يمثلُ مقتل عرّاب البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده الشهر الماضي نقطةَ تحولٍ للبلاد، ويكشف عن حقيقةٍ قاسية، ألا وهي أن أعداء إيران تمكّنوا من اختراق أجهزة استخباراتها وأمنها. وبسبب حيرة السلطات الإيرانية في كيفية التصرف فقد عرَضت نسخًا مختلفة عن طريقة قتله بينما قدمت وعودًا غامضة بالانتقام؛ وعلى الرغم من الضغوط الداخلية على الحكومة الإيرانية لإنهاء «صبرها الإستراتيجي» المزعوم، فمن غير المرجح أن ترُدّ بقوةٍ نظرًا لاقتراب تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن رئيسًا الشهر المقبل. قتل فخري زاده، الذي كان رئيسًا لــــ «منظمة البحث والابتكار بوزارة الدفاع الإيرانية»، في وضح النهار بالقرب من العاصمة الإيرانية طهران على الرغم من محاولات إخفاء أماكن تواجده، وألقت إيران باللوم كالمعتاد على إسرائيل، ولكن في الوقت الذي ملأ فيه معارضو المفاوضات النووية الإيرانية مع الغرب شوارع إيران مطالبين بالحرب ضدَّ الولايات المتحدة، التي يلومونها على منح إسرائيل الضوء الأخضر لقتل فخري زاده، فإن القيادة الإيرانية بدت أكثر تردُّدًا وحذرًا.
وتعهَّد قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي والمتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي علنًا بالانتقام لقتل زاده؛ إلا أن الرئيس الإيراني حسن روحاني فضّل تجنب التصعيد الذي قد يؤدي إلى صراعٍ مباشر؛ وعوضًا عن ذلك، يحرص روحاني على استئناف المحادثات النووية مع إدارة بايدن المقبلة، لإنهاء العقوبات الاقتصادية ضد بلاده، والتي شلّت اقتصادها، وقيدت خططها التوسعية، وفرضت ضغوطًا على خططها الاقتصادية الداخلية للتعامل مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة وتداعيات جائحة كورونا.
ولم يتحدث وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي عن تفاصيل عملية قتل زاده، لكن وسائل إعلامٍ إيرانية علمت بوقوع اشتباكٍ مسلح أدّى إلى مقتل فخري زاده؛ وخلافًا لهذه الرواية، قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني: إن هناك أجهزةً إلكترونية استُخدمت في الاغتيال دون وجود مهاجمين أفراد على الأرض؛ وعلاوةً على ذلك، ولإضفاء مزيدٍ من الغموض على تفاصيل قتل زاده، قال عضو البرلمان الإيراني فريدون عباسي دواني: إن «الاغتيال نُفذ على يد قناصة، وأن سيارة (نيسان) المجاورة تم تفجيرها في محاولة لقتل 11 من حراس فخري زاده الشخصيين»، بينما قال القائد السابق للحرس الثوري الإيراني محسن رضائي: إن أسلحة الناتو المتقدمة اُستخدمت في قتل زاده؛ وأخيرًا، قال مهدي وحامد فخري زاده :إن «أبناء العالم المتوفي، أفادو أنه كان مع زوجته وقت قتله، لكن رغم جهود والدتهما لحماية زوجها، إلا أن الرصاص تجاوزها ليصيب فخري زاده». ليس من الواضح أيٌّ من هذه الروايات هي الرواية الصحيحة، ولكن الواضح أنه ومن خلال الروايات المتناقضة المتعدّدة، تحاول الحكومة الإيرانية إخفاء الحقيقة المُرة حول فشل أجهزة المخابرات والأمن الإيرانية في حماية فخري زاده.
وبعد أسبوعين من اغتيال فخري زاده، واصلت الحكومة الإيرانية إصدار تصريحاتٍ غامضة حول الحادث، وبحسب أبناء زاده فإن عدة منظمات تحقّق في الاغتيال؛ ووفقًا للتقارير فإن هذه المؤسسات على خلاف مع بعضها البعض، وألقت شخصياتٌ مقربة من الحرس الثوري الإيراني، بما في ذلك عضو البرلمان جواد كريمي قدوسي، اللومَ على حكومة روحاني لفشلها في حماية العالِم النووي، ولتبرئتها من تهمة الفشل، تدّعي الحكومة أنَّ أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية كانت على علمٍ بهجومٍ وشيك؛ وقال الحرس الثوري الإيراني: إن «إيران نجحت في إبقاء فخري زاده على قيد الحياة رغم محاولات قتله على مدار العقدين الماضيين، مما يُشير إلى نجاح أجهزة المخابرات والأمن الإيرانية في حماية الأفراد ذوي القيمة العالية للبلاد».
وتتَّسم النقاشات في داخل إيران حول الخيارات المستقبلية للبلاد في أعقاب القتل بالغموض، فيما وجَّه المرشد الإيراني علي خامنئي رسالةً خلال جنازة فخري زاده، دعا فيها إلى معاقبة الجُناة ومواصلة العمل القيم الذي اضطلع به المذكور، وقد تضاعفت ميزانية منظمة البحث والابتكار بوزارة الدفاع الإيرانية لهذا العام تبعًا لذلك. كما تعهّد رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي بالمساعدة في كشف النقاب عن شبكة المتسللين المتورطة في اغتيال فخري زاده. أما القائد السابق في الحرس الثوري الإيراني حسين علي فقال: إن «عملية قتل زاده كشفت ضعف أمن إيران وقدرة إسرائيل على التسلل إلى عمق البلاد؛ وتوقع وقوع المزيد من عمليات القتل، ودعا إلى اجتثاث شبكة المخابرات التي تقودها إسرائيل في إيران»، وقال مستشار رئيس البرلمان الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: إنه تم التعرف على الجناة وسيتم الكشف عنهم قريبًا، وأكد أنه تم بالفعل اعتقال بعض الجناة، رافضًا الكشف عن مزيدٍ من المعلومات حيال عملية القتل، مشددًا على ضرورة الحفاظ على المعلومات الاستخباراتية الهامة في الوقت الحالي. لكنه أصرَّ على أن إسرائيل ما كانت لتنفذ الهجوم دون مساعدةِ ومعرفةِ الولايات المتحدة.
هذا وأقرَّ البرلمان الإيراني مشروعَ قانونٍ ذو مستويين، طُرح منذ أكثر من أربعة أشهر، ويهدف إلى الحدِّ من الحوار مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي للبلاد. على الرغم من إصرار حكومة روحاني على أن مشروع القانون لن يُعيق المفاوضات المستقبلية، إلا أن البرلمان سارع بالموافقة على القانون بعد الاغتيال.
والسؤال الأكبر الذي يُزعج المسؤولين في إيران هذه الأيام هو لماذا يتم اغتيال الشخصيات الرئيسية في البلاد؟ ففي أوائل يناير 2020م، قتلت الولايات المتحدة قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في العراق، الذي كان العقل المدبر للأنشطة العسكرية الإيرانية خارج الحدود الإقليميةـ؛ ويقول خبراء بأن الدافع لقتل فخري زاده كان اختبار ما إذا كانت إيران ستستمر في بناء برنامجٍ نوويٍ قوي أم لا، وبحسب رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، فإن قتل زاده لن يؤدي إلا لتسريع عمل البلاد لتحقيق طموح فخري زاده لبناء برنامجٍ نوويٍ قوي.
وبدأت أصواتٌ قليلة في إيران بمطالبة قادة البلاد بالردِّ على قتل زاده لإنهاء سياسة الضغوط القصوى المفروضة على إيران عبر الاغتيالات؛ ويرون أنه من المهم الردُّ ردًا حاسمًا وسريعًا على مقتل فخري زاده.
وإذا ما اتخذت إيران هذه الخطوة، أي الثأر من مقتل عالمها فخري زاده فهذا يشيرُ إلى أنها لن تضطرَّ إلى تعديل مواقفها، وأن مثل هذه الأعمال ستُقابل دائمًا بردٍ حازمٍ من جانبها، كما يشيرُ أيضًا إلى تماسُك أجهزتها الأمنية المخابراتية؛ وفي خطابٍ ألقاه قَبل وفاته، أصرَّ فخري زاده على أنّ إيران يجب ألّا تقبل أي تراجع بشأن برنامجها النووي، ويشارك بعض المراقبين في إيران هذا الرأي، قائلين إن ضبط النفس هو بمثابة إعطاء الضوء الأخضر للعدو لمواصلة أعمالهم التخريبية ضدَّ الحكومة الإيرانية وقتل قادتها.
وقد تُقرّر إيران عدم التصعيد والتحلي بالصبر الإستراتيجي بإقناع نفسها بأن قتل فخري زاده يُشير إلى أنّ أعداء البلاد غير قادرين على مواجهتها مباشرة؛ وتحثُّ كلٌّ من جيران إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إيرانَ على تجنُّب تصعيد التوترات عقِب قتل زاده.
لكن سلامي يقول: إن «على إيران تعزيز قدرتها العلمية حتى لا يعيقها أعداؤها»؛ ويُصرُّ سلامي على أنَّ «النظام الصهيوني» سيدفعُ ثمنًا باهظًا لقتل فخري زاده في الوقت المناسب، دونَ أنْ يُحدّد متى وكيف.