على الرغم من النية المعلنة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حول العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والموافقة على استئناف المحادثات نظير تسهيلاتٍ مالية من أجل دفع مسار الدبلوماسية، وَفق ما تَسرَّب حول اتفاق تُوُصّل إليه منتصف فبراير 2021م برعاية أوروبية، فإنَّ التعقيدات المرتبطة بمثل هذا القرار باتت تمثّل تحدِّيًا حقيقيًّا، إذ إنَّ أي قرار غير محسوب بدقة قد يضرّ بالترتيبات الجيوسياسية التي تضمن للولايات المتحدة دورًا مهيمنًا على السياسات المتعلقة بالشرق الأوسط، كما قد يضر بعلاقاتها بحلفائها التاريخيين، ويفتح المجال أمام بروز أدوار لقوى دولية أخرى كالصين وروسيا اللتين لن تتوانيا عن استغلال أي ثغرة لتركيز المنافسة والصراع في الشرق الأوسط بدلًا عن انتقاله إلى مناطق أخرى أكثر تهديدًا لمصالح هذه القوى وأمنها القومي. وعلى الرغم من أنَّ الملفّ النووي يبدو قضيةً ثانويةً في ظاهره، فإنه يفرض نفسه بقوة على التفاعلات الإقليمية والدولية، لدرجة أنَّ أي خطوة بشأنه سيكون لها مردودها وتداعياتها.
إذا افترضنا جدلًا أن إدارة بايدن خضعت لابتزازات إيران واضطُرّت إلى العودة إلى اتفاق «5+1» من أجل السيطرة على البرنامج النووي الإيراني، باعتباره يمثّل أولوية في إطار سياسة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية على المستوى الدولي، ومن أجل وقف حصول دولة تَعدُّها الولايات المتحدة مارقة، عن امتلاك سلاح غير تقليدي، الأمر الذي يجعل منها قوة خارج إطار السيطرة والاحتواء، مع الإخفاق في تبنِّي معالجة شاملة متوازنة تضمن السيطرة على سلوك إيران لا احتواءه كما كانت تأمل إدارة باراك أوباما.
بافتراض ما سبق، يمكن القول بدايةً إن هذا التوجه لا يُتوقَّع أن يوقف طموح إيران، لأنَّها في إطار مبادئها الراسخة من أجل الاستقلالية ومواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية، وتنفيذ أجندتها الخارجية ذات الطابع التوسعي، لن تكفَّ عن مواصلة برامجها بصورة أو بأخرى على اعتبار أنَّ السلاح النووي سيوفّر الحماية للنظام وللطابع «الإسلامي» للجمهورية، وهو الأولوية والمصلحة العليا للنظام. ولا تخرج بالطبع مسألة الفتوى التي يتشدّق بها النظام بتحريم امتلاك سلاح نووي عن مبدأ التقيَّة الذي يمرّر النظام تحته أهدافه وغاياته العليا.
إن العودة إلى الاتفاق النووي بصورته السابقة هي مقدمة لامتلاك إيران معرفة نووية كافية، وقدرة في المستقبل على تغيير ميزان القوى الإقليمي، خصوصًا أنَّها تعمل على تحديث قدراتها المعرفية والتقنية، لا سيما في مجال التخصيب، وتقليص وقت الاختراق النووي. وشكَّلت هذه المسائل مصدر قلق للقوى النووية المعنية بالسيطرة على برنامج إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وشغلتها بالنقاش حول هذا التطور التقني عند مرحلة ما، بما يمكن أن يفضي إلى توفير حماية للنظام الإيراني مما يحول دون استهدافه، ويدفعه نحو مزيد من التشدد والتطرف، كما سيُكسِبه قدرة هائلة على الردع في مواجهة خصومه، ويعطيه قدرة فائقة على مواصلة سياساته الإقليمية بما فيها السعي للحدّ من النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة.
غنيٌّ عن القول أنَّ الاتفاق النووي بإمكانه أن يوفِّر في حالة إعادة إحيائه حوافز اقتصادية هائلة لإيران، وقد تسربت معلومات بأنَّ الأوروبيين نجحوا في النصف الثاني من فبراير 2021م في التوصل إلى اتفاق بين إيران وإدارة بايدن، بموجبه تستأنف إيران المحادثات مع الولايات المتحدة حول اتفاق نووي جديد مقابل رفع التجميد عن نحو 15 مليار دولار تابعة لها في كوريا الجنوبية واليابان والعراق، وذلك قبل أن تتعثر هذه المفاوضات بسبب تراجع المرشد علي خامنئي عن تأييده لها، وطمعه في رفع العقوبات كاملةً أولًا، بسبب التنازلات والتراخي الذي تُبدِيه إدارة بايدن.
هذه هي حقيقة المشهد، إذ ثبت بالتجربة أن التراخي الأمريكي وحصول إيران على عوائد مالية ضخمة سواء من أموالها المجمدة أو نتيجة رفع العقوبات عن صادراتها، يُوظَّف أولًا: في تحقيق هيمنة داخلية للطبقة السياسة الحاكمة بقيادة المرشد، وثانيًّا: يسمح لإيران بوفورات مالية لتطوير برامجها الصاروخية ذات الطابع الإستراتيجي، إذ تلعب الصواريخ الإيرانية خلال المرحلة الراهنة دورًا رئيسيًّا في المشهد الإقليمي وفي ميزان القوى العسكري الراهن، على أكثر من جبهة، وثالثًا: تسمح الحوافز الاقتصادية للنظام الإيراني بمتابعة سياساته الخارجية والتدخل النشط في مناطق التَّماسِّ مع القوات الأمريكية والضغط عليها من أجل الانسحاب من المنطقة.
ورأينا كيف تمكنت إيران من قلب المعادلة الإقليمية لصالحها بعد الانفتاح الأمريكي عليها في عهد أوباما، إذ تدخلت مستغلّة حالة الفراغ الإقليمي بعد الاحتجاجات العربية وفرضت واقعًا جديدًا في الشرق الأوسط، وتحولت مجريات الصراع في المنطقة بصورة غير مسبوقة، وتصدرت الطائفية والانقسامات الإثنية المشهد. ليس هذا فحسب، بل تنامى العنف والإرهاب، وأصبحت الميليشيات والجماعات المتطرفة الفاعل الأبرز على المستوى الإقليمي، ونتج عن ذلك تهديد لحركة الملاحة الدولية وضرب للمنشآت الحيوية واستهداف لناقلات النفط وتعزيز لأدوات القوة والحروب غير المتماثلة. كلّف هذا الولايات المتحدة خسائر كبيرة وأربك حساباتها وجعلها مترددة بشأن بقاء أو انسحاب بعض قواتها من دول المنطقة، وهو ما لن تتخلى عنه إيران في المستقبل باعتبار أن سياساتها الخارجية مدفوعة بهُويَّة معادية للولايات المتحدة.
على صعيد متصل يرفض بعض دول المنطقة صراحةً توجهات بايدن بشأن العلاقة مع إيران، كما ترفض منح إيران شرعية دولية لامتلاك معرفة نووية في المستقبل، لهذا لن تقف هذه الدول موقف المتفرِّج في أثناء تحوُّل إيران إلى قوة نووية معترَف بها مع الوقت، كما كان الأمر في اتفاق عام 2015م، بل سيفكّر بعضها بصورة تلقائية وجديدة في تحقيق توازن نووي، حتى لا يختلّ ميزان القوى الإقليمي في غير صالحها. وسيكون بعض دول الخليج في مقدمة الدول التي ستسعى لاستعادة النفوذ وتحقيق هذا التوازن، وهو ما سيُدخِل المنطقة في سباق تسلُّح نووي غير مسبوق، وفي الأغلب لن يكون ذلك بشراكة مع الولايات المتحدة، بل ربما مع خصومها، وذلك ضمن عملية إعادة هيكلة وتعديل للواقع الجيوسياسي لأول مرة منذ عقود.
وفي ذات السياق، لن تقف القوى الإقليمية مكتوفة الأيدي أمام هذه التحولات، بل سيبحث كل منها عن تأمين مصالحه ونفوذه في مواجهة هذه التحولات. وفي الوقت الذي تسعى فيه إدارة بايدن لإعادة هيكلة تحالفاتها الدولية من أجل الحفاظ على مركزها فوق قمة النظام الدولي، فإنها ستواجه أول التحديات في هذا السبيل من دول الشرق الأوسط، إذ سيحاول بعض حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين الخروج من تحت عباءتها، أو على الأقل تنويع شراكاتهم، بل قد يتجه بعضهم إلى مقاومة سياسات الولايات المتحدة الإقليمية، وربما بصورة أوسع نطاقًا مما كان عليه الأمر خلال فترة أوباما، وربما نشأت تحالفات إقليمية في هذا الإطار.
وقد يندفع بعض هذه القوى نحو الانخراط في تفاهمات وتحالفات إقليمية ودولية تُعيد في طياتها ترتيب المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط ككل، فإسرائيل بصدد تحويل مجريات الصراع في الإقليم بعدما عقدت اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين، ودخلت على خطّ مواجهة مباشر مع إيران في الخليج العربي، وتراجع الصراع التاريخي العربي-الإسرائيلي لصالح الصراع الإقليمي ضد إيران، وتنتظر الصين وروسيا الفرصة لتغيير خريطة المنطقة الجيوسياسية لصالحهما، وتحديدًا تستعد الصين لخلق أرضية اقتصادية للتعاون مع بعض القوى الإقليمية المؤثرة، وذلك ضمن خططها لتعزيز مكانتها الاقتصادية والإستراتيجية على الساحة الدولية ككل، والحدّ من الهيمنة الأمريكية، خصوصًا بعد توجهات بايدن لبناء تحالفات في منطقة جنوب شرق آسيا لمواجهة الخطر الصيني. وقد ظهر استعداد الصين لإقحام الملف النووي وعلاقتها مع إيران في التنافس مع الولايات المتحدة بعدما تَعهَّدَت مؤخرًا بالسعي لحماية الاتفاق النووي، والدفاع عمَّا وصفته بمصالحها المشروعة في العلاقات مع إيران، وذلك حسب ما جاء على لسان وزير خارجيتها وانغ يي في 25 مارس 2021م. وقد بدأت مؤشرات التحرك الصيني بتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع إيران في 27 مارس 2021م في إيران، وهي خطوة موجهة بالأساس إلى الولايات المتحدة. ويبدو وشيكًا وفقًا لسياسة الصين وتصميمها المعهود على النفاذ إلى قلب مصالحها، أنَّ بكين ستصل إلى الشرق الأوسط محمولةً على جناح هذه المعاهدة التي ستكون مصحوبةً باتفاقاتٍ اقتصادية وتجارية لن تقتصر على إيران، بل ستمتدُّ إلى دول الخليج. وإذا حدث ذلك فسيكون نتيجةً طبيعيةً لانشغال الولايات المتحدة عن تعزيز وجودها في المنطقة العربية، ابتداءً من تراخيها عن حماية حلفائها بحسم التدخلات الإيرانية، وصولًا إلى حيرتها الحالية في ما يتعلَّق بحسم أمر العودة إلى الملفّ النووي من عدمها.
ولا يختلف الأمر مع روسيا التي تبدو مستعدة للعب دور أوسع في الشرق الأوسط كما حدث في سوريا، وذلك في إطار تخفيف ضغوط حلف شمال الأطلسي في مناطق نفوذها التقليدية، خصوصًا التحالف الذي تسعى إدارة بايدن لتشكيله مع الأوروبيين لمواجهتها. ويبدو موقف روسيا المعلن من الاتفاق النووي ومن العلاقة مع إيران منسجمًا مع روح التنافس الجيوسياسي، وراغبًا في امتلاك مزيد من الأوراق لموازنة الضغوط الأمريكية المرتقبة. ولم يقتصر هذا التحرك على سوريا، بل عمقت روسيا شراكتها مع تركيا، حتى وصل الأمر إلى إمداد الأخيرة بمنظومة S-400 الدفاعية، وهو أمر يشير إلى تحوُّل عكسيٍّ للنفوذ الأمريكي ولحلف الناتو في الشرق الأوسط.
لا شك أن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي تنطوي على مخاطر، ما لم تؤخذ بالاعتبار التطورات الراهنة في المشهدين الإقليمي والدولي. فمهما قدمت الولايات المتحدة لإيران من إغراءات أو حوافز من أجل إعادة هيكلة العلاقة معها، أو ضبط التفاعلات الخاصة بها، فإنه أمر بعيد المنال، لأنَّ الولايات المتحدة من وجهة نظر إيران ليست حليفًا موثوقًا به. وهذا الأمر مدفوع بالهوية التي ترسخت عبر عقود من الكراهية، وأصبحت مؤسسة بصورة واضحة، ولن تتمكن الولايات المتحدة، ما بقي هذا النظام، من تحقيق اختراق ثقافي أو اقتصادي مع إيران، فالصين وروسيا هما صديقا إيران الموثوقان، وقد وفّرت إيران لهاتين الدولتين فرصة في إطار الصراع الجيوسياسي الأكبر بين القوى الدولية المتنافسة في النظام الدولي. ويبدو أن الدولتين اللتين تواجهان تحدِّيًا من جانب الولايات المتحدة، لديهما حافز في تَحدِّي سياسة العقوبات الأمريكية وإحباطها، بما فيها العقوبات بشأن إيران.
الشاهد في النهاية أنه على الرغم من ثانوية إيران والاتفاق النووي في السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى الرغم من تراجع أهمية الشرق الأوسط بعدما فقد بعضًا من زخمه في السياسات العالمية نتيجة لتراجع عامل النفط، فإن الواقع يشير إلى أن ملف إيران متشابك بصورة أو بأخرى مع الملفات الإستراتيجية الأكثر تعقيدًا التي تسعى إدارة بايدن للتعاطي معها باعتبارها تحدِّيًا لمكانتها، سواء على مستوى علاقاتها مع منافسيها على الساحة الدولية، تحديدًا الصين وروسيا المستعدتين لمواجهة السياسة الأمريكية تجاه إيران، أو على مستوى علاقتها مع حلفائها الأوروبيين الذين يبحثون عن سياسة متوازنة في الشرق الأوسط، وأخيرًا من واقع تأثيرها في الأقاليم والأنظمة الفرعية في الشرق الأوسط التي تخشى انكشاف مظلة الحماية الأمريكية ولديها تطلع في إيجاد بدائل. بالتالي فإن التغيُّرات التي لحقت بهذه الدوائر الرئيسية تجعل العودة إلى الاتفاق السابق مسارًا غير مُجدٍ للمصالح الأمريكية على المديين المتوسط والبعيد، وربما جديرٌ بالاهتمام تهدئة اندفاع إدارة بايدن وعدم التسرع بالعودة إلى الاتفاق النووي، وبدلًا عن ذلك يبحث عن معالجة شاملة، وبناء رؤية وإجماع دولي بالتنسيق مع الحلفاء الدوليين، مع الاهتمام بالتعاون مع الحلفاء الإقليميين بشأن إيران، للوصول إلى اتفاق يحفظ مركز الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إن أرادت ذلك، ويَحُول دون تحولات جيوسياسية في غير صالحها.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد