على الرغم من مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني على يد القوّات الأمريكية في العراق في يناير 2020م، لم تقُم إيران بانتقامها الموعود. سليماني الذي قُتِلَ في هجوم صاروخي أمريكي بالقُرب من مطار بغداد الدولي، كان استهدافُه دليلًا على مدى القوّة العسكرية التي تتمتَّع بها القوات الأمريكية في الشرق الأوسط. كما أحبطَ هذا الاستهداف محاولات إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة، دون أيّ خوف من انتقامٍ أمريكي. وردًّا على مقتل سليماني، شنَّت إيران هجماتٍ صاروخية استهدفت بها قاعدتين عراقيتين تُضمَّان قوّات أمريكية. إلّا أنَّ إيران سبقَ أن أرسلت، قبلَ شنّ الهجوم، رسالةً شفويةً رسمية إلى العراق، تحذِّر فيها من أنَّها ستستهدفُ القوّات الأمريكية هُناك. لقد كان هذا مؤشِّرًا واضحًا، إلى أنَّ إيران لا تستطيع تحمُّل أعباء الدخول في صراعٍ كامل مع الولايات المتحدة، ولتتفادى الانتقادات الداخلية إزاءَ ردِّ فعلِها المحدود، ادَّعت إيران أنَّ حُلفاءها الإقليميين هُم من حثُّوها على التحلِّي بضبط النفس عسكريًا. وأقرّ الحرس الثوري الإيراني مؤخَّرًا بأنَّ الهجمات الصاروخية التي استهدفت القوّات الأمريكية في العراق العام الماضي، لم تكُن هادفةً لقتل أو إصابة أفراد القوّات هناك، ورُبّما كانت، استمرارًا لمُخطَّط سليماني العسكري في الشرق الأوسط؛ ومرَّةً أُخرى، لم تنجح إيران في جعل واشنطن تُسلِّم بنفوذ طهران الإقليمي، على الرغم من عملياتها الهجومية. ولم توقف إيران عملياتها الهجومية، ففي مارس 2020م، هاجمت ميليشياتٌ مدعومة من إيران معسكر التاجي في العراق؛ ما أدَّى إلى مقتل أمريكيين ومواطن بريطاني، لكن هذا أيضًا لم يَرقَ إلى مستوى الانتقام «الصارم»، الذي توعَّدت به إيران ردًّا على مقتل سليماني. ومن المُحتمَل أنَّ إيران كانت تهدُف من وراء هذا الهجوم، إلى إرسال رسالةٍ إلى واشنطن تُشير بها إلى قُدراتها في الردع، وسط التوترُّات السياسية المتصاعدة بين البلدين، وقد كان مبعوث إيران لدى الأُمم المتحدة مجيد تخت روانجي، قد وعد بعملٍ عسكري في وقتٍ ما، لكنّ النائب الإيراني عن التيّار الأُصولي المتشدِّد مجتبى ذو النوري تعهَّد بأنَّ طهران لن تبدأ حربًا أبدًا بسبب مقتل سليماني.
ولم تتّخذ طهران أيّ إجراءاتٍ عسكرية واسعة النطاق، انتقامًا لمقتل سليماني، وقال خليفةُ سليماني إسماعيل قاآني: إنَّ إيران ستتصرَّف بهذا الشأن، وأشار إلى أنَّ المتورِّطين في مقتل سليماني لن يتمكَّنوا من الإفلات من قبضة العدالة. حتّى أنَّ قاآني نجحَ في إثارة مخاوف من وقوع هجوم بقيادة إيران على الأراضي الأمريكية، أو استهداف القيادة المركزية الأمريكية والعديد من كبار المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم الرئيس السابق دونالد ترامب.
ومن الواضح أنَّ إيران لا تملك القوّة العسكرية التي طالما تتفاخر بها؛ وهُنا يُشير عجزُ إيران عن تنفيذ انتقامها «الصارم»، الذي وعدت به ردًّا على مقتل سليماني، إلى تراجُعٍ مُحتمَل في قوّة طهران العسكرية، على الرغم من حقيقة أنَّ الحرس الثوري الإيراني ادّعى أنَّه أنفق 17 مليار دولار لبناء النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وتفاخُر إيران المستمرّ بنفوذها الإقليمي، الذي لا يعكِس الواقع على الأرض، قَوَّضَ من مكانتها.
وصنَّفت الولاياتُ المتحدة إبان فترة ترامب ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن، على أنَّها إرهابية. كما أدَّت الهجمات الأخيرة التي شنَّتها الميليشيات المقرَّبة من إيران، والتي استهدفت الحكومة الشرعية اليمنية والسفارة الأمريكية في العراق، إلى زيادة عُزلة إيران، وزيادة الضغط الدولي على طهران؛ لإنهاء حربها في المنطقة.
ونشَبت احتجاجات في لبنان في يناير، بعد تعليق ملصقات سليماني على النُصب التذكارية في ضواحي بيروت، حيث تعهَّدت جماعةُ حزب الله اللبنانية المدعومة من إيران بالانتقام لمقتل سليماني، لكنَّها لم تتّخذ أيّ إجراء بشأن ذلك حتّى الآن.
وأقام رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي علاقات أوثَق مع الولايات المتحدة وحلفائها العرب، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، على الرغم من حقيقة أنَّ إيران تتمتَّع بنفوذٍ كبيرٍ على الحكومة العراقية، ولم تتمكَّن طهران أيضًا من الضغط على الكاظمي؛ لتبنِّي سياسةً ناعمة تجاه وُكلاء إيران العاملين داخل العراق، بعد مقتل سليماني. وعلى الصعيد الشعبي، يرى الشعبُ العراقي أنَّ أحد التحدِّيات الرئيسية التي تواجهُ حكومة الكاظمي، هي نزعُ سلاح الميليشيات المدعومة من إيران، والمُنتشرة في جميع أنحاء البلاد.
وتحاول إيران في الوقت الحالي تقديم صورة زائفة عن عزمها لدعم إرث سليماني، فقد نظَّمت مظاهرات في ساحة التحرير ببغداد، بمناسبة ذكرى استهدافه؛ لإثبات حقيقة نفوذها في العراق. لكن وفقًا لبعض المراقبين، من المُرجَّح أنَّ الاحتجاجات كانت من جانب إيران؛ لثني واشنطن عن شنَّ هجومٍ ضدّها في الأيام المُتبقِّية من إدارة ترامب، مع مراعاة أنَّ واشنطن وطهران عالقتان في جمود سياسي وعسكري أيضًا. واستعرض البنتاغون عضلاته العسكرية في أواخر ديسمبر من العام الماضي؛ لوضع إيران في موقف ضعيف، من خلال إرسال حاملة طائرات وغوّاصة صاروخية موجَّهة وطرّادات وقاذفات بعيدة المدى إلى منطقة الخليج العربي، كما دعمَ أيضًا الضربات الجوِّية الإسرائيلية ضدّ أهدافٍ إيرانية في سوريا.
وزعمت إيران أنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل تهدفان إلى تصعيد التوتُّرات في الخليج، مضيفةً أنَّ ذلك لن يُفضِي إلى صدامٍ عسكري، وتبقى ماهيةُ ردّ إيران على إرسال واشنطن تعزيزاتٍ عسكرية إلى الخليج ضبابيةً، لا سيما أنَّ إيران لم تستطِع إبعاد القوّات الأمريكية لمسافةٍ تحيّد الصدام المُحتمَل. وتصرُف إيران الانتباه عن إخفاقاتها بنشرها مذكرات سليماني: «لست خائفًا من أيّ شيء»؛ ولترسيخ إرث سليماني في أذهان عامَّة الإيرانيين، تستخدم الحكومة الإيرانية في هذا الصدد، زينب سليماني رئيسة «مؤسَّسة قاسم سليماني» التي تُروِّج لما يُسمَّى: «عقيدة سليماني للمقاومة» ضدّ الولايات المتحدة.
كما تُنتِج إيران مقاطع فيديو وألعاب كمبيوتر، وتنشر الكُتب وتسجيلات الأغاني تكريمًا لسليماني، وتروِّج له كبطل قومي، بالإضافة إلى مهمَّة الحفاظ على إرثه. لقد استحثَّت إيران الروحَ الوطنية لدى الأُمَّهات الإيرانيات لتنشِئة أبنائهنَّ على خُطى سليماني. من الواضح أنَّ هذه المحاولات للتّرويج لسليماني كرمزٍ وطني، تُخفي في طيّاتها فشلَ إيران في الانتقام لمقتله، إذ تعجزُ طهران إلى حدٍّ يُرثى له عن «الانتقام الصارم»، الذي طالما توعَّدت به.
