن كديور (1959-..) فإنَّ «عنوان ولي أمر المسلمين في العالم، يحكي عن الشمولية الشرعية لأوامر هذا النوع من الحكومة لجميع المسلمين في العالم»؛ وحسبَ آخرين فإنَّ «إطلاق السيِّد علي خامنئي على نفسه لقبَ ولي أمر المسلمين، خارج حدود إيران ودون موافقة أو استئذان الشعوب الأخرى غير الإيرانية، يعتمد على إيمانه بتمتُّع القائد بشرعيةٍ دينية تنعدم الحاجة معها إلى أيّة شرعيةٍ دستورية». ويؤكِّد ذلك الولاء، هاشم الحيدريّ بقوله إنَّ «الحركة تؤمن بولاية الفقيه العادل الجامع للشرائط، وأنَّ قيادة الأمة لا بُدّ أن تكون بيد الفقيه العادل البصير الجامع لشرائط الاجتهاد والفقه والقيادة».
ثمّ يُصرِّح بالولاء للمرشد الإيراني: «نحن أبناء عهد الله، نحن أبناء الإمام الخامنئي، نحن أبناء خطّ الإمام الخميني، في العراق».
وطبيعيٌ أن يُقلِق مثلُ هذا الخطاب ومثلُ تلك المفردات رجالَ الدين في النجف، لذا حاول الحيدري تحييد النجف عبر ثناءٍ عابر.
2. تحييد النجف
يُدرك الإيرانيون، والحيدري أيضًا، أنَّ النجف لا تُقِرّ هذا النوع من الحركات والفصائل التي تُدين بولائها لغير الدولة الوطنية. لذا حرِصَ الحيدري على تصدير خطابٍ تلطيفيٍ هادئ تجاه حوزة النجف، لكن غايته المجاملة نظريًا، وتجاوُز النجف والمرجعية عمليًا بفرض سياسة الأمر الواقع. فيقول في هذا السياق التلطيفي: «نحن أكثر الناس استعدادًا وطاعةً لسماحة آية الله العظمى السيِّد علي السيستاني، ونحن نفديه بأرواحنا وأنفسنا».
والمفارقة أنَّه يُعلن التزامه بولاية الفقيه بكُلّ حماسة، وفي نفس الوقت يُعلن استعداده لطاعة السيستاني الذي لا يرى ولايةَ الفقيه، ولا يرى شموليةَ الولاية خارجَ حدودها.
والنجف وإن كانت قادرةً في عهد مرجعية السيستاني بما لها من قبولٍ وذيوعٍ وأعلمية، على مواجهة التمدُّدات الإيرانية في النسيج الديني والمذهبي، إلّا أنَّ الخطر يكمُن بعد رحيل السيستاني؛ فالفترة الفاصلة بين رحيل مرجعٍ، وشيوع مرجعيةٍ جديدة هي مساحةُ فراغ تسعى إيران أن تملأها بأذرُعها وأدواتها التي تعملُ عليها من اليوم.
3. دعم الفقراء: ثُنائية الاستكبار والاستضعاف
استعمل هاشم الحيدري في خطاب التأسيس، نفس مفردات الإيرانيين، وركَّز على ثُنائية الاستكبار والاستضعاف، باعتبار حركته داعمةً للفقراء والمستضعفين: «حركةُ عهد الله الإسلامية، حركةٌ من الفقراء إلى الفقراء، همُّها وساحتها وعملها وخدمتها للفقراء والمستضعفين، هو اسمٌ أُخِذ من القرآن الكريم، ليكون القرآن نهجَ الحركة..، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه». والحقيقة أنَّ استعمال تلك المفردات فيه ملمحان:
- أنَّه استعمالٌ توظيفي، بمعنى أنَّ استعمال النُّخب الدينية الإيرانية لها من باب تعزيز الشرعية وتمتين أواصر الحواضن الشعبية، بما يقتضيه ذلك من وجود قضيةٍ للدفاع عنها، وشحذِ الهِمم للتخلُّص من المظلوميات التاريخية والمذهبية؛ وبالتالي تأجيج «الذاكرة الموتورة».
- استلابُ تلك المفردات من قِبل الولائيين، فليس ثمَّة تناقُضٌ في مخيلتهم، بين الواقع والتنظير، بسبب استعمالهم تلك المفردات؛ إذ إنَّ المُستكبِر لديهم هو كُلّ مخالفٍ لسياسة الولي الفقيه، والمُستضعَفون هم أتباعُ الولي الفقيه، حتّى ولو كانوا في سدَّة الحكم، ذلك أنَّ الحضور التاريخي للمظلومية الشيعية حاضرٌ وبقوَّة في السياق الشيعي والإيراني تحديدًا، مع محاولاتٍ جادَّة لتصدير تِلك المظلومية -بغضّ النظر عن صوابها- للغرب، في مقابل تشويهِ الآخر المخالف.
والواقع أنَّ تلك الثُنائية ليست اختراعًا ولائيًا، بل أولَّ من استخدمه إيرانيًا علي شريعتي، ثمَّ اليساريون الإيرانيون، واستعمله مرتضى مطهري كثيرًا، حتّى شاع في الثقافة الدينية الإيرانية، واستلبهُ رجالُ الدين واستعملوه في جُلّ خطاباتهم، في جملةِ ما استلبُوه من مفردات اليسار الإيراني.
والحاصلُ أنَّ مثل تلك المصطلحات تُبقِي النُّخب الدينية والسُلطوية لدى العقل الجمعي للعامَّة، في دائرةِ الدفاع عن بيضةِ المذهب ضدَّ أهل الشر، والاستكبار العالمي؛ بالإضافة إلى أنَّ التضخيم الدائم للخصوم يُوهِم القواعد أنَّ ثمَّة استهدافٌ للمذهب، ولا بديل عن التمترُس خلف السُلطة باعتبارها السُلطة الحامية. أيضًا فإنَّ تلك المصطلحات تُعزِّز فكرة نيابة الولي الفقيه عن المعصوم، ومن ثمَّ فكُلّ معارضٍ له هو من أهل الشرّ والفتنة، والاستكبار، وكُلّ مساندٍ له هو مُستضعَفٌ، وذلك خلطٌ في المفاهيم والدلالات ومجرَّدُ توظيفٍ سياسي لا علاقةَ له بالنحت التاريخي واللغوي، بل والاصطلاحي لتلك المصطلحات.
رابعًا: حركة «عهد الله» والمشاركة السياسية
حرصت حركة «عهد الله» على إعلان عدم مشاركتها السياسية، وقال الحيدري في بيانِ التأسيس: «في المرحلة التالية لن نُشارك في الانتخابات العراقية، نحنُ سنُوجِّه جمهورنا لاختيار المُتقيِّن»؛ وهي أقربُ إلى الرسالة التطمينية إلى سائر الكُتل السياسية، التي لم تختبر أو تعرف كثيرًا عن الكيان الجديد. وبيَّن الحيدري تركيزَ الحركة في الفترة الراهنة على الثقافة والتثقيف: «أولوياتنا: الدين والثقافة والتثقيف، ونشر الإسلام، والخدمة والعمل الإنساني التطوُّعي للفقراء والمحرومين».
لكنّه في نفس الوقت، لم يُغلق الباب أمام مشاركة الحركة سياسيًا في المستقبل، ويبدو أنَّ المشاركةَ هدفٌ من أهدافها الرئيسية، غير أنَّها تبدأ بجسّ نبضِ الشارع أولًّا، وأخذِ فرصةٍ للتغلغُل المجتمعي، وتكوين قواعد شعبية ثانيًا.
ولذا يُمكن القول إنَّ إستراتيجيةَ الحركة تكمُن في تخليق وتمتين حواضن وقواعد شعبية، تكفلُ لها فرصةَ المنافسة مستقبلًا، سيما وأنّ َكتائب «حزب الله» لا تملك جناحًا سياسيًا على غِرار التيّار الصدري، أو بعض الفصائل الأُخرى، وليس لها أعضاءٌ في البرلمان، وربما استشعرت الحاجةَ إلى ذلك بعد الضغوط عليها داخليًا وخارجيًا، إثر استهدافها للمصالح الأمريكية والغربية في العراق، فآثرت تأسيس جناحٍ دينيٍ وسياسي، يُتيح لها البقاء في مجتمعٍ ذا نسيجٍ دينيٍ ومذهبي.
ولو سَلِمت هذه القراءة، فإنَّ تلك الإستراتيجية تعتريها عقباتٌ جمَّة؛ فهاشم الحيدري ليس وجهًا مقبولًا لدى عموم الشيعة، خاصّةً مقلِّدي النجف، وليس متجذِّرًا ولائيًا أيضًا إلّا عند الكتائب، باعتباره عنصرًا منها، إذ عُرِّف قَبل ذلك بأنَّه الممثِّل الثقافي لكتائب حزب الله؛ ما يُعزِّز فكرةَ محاولةِ الكتائب تأسيسَ جناحٍ سياسيٍ وديني، ومن تلك العقبات أيضًا وجود تنافُسٍ بين الفصائل الولائية نفسها على إدارة الشأن العام، على مستوى القيادة ومستوى المنتسبين.
نعم؛ كُلّ تلك الفصائل تابعةٌ للسياسة الإيرانية وللولي الفقيه في طهران، لكن لا يُعقَل أن نتغاضى عن العوارض البشرية التي تعتري تلك الزعامات السياسية والدينية؛ ويبقى التنسيق الإيراني مانعٌ من تضخُّم الخلاف، أو تحوُّل التنافُس في الساحة العراقية إلى اشتباكٍ ومواجهةٍ مباشرةٍ ناعمة أو خشنة.
على أنَّ هذا التنافُس وهذا التعدُّد هو عينُ ما يُريده الإيرانيون، إذ يضمن لهم السيطرةَ الكاملة على تلك الفصائل على المدى البعيد، ويضمن كذلك إبقاءَ أدواتِ الضغط فاعلة، إذا ما تعرَّض فصيلٌ منها لضربةٍ أو اختراق.
خاتمة
يُمكن القول إنَّ كتائب «حزبِ الله» عملت الفترةَ الماضية على خطّين متوازيين؛ الأوّل: تأسيسُ فصائلَ وهمية مسلَّحة تتبنَّى العملياتِ ضدّ المصالحِ الأمريكية والغربية. والثاني: تأسيسُ ذراعٍ دينيٍ وسياسي، يكفلُ لها مُستقبلًا إمكانيةَ المشاركة السياسية، ويُتيحُ لها مساحاتٍ للمناورة السياسية.
لكن في الوقت نفسه، فإنَّ حركةَ «عهد الله» تُعلن دون مواربة أنّها تتبعُ الولي الفقيه في طهران، وأنّها لا ترى نظريةً للحُكم بديلةً عن ولايةِ الفقيه، وتحاولُ تهدئةَ المرجعية العُليا في النجف، وتشتيتَ مخاوفِها إزاءَ ذلك الطرح، بخطابٍ هادئٍ مجامِل على المستوى النظري.
وتنظرُ إيران إلى كثرةِ تلك الحركات والفصائل الولائية بالارتياح، بما يكفلُ لها أدواتِ ضغطٍ على كافَّة المستويات، على صانعِ القرارِ العراقي، وعلى المرجعيةِ الدينيةِ العراقية، ويكبحُ أيَّ محاولاتٍ حقيقية لإدماجِ تلك الفصائل في المؤسَّسات الوطنية العراقية، أو توحيد السلاح تحتَ رايةِ الدولةِ وحدها، على نحوِ ما تُريد المرجعية ومؤسَّسات الدولة العراقية؛ وكذلك تُعَدُّ كثرةُ تلك الحركات تحايُلًا على وضع بعض الفصائل على قوائم الإرهاب الأمريكية، وإيجادِ مساحاتٍ أُخرى لممارسةِ العُنف بأسماءٍ مجهولةٍ ووهمية، دونَ كياناتٍ هرميةٍ واضحة.
أمّا في حالةِ حركةِ «عهد الله»؛ فتأتي بالتأكيد ضمنَ الجهود الإيرانية لتَعدُّد أوجُهها في العراق، لكن هذه المرَّة يبدو أنَّها تستهدفُ النسيجَ الديني والمذهبي بالدرجةِ الأولى، وفي لُبّه المرجعيةَ العُليا؛ وتَعِدُّ عُدَّتها وإستراتيجيتها لمرحلةِ ما بَعد آية الله السيستاني.
أخيراً فإنّ تحوُّلًا خطيرًا يجري في الساحةِ الدينيةِ العراقية، بتمأسُس المتطرِّفين الشيعة الموالين لطهران في الحياةِ السياسيةِ والدينية، على أملِ أن تصبح العراق تابعةً للولي الفقيه بصورةٍ كُلِّيةٍ مُستقبلًا، وهو ما يضعُ مهامًّا ثقيلة على النُّخبةِ المدنيةِ العراقية.