أعلنت المملكة ودول «التحالف العربي» عن مبادرةٍ إيجابيَّة وشجاعة لحلِّ الأزمة اليمنية، تتضمَّنُ مقترحًا لإيقاف القتال وبدء عمليَّة سياسيَّة تنهي الحرب في اليمن، وتضعُ حدًّا لتدهور الأوضاع الإنسانيَّة والمعيشيَّة للشعب اليمني. هذه المبادرة تلقي بالمسؤوليَّة على من يستمر في إطالة المأساة اليمنية.
سياقاتٌ تاريخيَّة تخبرنا بأنَّ كثيرًا من المآسي كان بالإمكان تلافيها لو توفرت قيادةٌ تسعى لتغليب المصلحة الكبرى على المصلحة الضيّقة، ففي مقال رصين للكاتب روبرت جيروارث، في مجلة «السياسة الخارجية» (Foreign Policy)، بعنوان: «إنهاء الحروب لم يكُن سهلًا أبدًا»، زعم بأنَّ دروس الحرب العالميَّة الأولى يمكنُ الاعتماد عليها للوصول إلى حلولٍ للصراعات الحاليَّة؛ حيث يستطرد الكاتب وهو يرصدُ مراجعةً لكتابٍ للدبلوماسي وصانع السياسة السابق فيليب زيليكو، بعنوان: «الطريق الأقل سفرًا: المعركة السرية لإنهاء الحرب العظمى» (The Road Less Traveled: The Secret Battle to End the Great War) جاء فيها أنَّ جهودًا شجاعة لو اتخذت في دعم مسار المفاوضات لتمكَّنت من المحافظة على أرواح الملايين من البشر آنذاك، بعد مرور عامين من الحرب التي استمرت 4 سنوات.
يستشهدُ الكاتب بمقولة السفير الألماني للولايات المتحدة الكونت جون هاينريش فون بيرنستورف الذي قال عام 1916م، تعقيبًا على مساعي المستشار الألماني تيوبالت فون بتمان هولفيغ، ورسالته السرّية لتوسيط الرئيس الأمريكي، لإنهاء الحرب برغم علمِه بأن أمريكا تموّلُ الحُلفاء ضدَّ ألمانيا: (السلام مطروحٌ على الأرض بانتظار من يلتقطه Peace is on the floor waiting to be picked up!)؛ وبرغم مساعي المستشار الألماني وقبول الجانب الأمريكي للوساطة، فإنَّ تلك الجهود وُوجِهت بتصلب ومعارضةٍ من قِبل الحلفاء، ومِن قِبل القادة العسكريين، لأسباب سياسيَّة وقوميَّة، مِمَّا تسبب في حصيلة كارثية للحرب العالمية الأولى كان بالإمكان تفاديها، وتفادي عامين آخرين من الحروب المدمرة، لو تحلى أولئك بالشجاعة والمسؤوليَّة، آنذاك.
ويقارنُ الكاتب ما يحدث الآن في الشرق الأوسط مع سير الأحداث في الحرب العالمية الأولى، ويرى أنَّ إنهاء الصراع المُسلَّح في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى قد يتطلب حسابًا دقيقًا للتكلفة والعائد وقيادات على مستوى رفيع، لا تخشى اتّخاذ قرارات يحتملُ ألَّا تحظى بشعبية ضد إرادة منتفعي الحرب، ويخلُص إلى الاستنتاج بأنَّ صنع السَّلام أصعب بكثير من بدء الحرب.
ودعونا نفترضُ أنَّ شخصًا ما قد اتّخذ قرارًا شجاعًا في العديد من الصراعات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة، ولنتصور كيف كان سيتغير مجرى الأحداث والتداعيات؛ فماذا لو تمّ قبول الوساطات بعد عامين من الصراع العراقي-الإيراني عام 1982م، كان البلدان سيحظيان بمستقبلٍ أفضل، وكان بالإمكان المحافظة على أرواح الملايين من البشر، ومنع سلسلةٍ من الحروب اللاحقة، وعقودٍ من التخلُف والرجعيَّة.
ماذا لو استجاب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين لنداء ومناشدات الوسطاء بعد غزوهِ للكويت عام 1990م، ألم يكُن الحفاظ على تماسك العراق، وجيش العراقي، وشعب العراق، هو الجائزة لو اتُّخِذ القرار المناسب، بدلًا من توقيع الاتفاقية المُذِلَّة في «خيمة صفوان»، وتدمير الجيش العراقي المنسحِب من الكويت، وما تلا ذلك من نكسات. الكثير من العراقيين الآن يدركون أنَّ العراق لم يعُد على صلة بمجده وعروبته، ويدركون أيضًا بأنه، لا مقاربة صدام ولا مقاربة إيران يمكنُ أن تنهض بعراق دجلة والفرات والرصافة، في ظل المذهبيَّة المقيتة ومن يغذيها.
ماذا لو أنَّ إيران انتهجت سلوكًا دوليًا تصالحيًا، بدلًا من إشعال المنطقة في توترات منذ بداية ثورتها المشؤومة؛ ألن تصبح إيران دولةً محوريةً في الشرق الأوسط، ويتمتَّعُ شعبها بخيرات بلادهم، أسوة ببقية الدول الغنية بالثروات، بدلًا من ملايين القتلى، وحالة البؤس والسخط التي يعيشها الإيرانيون، وعزلتهم الدوليَّة.
ماذا لو اتَّخذ بشار الأسد، منحى لاحتواء حالة التململ داخل مكونات الشعب السوري وسعى إلى صد سُبُل التدخل الأجنبي في بلاده، ألن تكون سوريا اليوم في منأى عن الوصاية الروسية والإيرانية والتركية. ألم يكُن بالإمكان تجنيب الشعب السوري القتل والتشرد واللجوء والهوان على المجتمع الدولي. الآن يدفع بشار الأسد الثمن غاليًا، ويحاول الفكاك من شرك الدول المُحتلَّة للتراب السوري، لكنَّ الخلاص أصبح مرهونًا بسياقاتٍ خارجة عن إرادته وقدرته.
ماذا لو تخلى معمر القذافي عن نزعاته المتهورة، وتفرَّغ لبناء دولة ليبية حديثة، باستغلال مواردها الغنية، التي يتهافت عليها القاصي والداني في الوقت الراهن؛ ألن يحمد له الشعب الليبي ذكرى طيبة لو اتَّخذ قراراتٍ صائبة، وقبل ذلك كان بالإمكان المحافظة على أرواح الليبيين، وسنينًا ضائعة في الاقتتال والعداوة بين مكونات الشعب الليبي. أعتقد أنَّ الليبيين الآن يدركون أنَّ بلادهم أصبحت فريسة يراد نهشها من كل اتجاه.
ماذا لو قبِل الرئيس علي عبد الله صالح، وجماعة الحوثي للوساطة الخليجية، وتمَّ بناء مجتمعٍ تصالحي يستوعب كل الأطياف اليمينة، ألن يكون اليمن في وضعٍ أفضل اليوم، وكان بالإمكان المحافظة على حياة آلاف اليمنيين ومقدّراتهم، وعدم وضع اليمن تحت الوصاية الدوليَّة، وطلب الإحسان من الدول الأخرى. أليست «الحكمة يمانية»، فأين ضلت الحكمة طريقها هذه المرة. كثيرًا من اليمنيين الآن أصبحت لديهم القناعة بأنَّ الحرب تأكل الأخضر واليابس، وحتَّى المنتصر فيها فهو خسران في نهاية المطاف، فهل ينتظرون سنوات أخرى من الاقتتال والخسائر البشريَّة والماديَّة.
القائمة تطول في عالمنا الشرق أوسطي، وبدى واضحًا الحاجة إلى قياداتٍ تتَّخذُ قرارات شجاعة تساهمُ في صناعة مستقبل بلادها، وتضعه على سكة المنافسة مع الدول الأخرى، بدلًا من الشفقة والإحسان، والشماتة أيضًا.
لعل هنالك من يعي أهمية اتّخاذ القرارات الصعبة لتفادي النتائج الوخيمة للصراعات؛ ولا يزال للعبرة مجالٌ في منطقتنا لمن يريد أن يعتبر. إنَّ البحث عن وساطات ومقاربات ليس بالأمر الهيّن، وقد يعترضُ ذلك صعوباتٌ ومعارضاتٌ شديدة، ولكنَّ التفكير في العواقب وفوائد ذلك، قد يفوق كل العقبات والصعاب.
يأتي إعلان المملكة عن مبادرتها مع دول «التحالف العربي»، لحل الأزمة اليمنية، برغم رفض الميليشيا الحوثية المتكرر للمبادرات السابقة وتنصُّلهم من التزاماتهم في جميع المبادرات، إدراكًا من المملكة لأهمية السَّلام والمحافظة على شعب اليمن ومستقبله، ووقف التدهور والفشل في المؤسَّسات اليمنية، وليُتيح فرصةً ذهبيَّة للحوثيين لعلهم يلتقطون هذه المبادرة الشجاعة لإنهاء الأزمة في اليمن، وكأساسٍ للعمل ولبناء الدولة اليمنية، والتخلي عن سياسات الخراب والدمار المستوردة، وصيانة اليمن من أنْ يصبح أداةَ مساومةٍ إيرانية في صراعها غير المنتهي.
تحتاج اليمن إلى رجل شجاع ليلتقط غصن السَّلام، وليُسجل له التاريخ شرف حفظ الدولة اليمنية من الانهيار التام، وسوف تحتفظ المملكة بمجد وشرف المحافظة على عروبة اليمن وصونه من تدنيس الإيرانيين، وخرابهم – بإذن الله – كما كانت في مواضع كثيرة سندًا وحصنًا منيعًا لجيرانها، ووجودها دائمًا في الجانب الصحيح من الأحداث.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد