كان نظامُ الدّفاع الجوّي الإيراني في حالةِ تأهُبٍ قصوى بعد أنْ أطلَق الجيشُ وابلًا مِن الصواريخ في 08 يناير 2020م، استهدَف قواعدَ عراقية تضمّ قوّاتٍ أمريكية. كانت إيران تخشى انتقامَ الولايات المتحدة.
بعد مرورِ عام، لم يكُن هناك دليلٌ على أيّ تدخُّلٍ أجنبي في مجال إيران الجوّي في ذلك الوقت عندما اخترَق صاروخان مِن طِراز «تور» المضادّ للأجسام الطائرة جسمَ طائرةِ الخطوط الجوّية الدوليّة الأوكرانيّة الرحلة رقم 752. لقد اعترَفت طهران بإسقاط الطائرة بـ«الخطأ» بعد النفي الأوّلي.
إذا كانَ الإسقاطُ خطأً، فهو يفضحُ عدمَ أهليّةِ وتهوّر الحرس الثوري الإيراني. ومع ذلك، هناك تفسيراتٌ أُخرى للحادث تربُطه بعملٍ إيرانيٍ متعمّدٍ ومحسوب يهدفُ إلى إلقاء اللوم على القوى المنافسة، ولكن لم يمتلك الحرس الثوري مجالًا لإلقاء اللوم على القوّات الأجنبية المعادية بفضل الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت بشكلٍ شِبه فوري على وسائل التواصل الاجتماعي.
أثارَ تسجيلٌ صوتيٌ مُسرّب لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يتحدّث عن إسقاط الطائرة الأوكرانيّة بعد حوالي 13 شهرًا، جدلًا داخلَ إيران وخارجها. يُمكن سماعُ ظريف وهو يقول إنَّ «الحادث كان عرضيًا»، لكنّه قال لاحقًا: «إنه من الممكن أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة متسلّلين قد أسقطوا الطائرةَ عمدًا». كما يقول إنه «لم يتمّ إجراءُ تحقيقٍ كامل وأنَّ حقيقةَ ما حدَث لن يتمّ الكشفُ عنها مِن قِبل القوّات المسلّحة الإيرانية والقيادة العُليا». لا يُريد ظريف أنْ يورّطَ حكومَته لإخفائها الحقائق، ولكن يبدو أنه يُلقي باللوم على الآخرين مِثل «المتسلّلين» دونَ تقديمِ أيّ تفاصيل.
انتهَكت إيرانُ في كلتا الحالتين بعضَ أحكامِ اتفاقيةِ شيكاغو للطيران المدني الدولي لعام 1944م واتفاقيةَ مونتريال لعام 1971م لقمع الأعمال غير المشروعة الموجّهة ضدّ سلامةِ الطيران المدني. وكانت إيران قد اتّهمت الولايات المتحدة بفعلِ الشيء نفسِه في يوليو 1988م، عندما أسقَطت رحلةَ الخطوط الجوّية الإيرانية رقم 655 فوقَ الخليجِ العربي، ممّا أسفرَ عن مقتل 290 شخصًا كانوا على متنِها. على الرغم من موافقة الولايات المتحدة على دفعِ 131.8 مليون دولار كتعويضٍ لإيران في فبراير 1996م، لا تزال بعضُ الألغازِ حولَ ذلك قائمة.
انفجرت رحلةُ «بان أمريكان» رقم 103 على ارتفاع 31 ألف قدم، بعد خمسة أشهرٍ من الإسقاط المأساوي لرحلة الخطوط الجوّية الإيرانية، وتناثرَ حُطامها عبر مساحةٍ تزيدُ على 2000 كلم2، على طول الحدود الإنجليزية – الأسكتلندية. لقد أودى تحطُّم طائرةٍ فوق لوكربي بحياةِ 270 شخصًا، وكان العثورُ على أدلّةِ سَببِ الانفجارِ المُميت الذي مزَّق الطائرة، أشبهَ بالبحثِ عن إبرةٍ في كومةِ قشّ، لكن خُبراء الطيران وصفوهُ بأنّه عملٌ إرهابي، ثم أشارت وسائلُ الإعلام إلى تهديد إيران بالرَّد على إسقاطِ الطائرة 655.
أُدينَ المواطنُ الليبي عبد الباسط علي محمد المقرحي بعد سنواتٍ بتُهمة التسبُّب في نهاية الرحلة 103 المُميتة، وقد دافعَ عن براءته حتى وفاته في 2012م؛ وقد اعترفَ الرئيسُ الليبي السابق معمر القذافي بدورِ بلادِه في التفجير بسبب الضغط الخارجي والنفعية السياسية. كان الراحل نيلسون مانديلا (المحامي) من بين آخرين، قد شكَّك في قضية الادعاء والحُكم الناتج. قبِلت المحاكم الأسكتلندية بعد ثلاثةِ عقود التماسَ عائلة المقرحي لاستئنافٍ ثالِث، لكنّها رفضتهُ في 15 يناير.
إذا لم تُسقِط ليبيا رحلةَ «بان أمريكان» كما يزعُم البعض، فمن فعلَ ذلك؟ كان المشتبهُ به الأكثرَ وضوحًا منذ ديسمبر 1988م هو أحمد جبريل رئيس جماعةٍ إرهابيةٍ فلسطينية-سورية تُدعى الجبهةَ الشعبية لتحريرِ فلسطين، التي لم تكُن علاقاتها بإيران سرّية. يُزعَم أنَّ أحمد جبريل، الذي يُقال إنه يعيشُ في دمشق، قد حصلَ على 13 مليون دولار للانتقامِ مِن إسقاط الرحلة الإيرانية رقم 655. فضّلَت إدارةُ الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب في ذلك الوقت عدمَ إلقاء اللوم على سوريا أو إيران لأنّها كانت تستعدُّ لمهاجمةِ العراق عام 1991م وكانت بحاجةٍ إلى دعمِهما، وتسعى أيضًا لإطلاق سراحِ بعضِ الرهائن؛ وبالتالي، تم إلقاءُ اللومِ على ليبيا عبرَ اتّهام المقرحي.
اعتَرفت إيران بإسقاط الرحلة الأوكرانيّة رقم 752، لكنّها رفَضت إجراءَ تحقيقٍ دولي أثناءَ تبييض الأدلّة. لقد أرسَلت الصندوقَ الأسود إلى فرنسا في وقتٍ متأخّر، لكنّ النتائج لا تزالُ منتَظرَة، وقد تمّ ترهيبُ عائلاتِ الضحايا، بينما لا تزالُ الخلافاتُ قائمةً فيما يتعلَّق بمجموعةِ التعويضات، وتسميةِ الجُناة الفِعليين للجريمة. لا يُعتبرُ عُذر طهران بأن أفرادَ دفاعِها الجوي تصرّفوا بشكلٍ عفوي ذا وزنٍ كبير. يجبُ أن تكونَ الأوامرُ بتنفيذ مِثل هذا الفِعل صادرةً عن قمّة الهرم. يُذكر أنَّ كُلًّا مِن كندا وأوكرانيا إلى جانِب الدولِ الثلاث الأُخرى التي قُتل مواطنوها، لم يستسلِموا بشأنِ القضية.
لم تُواجِه إيرانُ حتى الآن العواقبَ الحقيقيّة لاستهدافِها للقوّات الأمريكية في نفسِ اليوم، بينما يخشى الكثيرُ مِن عدمِ حدوثِ أيِّ شيء. كان على ليبيا أنْ تدفَع الثَّمن الاقتصادي والسّياسي والإستراتيجي لشيءٍ يُزعَمُ أنَّ إيران قامَت بِه. لقد اعترَفت طهران بإسقاطِ الرحلةِ الأوكرانيّة حتّى قَبل تسريبِ تسجيلٍ صوتيٍ لظريف؛ ومَع ذلك، لا يُعتبرُ هذا العملُ الطائش من بين نقاطِ حديثِ الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو القوى الكُبرى الأُخرى في تعامُلها مع إيران. لا يُمكن أنْ يكونَ هناك استهزاءٌ باللعب النظيف أكبرَ مِن إفلاتِ إيران مِن القتلِ الجماعِي للمُسافِرين الأبرياء.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد