صعود «الحشد الشعبي» بين سيادةِ ومستقبلِ الدولة العراقية

https://rasanah-iiis.org/?p=22915

بواسطةفاروق يوسف

منذ تأسيسه في عام 2014م بفتوى من المرجعِ الديني الأعلى علي السيستاني، بغرضِ التصدي لتوغُّل تنظيم «داعش» في العراق إثر سقوط محافظة نينوى، بدا جليًّا أنَّ «الحشد الشعبي» قد أُسِّس لأغراضٍ طائفيةٍ خالصة. ومع عدم الجزم بالخلفياتِ السياسية التي تقف وراء فتوى السيستاني التي اُعتبرت الأساس الذي انطلقت منه فكرة تجميع الميليشيات الشيعية المُبعثرة في إطار مؤسسةٍ عسكريةٍ واحدة؛ فإنَّ ما صار مُعلنًا في ما بعد هو أنَّ إيران تقف وراء ذلك المشروع. وخلصت تلك النتيجة إلى أنَّ ليس ذلك رغبةً من إيران في تحريرِ الأراضي العراقية التي وقعت في قبضةِ «داعش»، كما أشيع وقتها، أو حماية الأضرحة الشيعية كما وردَ في فتوى السيستاني، بل لإقامةِ مؤسسةٍ عسكريةٍ شبيهة بمؤسسةِ الحرس الثوري الإيراني، تكون فصائلها جاهزةً للدفاعِ عن المصالح الإيرانية في العراق إذا ما تعرَّضت للخطر.

وليس بعيدًا عن ذلك الهدف، التنامي السريع لدورِ فصائل «الحشد الشعبي» وقيامها بوضعِ اليد على مناطق عديدة، كان تنظيم «داعش» قد هجَّر سكانها الذين لم يعُد في إمكانهم العودة إلى أراضيهم بعد أن تم تحريرها وكرَّس لانقساماتٍ سياسيةٍ واجتماعية. لقد تحوَّلت تبعية تلك الأراضي من الدولة العراقية إلى «الحشد الشعبي»، بحيث لم تتمكن الدولة من إعادةِ أصحابها إليها وفشلت الأجهزة الرسمية، العسكرية والأمنية في تخطي الخطوط الحمراء التي رسمها «الحشد الشعبي» ليمنع بموجبها تلك الأجهزة من معرفة ما يجري داخل تلك المناطق التي اُعتبرت ملكًا خالصًا له. كما مثَّلت بؤرة خطرٍ على الدولة العراقية مرسِّخةً للتحيزاتِ الطائفية، فضلًا عن ما رافقَ وجوده من انتهاكاتٍ وصفتها منظماتٍ دولية بالتطهير العِرقي. كان تأمين الطريق الذي يصل بين الحدودِ الإيرانية وسوريا واحدةً من أكبر المهام التي أُنيطت بـ«الحشد الشعبي» ونجح فيها، على الرغم مما تعرَّضت له معسكراته من ضرباتٍ ساحقةٍ لا تزال حتى هذه اللحظة مجهولة المصدر. وليس صدفةً أن تكون كتائب «حزب الله» العراقي هي المقصودة بذلك القصف، ذلك لأنَّها قد وقفت منذ تأسيسها على يد أبي مهدي المهندس على الجبهة التي يتشكَّل عندها الخط الوهمي الذي يفصل بين الولايات المتحدة وإيران، وهو نوعٌ من إشغال العدوِّ عما يجري في الداخل.

ذلك ما كان الحرس الثوري يفكُّر فيه وهو يوزِّع ميليشيات «الحشد الشعبي» بين مهمتين، الأولى عسكرية والثانية سياسية.

على المستوى العسكري انتزع «الحشد الشعبي» المبادرةَ من الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وأصبح بمثابةِ ذراعِ الطائفة الضاربة في العراق. أما على المستوى السياسي فإنَّه قد نجح في الوصولِ إلى مجلس النواب ليحتل ممثلوه مقاعد في السلطة التشريعية.  

 لقد أحكم «الحشد الشعبي» سيطرته على الدولة، وصار في حُكم المؤكَّد أنَّه لم يعد جيشًا مساعدًا للجيشِ الرسمي العراقي فحسب، بل مُهيمِنًا عليه. وبالسؤال الوجودي عن مصيرِ الحكومة، ربما ستتم المبالغة بقدرتها على الإبقاء على جزءٍ من هيبتها، بل في الحقيقة ستكون عاجزةً عن الحركة، وهذا هو ما أثبتته حكومة مصطفى الكاظمي التي لم تستطع حماية السفارات والوجود الدبلوماسي الأجنبي من القصف إلَّا بعد هدنةٍ أعلنتها الميليشيات، كما أنَّها عجزت عن إطلاق سراح الناشطين المعارضين الذين خطفتهم تلك الميليشيات.

وبناءً على كلِّ هذه الفواعل السياسية ونتائجها، فإنَّه حريٌّ بنا معرفة مَن يحكم مَن؟ ففي كل المراحل ومنذ عام 2003م، لم تكن الدولة العراقية واضحةَ المعالم. كانت هناك حكوماتٌ تبدو مظهريًّا كما لو أنَّها محكومة بدستور، غير أنَّها في حقيقتها كانت محكومةً بدوائر وهيئات تابعة للأحزابِ تتخذ من مباني الوزارات مقرَّات لها، بينما تتركز وظيفتها على استحصالِ حصص الأحزاب المالية أولًّا بأول. لم تكن للوزراء سلطة على تلك الممثليات التي لا تكتفي بالاستيلاءِ على المال العام، بل يستثمر أفرادها حالة الخوف منها في فرض التمدُّد داخل الوزارات من خلال موظفين بإمكانهم توسيع ونشر عمليات الفساد التي إن قاومها وزيرٌ سيتمُّ إجباره على الاستقالة. كما كانت تتمُّ محاباة هؤلاء الأفراد بلا حدودٍ في الحكومة والوظائف وأعمال التجارة، وبإمكانهم ابتزاز السلطة ببرلمانها وجيشها وشرطتها دون رادع. وهكذا فإنَّ حكومةً من الملائكة يمكن أن تصرعها دولة من الشياطين، يمكن أن يكون ذلك هو الوصف المناسب لما يجري في العراق.

كان ذلك وضعًا مناسبًا أتاح لـ«الحشد الشعبي» فرصة الاستيلاء على عددٍ من الوزارات التي قرَّرت الأحزاب أن تتقاسم أرباحها مع الحشد. وكان ذلك قرارًا إيرانيًّا، إذ أنَّ طهران لم تعد قادرةً بسبب العقوبات الأمريكية على تمويلِ ميليشياتها الصغيرة التي تم تلفيقها على عجلٍ ودُمجت بـ«الحشد الشعبي». ومن أهم القوات العسكرية في «الحشد الشعبي» التي دربَّتها إيران ومولتها هي «منظمة بدر»، و«عصائب أهل الحق»، و«سرايا الخرساني»، و«حركة حزب الله النجباء»، و«سرايا حزب الله». وكانت نفقات هذه الميليشيات أكبر من إمكانيةِ الحشد الذي تم الاعتراف به من خلال قانونٍ رسمي، ولمواجهة تلك النفقات فرضت الميليشيات ضرائب على الأسواق، كما أنَّها نشرت نقاط تفتيشٍ على الطرق التي تفصل بين المحافظات لتفرض أتاوات على البضائع الزراعية.

لم تعُد تلك الميليشيات منشغلةً بالهمِّ الطائفي بعد أن صار عملها منحصرًا في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، ولكن انحصر همَّها في تحصيل إيرادها اليومي من خلال عملياتِ سلبٍ واضحة. لقد تحول جزءٌ من «الحشد الشعبي» إلى تنظيمٍ لقطاع الطرق، وهو ما لا تقوى الحكومة على مجابهته، ذلك لأنَّها لا تجرؤ على القبضِ على أي شخصٍ يحمل هوية «الحشد الشعبي»، بل تقف عاجزةً عن المساسِ بأيّ شأنٍ من شؤونه. غير أنَّ أخطر ما فعلته تلك الميليشيات قد وقع حين قامت بابتزازِ الشركات الأجنبية العاملة في العراق من خلال فرض أتاوات عليها، وهو ما حدا بعددٍ منها إلى إنهاءِ عملها بخسائرَ فادحة تحمَّلت الحكومة العراقية جزءًا منها بتستُّرها على الحوادث التي تعرَّضت لها تلك الشركات بغطاءِ العشائر الغاضبة، إذ صار صعبًا على الحكومة العثور على الجناة.

 وإذا ما استعرضنا أسماء الميليشيات الطائفية الصغيرة التي تم إلحاقها بـ«الحشد الشعبي» بعد سنواتٍ من تأسيسه، يتضح لنا أنَّ تلك المؤسسة العسكرية ليست بالجسدِ المحدود الذي يمكن تبين المجال الجغرافي الذي يحتله. بل هي أشبه باخطبوطٍ تتكاثر أذرعه كل حينٍ حتى ليبدو الحشد اليوم مقارنةً بتاريخ تأسيسه كما لو أنَّه صار حشودًا.   

  والمثير للدهشة أنَّه في كل بلدةٍ صغيرةٍ هناك مقرَّات لميليشياتٍ كلها تزعم أنَّها جزءٌ من «الحشد الشعبي»، وفي المقابل فإنَّ زعامة الحشد المركزية لا تؤكِّد ولا تنفي ذلك حتى صار في إمكان المرء أن يتخيل أنَّ كل شخصٍ في العراق إذا ما تمكن من الحصول بطريقةٍ ما على السلاح سيكون في إمكانه أن يؤلِّف ميليشيا يلحقها بالحشد دون أن يتمكَّن أحد من التحقُّق من مصداقيته، أو أن ينسب له ما يتسبَّب فيه من أحداث.

وإذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال فإنَّ الجزء الجنوبي من العراق سيتحول إلى ثكنةٍ عسكريةٍ ليست تابعةً للدولة التي لم يعد منتسبو أجهزتها الأمنية قادرين على أداء مهماهم بطريقةٍ تضمن حماية المواطنين وممتلكاتهم.

 وتأسيسًا على ما تقدَّم فيبدو أنَّ هذا الوضع ملائمٌ للحشد كوجودٍ رسمي على الساحة السياسية العراقية. فمن خلال هذا الوجود يستمرُّ في الضغط على الحكومة لعرقلة إجراءات الإصلاح، وهو ما يحقِّق منفعةً كبيرة للأحزابِ الأيديولوجية التي يرتبط بعضها بشكلٍ عضويٍّ مع الحشد. كما أنَّ من شأن هذا الوجود أن يجعل الحشد محورًا أساسيًّا في صراعِ القوى السياسية. وعلى الرغم من وصف وجود ميليشياتٍ مرتبطة بـ«الحشد الشعبي» تمارس تفلتاتٍ تستلزم تدخُّل الحكومة تدخلًا حازمًا وحاسمًا؛ فإنَّها تُبقي على هذه الخطوط مفتوحةً ومستمرة تمهيدًا لإجراء الانتخابات. ويراهن كثيرٌ من العراقيين على أنَّ هذا التكتيك السياسي لن يكون في صالحِ الأحزاب الكبيرة إذ إنَّه سيمهِّد لمواجهةٍ مباشرة مع «الحشد الشعبي» ما يعني أنَّ بمقدوره الانقلاب على الدولة في حال فقدان الأحزاب الكبيرة الأغلبية في مجلس النواب.

 وطِبقًا لمحاولة الاستقراء هذه، فإنَّ ما ستُفضي إليه الأمور في بلدٍ أنهكته الانقسامات الطائفية، هو أنَّ هذا الانقلاب المتوقَّع يبدو أنَّه قد بدأ فعليًّا في وقتٍ مبكرٍ من خلالِ التمسُّكِ بالأرض والسيطرةِ على المنافذِ الحدودية وفرض الهيمنة الميليشياوية داخل مؤسساتِ الدولة، وهو ما قد يكون عصيًّا على التغيير حتى في حالةِ انقلابِ المعادلات السياسية بتأثيرٍ من صناديقِ الاقتراع. وتزدادُ صعوبة ذلك انطلاقًا من محاولة تجسيد المفهوم النظري للدولةِ الحديثة التي أثَّر عليها ورسم معالمها صعود «الحشد الشعبي» بمكوناته المختلفة وتغلغله في جسدِ الدولة العراقية. 


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

فاروق يوسف
فاروق يوسف
كاتب وباحث عراقي