بايدن وخياراتُ التعاملِ مع إيران

https://rasanah-iiis.org/?p=23250

تمضي التطورات الخاصة بشأنِ علاقة الولايات المتحدة بإيران مع التغييراتِ التي طرأت بعد انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، بوتيرةٍ متسارعة. كان آخر التعليقات تلك التي جاءت على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي في 16 ديسمبر 2020م، والتي قال فيها: «بالطبع، أنا لا أقول إنَّه لا يجدر بنا العمل من أجل رفع العقوبات، وفي حال كان في إمكاننا ذلك، لا يجب أن نؤخِّره ولو لساعةٍ واحدة».

يبدو من موقف خامنئي أنَّ هناك مرونةً متحفظةً فيما يخصُّ مسألة المفاوضات، ويتناسب هذا مع مبدأه حول ما أسماه في عدة مرات «المرونة البطولية»، وهي تعني إظهار قدرٍ من التفاهم دون نسيان أو إنهاء الخصومة. هذا الاستعداد المتحفِّظ للتفاوض فتح معه خامنئي الطريق أمام السلطة للتجاوب مع الأفكار المطروحة على الساحة حاليًّا ودون أن يضع شروطًا أو قيودًا.

في المقابل، صرَّح المبعوث الأمريكي الخاص لإيران وفنزويلا إليوت أبرامز في 14 ديسمبر 2020م بأنَّه ومسؤولون آخرون في إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، قد بدأوا محادثاتٍ مع فريق بايدن بشأنِ إيران والاتفاق النووي، وذلك في محاولةٍ لإقناع إدارته بأنَّ الأوضاع قد تغيرت، وأنَّ ما كان مناسبًا في الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015م لا يعمل في الوضع الحالي.

وأضاف أبرامز أنَّ الإجراءات المُتخذة ضد إيران خلال رئاسة دونالد ترامب ليست قابلةً للتراجع بالكامل، كتلك المفروضة في مجال انتهاك حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.  

وقبل ذلك، أبدت الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا رغبتها في وجود اتفاقٍ نوويٍّ مع إضافاتٍ تتعلَّق ببرنامج الصواريخ الباليستية ودور إيران الإقليمي، وبالتزامن مع ذلك أعرب مجلس التعاون لدول الخليج العربية أنَّ أي اتفاقٍ نوويٍّ يجب أن يأخذ مصالح دول المنطقة بعين الاعتبار.

لا شكَّ أنَّ نجاح بايدن قد أسهم في هذا الزخم المتعلق بملف إيران، إذ اندفعت الأطراف المعنية بناءً على مواقفه ومواقف أعضاء إدارته الانتقالية لوضع تصوراتها ومطالبها، في ذات الوقت الذي يحاول الطرفان الأساسيان في الأزمة بلورة تصورٍ مناسبٍ للدخول في المرحلة الجديدة من المفاوضات المتوقعة، مع تعزيز كل طرفٍ لأوراقه لتحقيق أقصى مكاسب ممكنة. وعلى ضوء هذه المواقف وتصورات الأطراف والتباينات الواضحة، يُثار التساؤل حول أي الخيارات يمكن أن تتجه إليه إدارة بايدن في التعامل مع ملف إيران، وما هي الفرص والتحديات التي تواجه كل خيار، وأي الخيارات التي يمكن التنبؤ بها سيكون أكثر واقعية؟.

يحاول هذا التقرير الاستشرافي وضع أهم الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن فيما يخصُّ العلاقة مع إيران، وذلك على ضوء عددٍ من المتغيرات الثانوية المرتبطة بهذا الملف، وذلك على النحو الآتي:

أولًا: مواقف الأطراف المتصلة بملف إيران

1. موقف بايدن

 وعد بايدن باتباع سبلٍ أكثر ذكاءً تجاه التعامل مع طهران، كما وعد بالالتزام بمنع إيران من امتلاك سلاحٍ نووي، وإعادة الاعتبار للدبلوماسية وتعديل الاتفاق النووي بمشاركة الحلفاء على أن يشمل التفاوض العديد من القضايا مثل الملف الصاروخي والقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان. فضلًا عن وقف أنشطة إيران التي تزعزع الاستقرار وتهدِّد حلفاء الولايات المتحدة، مع التعهد بالدفاعِ عن مصالح بلاده في حالة تصعيد إيران.

 ويضع بايدن شروطًا للعودة إلى الاتفاق النووي أهمها: تراجع إيران على الأقل عن الخطوات التي اتخذتها بشأن رفع معدلات تخصيب اليورانيوم، والحدِّ من مدى صواريخها، وعدم التواجد في المنطقة، ويقول «إذا تم قبول هذه الشروط، فسنرفع العقوبات». ومع ذلك، تشير مواقف مستشاري بايدن مثل أنطوني بلينكن وجاك ساليفان إلى أنَّ سياسات بايدن لن تكون بعيدةً عن سياسة ترامب بل ستستفيد منها.

2. موقف إيران

 نظرًا لطبيعة النظام الإيراني التي تخلق مستوياتٍ متعدِّدةٍ للسلطة، فإنَّه لا يمكن الحديث عن موقفٍ واحدٍ من المفاوضات لكن ربما يمكن الحديث عن مواقف مختلفة ومتأرجحة في الوقت نفسه، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ مسألة التفاوض تدخل كقضيةٍ انتخابيةٍ بين الأطراف المتنافسة، التي يأمل كلٌّ منها في أن يستفيد من هذا الملف لتحقيق مكاسب مهمة في الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو 2021م.

  هناك موقف الرئيس روحاني الذي طالما كيلت له الاتهامات وتم الهجوم على شخصه بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، والتأثير على شعبية تياره بصورةٍ كبيرة. وبالإضافة إلى تحميله مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية، فهو يأمل في اتفاقٍ سريعٍ قبل أن تنتهي ولايته، ليعالج من خلاله الأزمة الراهنة التي تمر بها إدارته، فضلًا عن دعم حظوظ تياره في الانتخابات المقبلة، لهذا اتهم روحاني أطرافًا في الداخل بالسعي إلى تأخير إنهاء العقوبات وإبقاء الوضع الحالي لفترةٍ أطول، رغم الصعوبات التي تعاني منها البلاد.

 أما وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فمن منطلقٍ دبلوماسيٍّ يرفع سقف مطالبه بوضع شروطٍ أساسيةٍ للمفاوضات أهمها، رفع العقوبات وأن تكون المفاوضات في إطارٍ جماعي، مع دفع تعويضاتٍ أمريكيةٍ لإيران، وكذلك رفض المفاوضات بشأن منظومة إيران الصاروخية، وهو ما أثار انتقاداتٍ في الداخل الإيراني واعتُبر طرحًا غير واقعي.

 بين موقف روحاني المرن وموقف ظريف المتشدد؛ عبَّرت التصريحات الأخيرة للمرشد عن طبيعة دوره المهيمن والقيِّم على النظام. وعكست موقفًا وسطًا يوازن فيه بين ضرورة الحفاظ على النظام وبين الحفاظ على الثوابت الأيديولوجية التي يتحرك منها. ومن ثَمَّ فإنَّه يستخدم العبارات التضليلية من قبيل «المرونة البطولية»، مع رفع شعار «الكرامة الوطنية»، وهي مسألةٌ مفهومةٌ في ظل النظام الإيراني منذ الثورة، إذ يضع تبريراتٍ لعمليةٍ تفاوضيةٍ مُحتملة قد يُعطي ضوءها الأخضر لروحاني أو للرئيس الذي يليه.

3. موقف الأطراف الأوروبية

بدأت الترويكا الأوروبية فتح نقاشٍ مكثفٍ حول ملف إيران، إذ اعتبرت فرنسا وبريطانيا وألمانيا، في 07 ديسمبر 2020م أنَّ خطة التصعيد النووي التي تبناها البرلمان الإيراني مقلقةٌ للغاية. وقد سبق هذا الإعلان تصريحٌ لافتٌ يحمل دلالاتٍ مهمةٍ، إذ أشار وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، في مقابلةٍ مع مجلة «دير شبيغل» الأسبوعية في 05 ديسمبر 2020م إلى أنَّ ثمة موقفٍ ألماني مشترك مع كلٍّ من بريطانيا وفرنسا من ملف إيران مفاده «أنَّ العودة إلى الاتفاق النووي الحالي، مع إيران لن يكفي»، و«ينبغي أن يكون ثمة نوعٍ من اتفاقٍ نوويٍّ مع إضافات»، معتبرًا ذلك مصلحةً أوروبية.

وأشار ماس إلى أنَّ هذه الإضافات تشمل برنامج الصواريخ الباليستية، ودور إيران الإقليمي. يكتسب هذا التصريح أهميته؛ لأنَّه وثيق الصلة بالمقاربة المحتملة للتعاطي الدولي والإقليمي مع ملف إيران.

على هذا الأساس، أعادت الأطراف الأوروبية تشكيل موقفها آخذةً في الاعتبار جملةً من التطورات المهمة منذ توقيع الاتفاق النووي، وهي نهاية حقبة ترامب وقدوم رئيسٍ جديدٍ لديه الرغبة في ترميم العلاقة مع الأوروبيين، وتنسيق العلاقات لاستعادةِ التأثير الغربي على المستوى الدولي. هذا فضلًا عن وجود فرصةٍ ممثلةٍ في الأوضاع الصعبة التي تعيشها إيران بعد العقوبات الأمريكية التي فرضها الرئيس ترامب، والامتثال الذي تمكنت إدارته من فرضه بشأنِ الالتزام بالعقوبات على إيران لا سيما العقوبات النفطية والمالية، والتي أدت إلى انهيار الوضع الاقتصادي وتراجع شعبية النظام. ونظرت الأطراف الأوروبية كذلك إلى حقيقة وجود خللٍ في الاتفاق النووي نفسه بما يجعل البرنامج النووي لإيران مع الوقت مصدر تهديدٍ وخللٍ في منظومة العمل الدولي المرتبطة بالحدِّ من انتشار الأسلحة النووية، فضلًا عن فشل الرهان على تحقيق انفتاحٍ مع إيران بما قد يغيّر من سلوكها وطبيعة عدائها الأيديولوجي مع الغرب.

4. موقف دول الخليج

 ترغب دول الخليج في أن تتضمن أي مفاوضاتٍ مع إيران بشأن برنامجها النووي، مفاوضاتٍ جديةٍ وناجزةٍ حول سلوكها الإقليمي وتهديداتها ودورها الداعم للفوضى والإرهاب في المنطقة، فضلًا عن أهمية التعاطي الدولي مع ملف الصواريخ الباليستية، وهنا تشارك دول الخليج الأطراف الأوروبية نفسها. ويعمل الطرفان على إقناع الولايات المتحدة بعدم حسم مسألة الملف النووي دون الأخذ بالاعتبار هاتين القضيتين المركزيتين، وعدم تكرار الخطأ السابق بتأجيل المفاوضات بشأن هذين الملفين.

5. موقف روسيا والصين

 تدعم روسيا والصين مسار التفاهم من خلال اللجنة المُشتركة للاتفاق النووي، ولا ترغب في أي مفاوضاتٍ أحاديةِ الجانب بين الولايات المتحدة وإيران، وهما أقرب لمواقف إيران فيما يتعلَّق بالفصل بين الاتفاق النووي والقضايا الخلافية الأخرى، وقد كان لهما دورٌ بارزٌ فيما يتعلق بدعم إيران دبلوماسيًّا وربما اقتصاديًّا في ظل حملة الضغوط القصوى التي شنَّها ترامب ضد طهران.

ثانيًّا: السيناريوهات المحتملة أمام بايدن

 مع استبعاد سيناريو «العودة مقابل العودة»، أي عودة الولايات المتحدة للاتفاقِ وعودة إيران إلى التزاماتها، يبقى هناك سيناريوهان من المحتمل أن تتجه إدارة بايدن إلى أحدهما، وهما:

1. السعيُّ للوصول إلى اتفاقٍ جديدٍ وشاملٍ من خلال البناء على إرث ترامب

 يعني هذا الخيار أنَّ إدارة بايدن سترى أنَّ معالجة التهديدات والمخاطر التي تمثلها إيران، لن تكون إلَّا من خلال فرض مزيدٍ من الضغوط والعقوبات، ومزيدٍ من البناء على المسار الذي تركه ترامب، للوصول إلى صيغة تفاهمٍ شاملةٍ تحدُّ من كافة المخاطر التي تمثلها إيران، أي الحفاظ على مسار ترامب والسعي لتوقيع اتفاقٍ جديد.

 يرجِّحُ هذا الخيار فشل التقدير السابق للديمقراطيين بأنَّ الانفتاح على إيران سوف يُسهم في ضبط سلوكها والحدِّ من تهديداتها، بل على العكس ثبت أنَّها قد استغلت الاتفاق النووي، وعظَّمت من نفوذها الإقليمي وفرضت على الوجود الأمريكي في المنطقة تحدياتٍ رئيسة. كذلك فإنَّ إستراتيجية الضغوط التي اتبعتها إدارة ترامب تركت النظام الإيراني في وضعٍ لا يُحسد عليه، وضعَّفت معها خياراته وقدرته على المناورة، بما يجعل الوصول لاتفاقٍ جديدٍ مسألةً ممكن حدوثها، فمستشاري بايدن يرون أنَّ ترامب ترك إرثًا يمكن الاستفادة منه، لا سيما مع إمكانية انضمام الدول الأوروبية إلى حملة الضغط الأمريكية الجديدة بعد رحيل ترامب. وفي حال هدأت التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين تحت إدارة بايدن، ستتعزّز قدرة الولايات المتحدة على ممارسة مزيدٍ من الضغط على إيران، هذا فضلًا عن أنَّ هذا المسار ستدعمه القوى الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة. كذلك قد يدفع بهذا الخيار عدم مرونة الجانب الإيراني في التعاطي مع مبادرات إدارة بايدن، والإصرار على عدم مناقشة مسألة البرنامج الصاروخي بوصفها مسألةً سياديةً. فضلًا عن عدم الاستعداد للتراجع عن الدور الإقليمي المهدِّد للأمن والاستقرار والاستمرار في إستراتيجية المواجهة والتحايل على العقوبات وكسب الوقت.

 ويبقى السعي لتحقيق اتفاقٍ جديدٍ مسألةً تواجه تحدياتٍ وتعقيداتٍ بالنظر إلى أنَّ إيران بالفعل واجهت حملةَ ضغطٍ قصوى في ظل إدارة ترامب، ومع ذلك لم تقبل بتوقيع اتفاقٍ جديدٍ، وهو أمرٌ محتملٌ لو سارت إدارة بايدن على نفس النهج. ليس هذا وحسب بل إنَّ إصرار إيران على المواجهة سيؤدى إلى تعقيد الموقف بشأن الملف النووي، الذي باتت تستغله إيران كورقة ضغطٍ لتضييق الخيارات أمام إدارة بايدن. وبما أنَّ التقدير الأمريكي بأنَّ الوقت فيما يخصُّ البرنامج النووي في صالح إيران، وفي ظلِّ عدم احتمال اللجوء لاستخدام القوة من جانب إدارة بايدن لفرض إرادتها كاملةً على إيران؛ فإنَّ السعي لتوقيع اتفاقٍ جديدٍ قد تكون مسألةً معقدةً وصعبة.

 من ضمن التحديات أيضًا أنَّ إيران لديها تصورها لمسار التسوية، فعلى الرغم من أنَّ هناك تيارٌ داخل إيران يمثله الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف بإمكانية التفاهم والتجاوب، وفقًا لمبدأ تحقيق مكاسب متبادلة بمعنى إمكانية إدخال تعديلاتٍ على الاتفاق النووي، لكن التيار المتشدِّد بقيادة المرشد والحرس الثوري والذين بيدهم دفة الأمور لديهم تحفظات على أي عودةٍ أمريكيةٍ مشروطةٍ للاتفاق النووي. ويرون أنَّ العودة للاتفاقِ يجب أن تكون تلقائيةً ودون شروطٍ أو تعديلاتٍ، وهذا في الواقع أمرٌ يجعل هناك فجوةً حقيقيةً بين الجانبين الأمريكي والإيراني، فضلًا عن ما قد تواجهه الولايات المتحدة من تحدٍ دوليٍّ في هذا السياق، إذ لدى بعض القوى الدولية كالصين وروسيا رغبة في الحدِّ من نهج الأحادية الأمريكية في هذا الملف، والذي قد ينسحب على قضايا دولية أخرى لا سيما في ظل توجهات بايدن لاستعادة مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي.

كذلك فإنَّ فرض مزيدٍ من الضغط على إيران للحصول على صفقةٍ شاملةٍ قد يدفعها نحو التشدُّد والعودة لسياسة المواجهة والتصعيد المحسوب على كافةِ المستويات، وربما خبرة ما يزيد عن أربعين عامًا أظهرت أنَّ النظام لديه استعدادٌ لتحمل أقصى الضغوط. وأنَّ سياسة الضغط لم تُترجم إلى نتائجَ ملموسة مع هذا النظام بل على العكس تزايدت أنشطته العدائية. وأخيرًا إذا ما كان هناك تفكيرٌ في الوصول إلى حلٍّ شاملٍ، فلا بد من عدم استبعاد قضية تغيير النظام بدلًا عن الضغط، وهو أمرٌ ليس في حسبان أيٍّ من القوى التي تواجه طهران دوليًّا أو إقليميًّا.

2. الدفع بعمليةٍ دبلوماسيةٍ متعدِّدة المسارات والأطراف

 ويعني ذلك الوصول إلى نقطةٍ وسطى يقدم فيها الجانبان تنازلاتٍ مُتبادلة من أجل تسوية الخلافات، خصوصًا أنَّ مبادرة بايدن ستركِّز بصورةٍ أساسيةٍ على معالجةٍ عاجلةٍ لقضية الاتفاق النووي، باعتبارها مسألةً ملحةً في ظل تزايد تجاوزات إيران النووية، مع عدم تجاهل ملفي الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي. ربما يتمُّ ذلك من خلال الاتفاق على مسارٍ تفاوضيٍّ شامل، يتم فيه التفاوض حول الاتفاق النووي كاتفاقٍ فنيٍّ يخصُّ معالجة القضية النووية بين إيران والولايات المتحدة، جنبًا إلى جنبٍ مع التفاوض حول برنامج الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي لإيران، مع دخول أطراف جديدة إقليمية ودولية إلى هذه المسارات. وربما يتوصل بايدن إلى اتفاقٍ جديدٍ مع إيران يفرض مزيدًا من القيود النووية، مقابل التخلي جزئيًّا عن المطالب التي تخصُّ البرنامج الصاروخي والسلوك الإقليمي. على أي حال، هذا الخيار تلعب فيه الدبلوماسية دورًا مهمًّا ويحتاج إلى بناء الثقة وإدراك أهمية فتح عمليةٍ تفاوضيةٍ متعددة الأطراف والمسارات.

يرجِّح هذا الخيار أنَّ الطرفين باتا يدركان صعوبة العودة إلى وضع ما قبل 05 مايو 2018م، كذلك يدركان أنَّ تحقيق مكاسب كاملة مسألةٌ بعيدة المنال. فضلًا عن أنَّ هذه الصيغة متعدِّدة المسارات والأطراف سوف تلقى قبولًا ورضىً دوليًّا وإقليميًّا باعتبارها تعالج كافة التهديدات التي تمثلها إيران، على أنَّها صيغة بها قدر من المرونة والمناورة بما قد يحفز الأطراف على الانخراط والتعاطي معها بإيجابية. هذا فضلًا عن أنَّ حملة الضغوط القصوى التي انتهجتها إدارة ترامب مثَّلت ورقة ضغطٍ مهمةٍ على إيران بيد بايدن، فأنطوني بلينكن وزير الخارجية في الإدارة الانتقالية لبايدن يقول إنَّ ترامب عمل جيدًا، وترك لنا استثمارًا جيدًا. كما أنَّ الأوضاع في إيران تتدهور بشدة وربما لا يتحمل النظام ويصمد أمام الضغوط الأمريكية لفترةٍ أطول، وأنَّه بحاجةٍ للتجاوب مع التعاطي الأمريكي والدخول في مفاوضاتٍ جديدةٍ لبلورة مخرجٍ لأزمته والخروج بمظهر المنتصر داخليًّا وخارجيًّا حتى لو تم تقديم بعض التنازلات، حيث تبقى أولوية الحفاظ على النظام هي الأهم. كذلك سيكون لبايدن تأثيرٌ أكبر على مواقف شركاء الاتفاق النووي من تأثير ترامب، ويمكنه بلورة ضغوطٍ دوليةٍ أكبر على إيران لا سيما الأطراف الأوروبية التي توافق الولايات المتحدة وجهة نظرها حول قضيتي الصواريخ الباليستية الإيرانية والسلوك الإقليمي مما يجعل إيران في مواجهة جبهةٍ موحدة.

ولا شكَّ أنَّ التغييرات التي تشهدها المنطقة لا سيما ما يتعلق بـ «اتفاق إبراهام» والتغييرات المُتوقعة في السياساتِ الإقليمية ربما تدفع إيران نحو تفضيل رسم خطوطٍ واضحةٍ للتنافس بدلًا عن الاستمرار في الصراع والعداء الذي قد يكلِّف النظام ويهدده.

 لكن في الواقع يواجه هذا الخيار تحدياتٍ أهمها أنَّ إيران ترفض مناقشة قضية الصواريخ الباليستية باعتبارها شأنٌ داخليٌّ، كما أنَّها تريد أن يكون التفاوض حول دورها في المنطقة في إطارٍ إقليميٍّ ومن دون تدخل الدول الكبرى. ويرفض المعسكر الراديكالي المحافظ العودة إلى المفاوضات، بحجة أنَّه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة وأنَّه يجب حل المصاعب الاقتصادية الإيرانية من خلال استمرار «اقتصاد المقاومة» الذي تبناه المرشد، خصوصًا أنَّ تصريحات بايدن ومستشاريه زادت المخاوف في إيران من أنَّ الإدارة الأمريكية الجديدة لا تنوي أيضًا رفع العقوبات الاقتصادية بالكامل مقابل استئناف المفاوضات، وبالتالي فإنَّ استئنافها في حدِّ ذاته سيُعتبر بمثابةِ استعدادٍ مبدئيٍّ لتنازلاتٍ من إيران، كذلك لم يعلِّق المرشد الإيراني خامنئي حتى الآن على إمكانيةِ استئناف العملية السياسية مع إدارة بايدن، لكنَّه كرَّر موقفه المألوف بأنَّ استئناف المفاوضات مشروطٌ بإلغاء جميع العقوبات والمحادثات فقط في إطار مجموعة (5 + 1) التي وقَّعت إيران معها الاتفاق النووي، وليس بشكلٍ ثنائيٍّ بين إيران والولايات المتحدة، كذلك يمثِّل موقف بعض القوى الإقليمية تحديًّا لهذا الخيار، حيث تريد بعضها إدخال تعديلٍ على الاتفاق النووي بما يضمن سيطرةً أكبر على قدراتِ إيران النووية في المستقبل، وترغب كذلك في ألَّا تفتح الولايات المتحدة المجال للتفاوضِ بدون وضع حدٍّ لطموحات إيران الإقليمية والحدِّ من خطر امتلاك إيران وأذرعها صواريخ وأنظمة أسلحةٍ متطورة في المنطقة بما يهدِّد الأمن والاستقرار الإقليمي.

ثالثًا: أي مسارٍ ستتحرَّك نحوه إدارة بايدن؟

على الأرجح أنَّ مبادرة الرئيس بايدن ستعتمد على الدبلوماسية كخيارٍ أساسيٍّ، والتي قد تنطلق من العمل على تعزيز الثقة عبر تنازلاتٍ متبادلةٍ تتعلَّق بالاتفاق النووي، قد تبدأها الولايات المتحدة بتخفيف العقوبات مقابل امتثالٍ كامل من جانب طهران ببنود الاتفاق النووي. وسيكون هذا الترتيب بالتنسيق مع الأطراف الأوروبية وربما روسيا والصين، بحيث يكون ذلك نقطة انطلاقٍ نحو مفاوضاتٍ متتابعةٍ تهدف إلى فتح باب المفاوضات حول القضية المركزية وهي الاتفاق النووي. وبما فيها المفاوضات حول تعزيزه وتمديده، وكذلك القضايا الثانوية وهي البرنامج الصاروخي والسلوك الإقليمي لإيران. في إطار هذا المسار، لا شكَّ أنَّ لدى كل طرفٍ ثوابته التي لا يمكنه التخلِّي عنها بالكليَّة كما أنَّ لديه أوراق ضغطه التي سيحاول توظيفها من أجل تعظيم مكاسبه على طاولة المفاوضات.

 بالنسبة للولاياتِ المتحدة فإنَّ أولوياتها القصوى التي لا يمكنها التفريط فيها هي اتفاقٌ نوويٌّ مستدام وفعَّال مع إيران. أما فيما يتعلَّق ببرنامج الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي لإيران فإنَّ بها قدرًا من المرونة لكنها أصبحت أكثر إلحاحًا من ذي قبل. ولدى إدارة بايدن خياراتٌ أوسع من مسار المفاوضات، كما أنَّ موقفها التفاوضي يبدو أقوى، فهي قد ورثت إستراتيجيةً فاعلةً للضغطِ على إيران، وما عليها إلَّا متابعة برنامج العقوبات الحالية. كما أنَّ لديها فرصة أكبر لتحقيق إجماعٍ دوليٍّ ضد إيران، فضلًا عن وجود قوى إقليمية مؤثِّرة وقادرة على تحميل إيران تكلفةً باهظةً دون عبءٍ على الولايات المتحدة.

 بالنسبة لإيران فإنَّ أولويتها القصوى بقاء النظام، ومع ذلك لديها مرونة فيما يتعلق بالمفاوضات حول الاتفاق النووي بما فيها إمكانية تعديله، على الرغم من التصريحات التي تصدر عن المسؤولين باستحالة ذلك. وهنا قد تثمر المفاوضات عن نتائج إيجابية، لكن إيران لن تقدم تنازلاتٍ في هذا الإطار بدون مكاسب حقيقية في الملفاتِ الأخرى. أما بالنسبة لقضية الصواريخ الباليستية فهي مسألةٌ لن تقبل إيران طرحها إلَّا في إطار ما تمَّ التوصُّل إليه في القرار 2231 في عام 2015م. وتبدو قضية السلوك الإقليمي مسألةً بها قدرٌ من المناورة، ويمكن أن تكون مجالًا لمفاوضاتٍ دبلوماسية متعدِّدة الأطراف، لكن لا شكَّ في أنَّ الموقف التفاوضي لطهران ضعيفٌ وخيارات التصعيد لديها محدودة، فهي لا تملك رفاهية الوقت في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة التي تواجهها وبالتالي لديها حاجة مُلِّحة لرفع العقوبات. كما لا تتحمل إيران إثارة أزمةٍ نوويةٍ دون مخاطرةٍ عالية التكلفة قد تكلِّف النظام بقائه من الأساس.

 يمكن القول في النهاية أنَّ عمليةً تفاوضيةً متوقعةٌ ستبدأ مطلع العام 2021م، وعلى الأغلب لن تكون وِفق مسار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، كما لن تكون على نهج ترامب نفسه، بل دبلوماسيةً متعددة الأطراف ومفاوضاتٍ متتابعةٍ لمعالجة قضايا الخلاف. وما يهمُّ دول المنطقة هو أن يكون سلوك إيران الإقليمي وتهديداتها قضيةً أساسيةً على طاولة المفاوضات، وألَّا يتم تأجيلها لمفاوضاتٍ وتفاهماتٍ مستقبلية، بحيث تستفيد إيران من ثمار الاتفاق وتوظِّفها من جهةٍ ثانيةٍ في فرض أمرٍ واقعٍ يدفع المنطقة نحو مزيدٍ من المواجهةِ والصراعِ المفتوح بلا أفق.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير