اتفاقية الشراكة الصينية – الإيرانية.. التحدِّيات والآفاق

https://rasanah-iiis.org/?p=24235

وقَّعت الصين مع إيران، اتفاقية شراكة إستراتيجية مهمَّة في طهران، بتاريخ 27 مارس 2021م. وتستمدّ هذه الاتفاقية أهمِّيتها من توقيتها وطبيعة بنودها، ومداها الزمني الطويل، وحجم الأموال التي تشملها، وتداعياتها المُحتمَلة إقليميًا ودوليًا، خاصَّةً مع رغبة الصين في توسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، وإشراك إيران ضمن مشروعها التجاري الإستراتيجي «الحزام والطريق»؛ للوصول إلى أسواق أوروبا.

وتشمل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية تقديمَ الصين لاستثمارات وخدمات اقتصادية وأمنية بقيمة 400 مليار دولار لإيران، على مدى 25 عامًا، في مقابل إمدادات ثابتة من النفط الإيراني للاقتصاد الصيني.

الاتفاقية ليست بالجديدة؛ ما يعني أنَّ توقيت توقيعها حاليًا له دلالات ودوافع، إذ طُرِحت الاتفاقية بادئ ذي بدء في عام 2016م، خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لإيران، لكنَّها لم تدخل حيِّز التنفيذ وقتها، إذ جاءت عقب توقيع الاتفاق النووي وانفتاح إيران على الاستثمارات الغربية، لكنَّها عادت لواجهة الاهتمام مرَّةً أُخرى العام الماضي، بعد التداعيات الاقتصادية الخطيرة التي خلَّفها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، ووُجِّهت للاتفاقية انتقادات داخلية واسعة.  ويهدف تقدير الموقف هذا إلى الإجابة على تساؤلات أساسية حول عدد من النقاط، أهمّها: دوافع ودلالات توقيت توقيع الاتفاقية، وأبرز بنودها الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومن ثمَّ آثارها المُحتمَلة على الصين وإيران والولايات المتحدة الأمريكية ومنطقة الشرق الأوسط، ثمَّ التحدِّيات التي تواجه تطبيق الاتفاقية، وأخيرًا أُفُق دخول الاتفاقية حيِّز التنفيذ.

أوّلًا: دوافع توقيع اتفاقية الشراكة بين إيران والصين.. لماذا الآن؟

على الرغم من طرح الاتفاقية منذ خمسة أعوام، لكن لم يتمّ الإعلان عنها من جهة إيران إلّا في صيف 2020م، وحينها أثارت جدلًا كبيرًا بين التيّارات السياسية بإيران، والمعارضة في الداخل والخارج، ووظَّفوا ذلك للهجوم على الحكومة والنظام، باعتبار أنَّ هذه الشراكة/الاتفاقية تأتي على حساب سيادة إيران ومصالحها، وأنَّها تتناقضُ مع أُسُس الجمهورية الإسلامية ومبادئ السياسة الخارجية التي أرساها الخميني. لكنَّ حضور وزير الخارجية الصيني إلى طهران مؤخَّرًا، وتوقيع الاتفاقية مع الصين التي وصفها وزير الخارجية الإيراني بأنَّها «صديقةٌ للأوقات الصعبة»، لابد أنَّ له دوافع ودلالات، لا تخرُج على الأرجح عن سياق التطوُّرات والتفاعُلات خلال المرحلة الراهنة.

فمن جهتها تنظُر الصين بحذر وترقُّب لسياسة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، حيث تخطِّط الإدارة الأمريكية الجديدة لنقل مواردها وقُدراتها إلى جنوب شرق آسيا، من أجل ما أُطلِق عليه سياسة «احتواء الصين»، باعتبارها قوَّةً منافسة تسعى إلى صدارة النظام الدولي، وذلك بحسب ما صرَّح به بايدن في 26 مارس 2021م. وهذه الرؤية تأتي استكمالًا لرؤية الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، التي حال الوقت وحالت التطوُّرات في الشرق الأوسط دون تحقيقها قبل انتهاء ولايته، وتسلَّم دونالد ترامب زمام السُلطة في مطلع 2017م، وعَكَس مسار سياسة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي.

ومنذ تولِّي بايدن للسُلطة، ركَّزت الولايات المتحدة على تأكيد مكانتها على قمَّة النظام الدولي. وضمن جهودها لأجل تحقيق ذلك الأمر، عمِلت على بناء تحالُفات دولية وإقليمية للحدّ من النفوذ السياسي والاقتصادي لبكين، حيث اجتمع وزير الخارجية الأمريكي مع الزُعماء الأوروبيين في بروكسل، في 24 مارس 2021م، ووحَّدوا وجهة نظرهم تجاه التعاطي مع الصين كمنافس يهدِّد النظام الدولي القائم، كما عقَد بايدن اجتماعًا افتراضيًا في 12 مارس 2021م مع قادة دول اليابان وأستراليا والهند؛ وذلك لبناء تحالُف لمواجهة الصين ونفوذها. ليس هذا وحسب، بل تخطِّط الولايات المتحدة لإعادة انتشار عسكري وأمني يؤكِّد هيمنتهَا ونفوذَها، بجانب تعزيز نموّها للحفاظ على الفجوة مع أقرب منافسيها وهي الصين؛ ما دفع الأخيرة لضرورة التحرُّك.

أمّا إيران، فعلى الرغم من الجدل الداخلي الذي ثار بشأن الاتفاقية، لكن على ما يبدو أنَّ قرارًا من المرشد علي خامنئي قد حسمَ الأمر بتوقيع الاتفاق، رُبّما يعود ذلك إلى شعور النظام بمدى خطورة الوضع الاقتصادي المتأزِّم، كما يتماشى مع تأييد توجيهات المرشد للتوجُّه شرقًا، بعيدًا عن أوروبا، أو أنَّ ثورة التوقُّعات التي صاحبت انتخاب جو بايدن قد تبدَّدت إلى حدٍّ بعيد، بعدما بدأت إدارة بايدن تضعُ شروطها أمام إيران من أجل العودة للاتفاق النووي، وأصبح من الواضح أنَّ بايدن يُريد أن يستغلّ مجموعةً من العوامل تجعل إيران في موقف تفاوُضي ضعيف، مثل: استغلال الضغوط القصوى التي تركها ترامب، أو استغلال الأوضاع الداخلية المتأزِّمة في إيران، والتوافُق عبر الأطلسي لفرض مزيدٍ من الضغوط من أجل تعديل الاتفاق النووي، وفتح النقاش حول قضايا خلافية؛ أبرزها برنامج الصواريخ البالستية، وسلوك إيران الإقليمي.

لذا لعِبت هذه التطوُّرات على الأرجح دورًا في هذا التوقيت، في دفع البلدين إلى المُضِي قُدُمًا نحو تفعيل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية، حيث تسعى الصين إلى موازنة الضغوط الأمريكية، ومحاولة احتواء الأخيرة لنفوذها، والحدّ من سياسات الهيمنة الأمريكية السياسية والاقتصادية، وذلك عبر اتفاقية مهمَّة مع إيران، التي تُعتبَر شريكًا موثوقًا للصين، ومنافسًا إقليميًا معاديًا للولايات المتحدة. ويمكن توظيف العلاقة معها؛ من أجل تركيز الصراع مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بدلًا عن نقله إلى جنوب شرق آسيا، كما حدث خلال فترة أوباما. وبالمجمل، أرسلت الصين رسالةً مفادُها أنَّها لن تقِف مكتوفةَ الأيدي أمام التحدِّي، الذي تحاول الولايات المتحدة أن تفرضهُ عليها.

من جانبها، فإنَّ إيران بحاجة إلى حليف قوى مثل الصين؛ من أجل موازنة الضغوط التي تتعرَّض لها من إدارة بايدن، لا سيما فيما يتعلَّق بإعادة إحياء الاتفاق النووي، كما أنَّها بحاجة إلى مزيدٍ من الانفتاح الاقتصادي مع الصين، التي تعتبر أهمّ شريك تجاري لها؛ من أجل الوقوف بوجه العقوبات الأمريكية، ومساعدة إيران في تخفيف أزمتها الاقتصادية المتنامية.

ثانيًا: أهمّ بنود الاتفاقية وملامحها العامَّة

لم تُعلن إيران عن تفاصيل الاتفاقية قبل التوقيع ولا بعده، ولم تقدِّم الحكومة الصينية تفاصيل بدورها، وفسَّرت ذلك وكالة «تسنيم» الإيرانية المحسوبة على النظام الديني والحرس الثوري، بقولها: إنَّه «ليس من الضروري نشرُ تفاصيل الاتفاقيات غير المُلزِمة، وبسبب العقوبات الأمريكية، كان من الأفضل عدم نشرها»، وأضافت الوكالة أنَّ البرلمان لن يحتاج إلى المصادقة على الاتفاقية؛ نظرًا لكونها عبارةٌ عن «خارطة طريق إطارية»، وليست اتفاقيةً مُلزِمة.

حتَّى أنَّ حجمَ الاتفاقية البالغ 400 مليار دولار، لم يظهر في التصريحات الرسمية لكلا البلدين، لكن مسوَّدةً عن البنود تتكوَّن من 18 صفحةً تسرَّبت إلى الصحافة الإيرانية والأمريكية، قد أكَّدت ذلك؛ وحتّى عندما تمّ الضغط على المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان بشأن المبلغ الإجمالي للاستثمار الصيني، رفضَ الإجابة، وفقًا لمجلّة «The Diplomat» الأمريكية، وقال: «ركَّزت الخطَّة على الاستفادة من الإمكانات في التعاون الاقتصادي والثقافي، ورسم مسار للتعاون طويل الأمد، ولا تتضمَّن أيّ عقود وأهداف كَمِّية أو محدَّدة، ولا تستهدف أيّ طرفٍ ثالث، وستوفِّر إطارًا عامًّا للتعاون بين الصين وإيران في المستقبل».

وسبق أن تناول المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة) تفاصيلَ الاتفاقية في تقريره الإستراتيجي السنوي لعام 2020م (ص 112، وص300)، ونستعرض هُنا باختصار أهمّ الخطوط العريضة للبنود المسرَّبة لتلك الاتفاقية، كما يلي:

  1. حصول الصين على إمدادات ثابتة من النفط لمدَّة 25 عامًا بأسعار خاصَّة، في مقابل استثمار 400 مليار دولار في إيران في مجالات متنوِّعة، تشمل البنية التحتية، خاصَّةً السكك الحديدية والموانئ، كتشابهار وغيره.
  2. إيجاد آلية خاصَّة للتبادُلات المصرفية المباشرة بين البلدين باليوان الصيني، وتسهيل عمل التُجّار بين البلدين.
  3. إمكانية بناء مستودعات نفط إيرانية على الأراضي الصينية للتخزين وحتّى إعادة التصدير، دون الحاجة لدفع ضرائب.
  4. تعاون استخباراتي، وتطوير البنية التحتية للمعلومات، وبناء شبكات الجيل الخامس.
  5. العمل على جعل إيران المحطَّة الأساسية لطريق الحرير التجاري في الشرق الأوسط، بدلًا من المرور بالجزيرة العربية.
  6. التعاون مع روسيا لربط بحر عُمان والخليج العربي بشمال أوروبا عبر أذربيجان وروسيا، وساحل جنوب إيران ببحر البلطيق.
  7. مدّ أنابيب غاز ونفط من جنوب إيران إلى البحر المتوسِّط عبر العراق وسوريا ولبنان، تتصل بميناءي بانياس السوري وطرابلس اللبناني.
  8. تطوير التعاون العسكري والدفاعي والأمني ​​في مجالات التدريب والبحث والصناعة الدفاعية، والتفاعُل في القضايا الإستراتيجية.

ثالثًا: نتائج وتداعيات الاتفاقية

لا شكَّ أنَّ هناك العديدَ من الآثار المُحتمَلة لتلك الاتفاقية على الصين وإيران والولايات المتحدة الأمريكية، والمنطقة برمّتها، سواءً على المدى القصير أو الأبعد، إذا ما ثبُتت جدِّية الصين في التنفيذ والالتزام ببنود الاتفاقية، ويمكن رصدُ بعضها على النحو التالي:

1. مكاسب الصين

يحقِّق الاتفاق إذا ما تأكَّد تنفيذُه عدَّة مكاسب للصين بلا شكّ، من أهمّها الحصول على مزيدٍ من النفوذ الجيوسياسي في غرب ووسط آسيا، ولعب أدوارٍ سياسية أكبر في منطقة الشرق الأوسط، ومجابهة السياسات الأمريكية الهادفة لاحتواء الصين والحدّ من دورها العالمي المتنامي على المدى الأبعد. وذهب البعض لتشبيه التوجُّهات الصينية مؤخَّرًا بحربٍ باردة، بالإضافة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية جديدة مهمَّة، ضمن إستراتيجية الصعود ومشاريع النفوذ الاقتصادي التي تتبنّاها الصين.

من جهةٍ أُخرى، تفتحُ الاتفاقية أسواقًا جديدة لبكين، سواءً في إيران أو في جوارها، وتمنحها دفعةً نحو تحقيق المشاريع المشتركة؛ بما يؤدِّي إلى النفاذ بمنتجاتها إلى أسواق وسط آسيا، والوصول بشكلٍ أسرع لأوروبا، وذلك بعد تجهيز الصين للبُنية التحتية الإيرانية لتكون محطَّةً رئيسية في مشروعها الأكبر طريق الحرير أو «الحزام والطريق».

ولا يخلو الأمر من تقليل تأثير المخاطر الجيوسياسية على اقتصادها، بتنويع مصادر الحصول على النفط من الشرق الأوسط، الذي يُلبِّي قرابة 60% من احتياجاتها النفطية، بل وضمان الحصول على إمداداتٍ ثابتة ومخفَّضة من النفط والبتروكيماويات، وحتَّى تقليل تكاليف شحنها، إذا ما خزَّنتها إيران في الأراضي الصينية.

2. مكاسب إيران

لعلَّ أهمَّ أثرٍ للاتفاقية بالنسبة لإيران على المدى القريب، هو الحصول على حليفٍ مؤثِّر على الساحة الدولية، ومن ثمَّ تحقيق توازُن في مواجهة الجهود الأمريكية، التي تستهدفُ إبقاءَ إيران معزولة، وكذلك كسب تأييد الصين كأحد أطراف الاتفاق النووي، وحثّ الجانب الأمريكي على تسريع عملية المفاوضات الخاصَّة بالاتفاق النووي؛ لرفع العقوبات عن اقتصادها المُنهَك.

وعلى الجانب الاقتصادي، تحتاجُ إيران بقوَّة إلى دعم الصين، لا سيما أنَّ الصين خلال السنوات العشر الماضية تُعتبَر الشريكَ التجاري الأوَّل لطهران، وازدادت هذه الشراكة عُمقًا في أوقات العقوبات الدولية على إيران، لذا وصفها وزيرُ الخارجية محمد جواد ظريف بالصديقة في الأوقات الصعبة، كما سبقت الإشارة، ولبَّت الصين وحدها في عام 2020م ما يزيدُ عن رُبع الواردات الإيرانية من العالم، وفي حال إيجاد آلياتٍ خاصَّة للتبادُل المالي، سيزدادُ الاعتماد الإيراني على الصين أكثر وأكثر.

وإذا ما كانت الصين جادَّةً في التزاماتها مع إيران، ستجني إيران ثمارًا اقتصادية وسياسية وعسكرية مهمَّة على المدى القصير والطويل، مثل:

أ. استمرار وتعزيز التجارة البينية بين البلدين، والتي تراجعت من 52 مليار دولار في عام 2014م، إلى حوالي 20 مليار دولار خلال العام المالي الإيراني 2020/2021م. ومع هذا التراجُع -بسبب العقوبات بالأساس وتراجُع أسعار النفط- لا تزال الصين الشريكَ الأهمّ والأكبر لإيران، حيث تستوعب 26% من إجمالي صادرات إيران للعالم خلال نفس الفترة الزمنية المذكورة، وكان النفط والبتروكيماويات على رأس قائمة الصادرات؛ ما يضمنُ لإيران سوقًا مستدامًا لتفريغ تلك المنتجات.

ب. تطويرٌ طويل المفعول للبُنى التحتية سيضمن لإيران لعبَ دورٍ مهمّ في التجارة الإقليمية لفترة من الزمن، بعد تطوير ميناء تشابهار، وربطِه بالسّكك الحديدية الواصلة لدولٍ مجاورة كأفغانستان وغيرها من دول وسط آسيا، ويشجِّع قدوم الاستثمارات الدولية، حال ما رُفِعت العقوبات الأمريكية عن إيران.

ج. زيادة دور إيران في التجارة الدولية «الترانزيت»، بعد انضمامها لطريق الحرير، وتنفيذ مخطَّطات إنشاء ممرّات دولية لتمرير البضائع من الهند والصين ودولٍ آسيوية إلى أوروبا، عبر موانئها على الخليج العربي مرورًا بإيران وأذربيجان وروسيا انتهاءً بشرق أوروبا عبر قطارات سريعة. لذا سارع سفيرُ إيران في موسكو باستغلال أزمة السفينة الجانحة بقناة السويس؛ للترويج للاستثمار فيما أُطلِق عليه ممرّ «شمال-جنوب» كبديلٍ أقصرَ وأقلَّ كُلفة، ورغم ذلك لم تتأكَّد جدوى هذا الممرّ إلى الآن، مقارنةً بقناة السويس المصرية.

 د. تعزيز القُدرات العسكرية النوعية لطهران بتعاونها الأمني والاستخباراتي والدفاعي مع قوَّةٍ كُبرى كالصين، وبالتالي حصولها على السلاح الصيني الممكن استخدامُه لدعم أذرُعها في المنطقة، سواءً في اليمن أو سوريا أو لبنان أو العراق؛ ما يعني تقويةَ شوكةِ إيران على حساب بقيّةِ دولِ المنطقة.

3. التأثير على مواقف الولايات المتحدة

من الواضح أنَّ توقيعَ الاتفاقية بين إيران والصين، له صِلةٌ مباشرة بصراعِهِما الحالي مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وردّ فعلٍ على توجُّهاته العدائية تجاه كُلٍّ من بكين وطهران، ومن ثمَّ فإنَّ هذا التحالُف الأخير بين بكين وطهران يمثِّل تحدِّيًا لإدارة بايدن، في الوقت الذي تسعى فيه الأخيرة إلى حشد الحُلفاء ضدّ الصين. فتعليقًا على المعاهدة وتنامي الشراكة بين الصين وإيران، قال بايدن: إنَّها «تُقلقُني منذ سنوات»، فالاتفاقية تمنحُ الطرفين فُرصةً لمواجهة الضغوط الأمريكية وتُربِكُ حسابات بايدن وتحرُّكاته على الساحة الدولية، لهذا وصفها وزيرُ الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنَّها «أعظم اختبار جيوسياسي في العالم»، كما أنَّها تقوِّض النفوذ والمكانة الأمريكية المُهتزَّة عالميًا في الأساس على المنطقة عامَّةً وعلى إيران خاصَّة، قَبل المفاوضات المُنتظَرة معها.

لذلك قد يُسرِّع توقيع الاتفاقية من تسوية الخلافات مع إيران حول الاتفاق النووي، على الرغم من انشغال إدارة بايدن بملفّات داخلية ومواجهة تداعيات «كورونا»، ورُبّما هناك احتمالٌ مقابل بأن تُحفِّز مثل تلك الاتفاقية إدارةَ بايدن على البحث عن أساليب جديدة؛ لتعزيز نفوذها السياسي المتراجع عالميًا، وتأكيد سيطرتها على الاقتصاد العالمي، قبل أن تخسرَه لصالح الصين.

4. التأثير على دول المنطقة

تأثيرات الاتفاق الصيني-الإيراني ستطالُ منطقةَ الشرق الأوسط، وبالأخصّ دولَ الخليج وبعضَ الدول العربية، على مستوياتٍ اقتصادية وسياسية وأمنية.

فمن ناحية، قد تؤثِّر بعض بنود الاتفاقية على الأدوار التجارية لدول المنطقة، كالبند الخاصّ بجعل إيران المحطَّةَ الأساسية لمرور طريقِ الحرير بدلًا عن الجزيرة العربية، التي كانت إحدى المحطَّات الرئيسية قديمًا في هذا الطريق، ومنافسة الممرَّات التجارية التي تروِّج لها إيران حاليًا لممرّاتٍ وموانئ عربية قائمة على الخليج العربي أو على البحر الأحمر، إذا ما ثبُتت جدواها اقتصاديًا.

من ناحيةٍ أُخرى، يُشكِّل التعاونُ العسكري الصيني-الإيراني تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار دولِ الخليج ودولٍ عربية؛ كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، بل إنَّه قد يُحدِث خللًا في ميزان القوَّة العسكري؛ الأمر الذي يُهدِّد أمنَ واستقرارَ المنطقة بأسرِها، خاصَّةً إذا تسرَّب السلاح الصيني للميليشيات الإيرانية بالخارج. ليس هذا وحسب، بل رُبّما يمتدّ الأمر لتهديد الأمن والسِّلم الدوليين، إذا ما وصل التعاونُ الصيني-الإيراني لمجالاتِ الأبحاثِ النووية، كما تذهبُ بعض البنودِ المسرَّبة عن الاتفاقية.

رابعًا: التحدِّيات

على الرغم من كُلّ الآثار المهمَّة التي سبَق ذكرُها، سواءً لإيران أو للصين أو النظام العالمي برمّته، وكذلك التداعيات الخطيرة على المنطقة، إلّا أنَّه لا تُوجد تأكيداتٌ حول مدى التزام الطرفين بتحقيقها وفق جداولَ زمنية، ناهيك عن حقيقة حجمها، أو وجود بنودٍ محدَّدة وأهدافٍ قابلة للقياس، ودرجة تأثُّر تنفيذها بالعقوبات الأمريكية؛ ما يضعنا أمام احتمالٍ مرتفع بأنَّ يكون المتحقِّق الفعلي منها أقلُّ بكثير من المُنتظَر؛ وذلك نظرًا لأنَّ كثيرًا من البنود المسرَّبة تدخل ضمن توجُّهات الصين العامَّة تجاه المنطقة برمّتها، وليس تجاه إيران بعينها، وأنَّ الصين تحاول إدراجَ أو إلحاقَ إيران بهذا التوجُّه.

فعلى سبيل التوضيح، نجدُ استثمارات الصين بإيران في الفترة من 2010 إلى 2020م بلغت 18.2 مليار دولار، وخلال الفترة نفسها، استثمرت الصين 30.6 مليار دولار في السعودية، و29.5 مليار دولار في الإمارات، أيّ أنَّ التوجُّهات الاستثمارية الصينية بالمنطقة موجودةٌ من الأساس، بينما لا تزالُ إيران متأخِّرة، وتحاولُ الصين إلحاقها بتوجُّهاتها العامَّة بالشرق الأوسط.

وعلى ضوء ذلك يمكن توضيح عددٍ من التحدِّيات، أهمّها:

1. الغموض

هناك حالةٌ من الغموض، والهالة المحيطة بالاتفاقية تبدو مُفتعَلة، ورُبّما يكون ذلك لإثارة الأهمِّية، أو رُبِما القلق والمخاوف، وأنَّها لا تتعدَّى مجرَّد مناورةٍ تهدف من ورائها كُلٌّ من إيران والصين إلى الضغط على الولايات المتحدة؛ لاكتساب أوراق ضغط في ملفّاتٍ خلافية كثيرة.

2. غياب عنصر «الإلزام» في الاتفاقية

فهي اتفاقيةٌ إطارية غير مُلزِمة للطرفين، ولن تمُرَّ على البرلمان الإيراني لإقرارها، أيّ أنَّ كُلَّ طرفٍ قادرٌ على إلغاء التزامه بها وقت انتفاء الحاجة لها، كما الحال وقت طرحها في 2016م، وكذلك لا تُوجَد لها أهدافٌ واضحة قابلة للقياس.

3. طبيعة النظام الإيراني

لدى إيران قلقٌ من الاتفاقيات المُلزِمة طويلة المدى، خاصَّةً الاقتصادية منها، لاعتباراتٍ وسوابق تاريخية مع بريطانيا وروسيا ما قَبل الثورة الإسلامية، ومخاوف مستمرَّة تتعلَّق بالسيادة والهيمنة الخارجية على المقدرات. فضلًا عن تنامي الاحتجاجات داخليًا على الاتفاقية بالوقت الراهن.

4. تأثير العقوبات الأمريكية

هذا التأثير على العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين وإيران، لا يزالُ ملموسًا، وحتّى في حال غياب هذا التأثير، لا تزالُ إيران في حاجةٍ إلى علاقاتٍ تجارية واستثمارية مع باقي دول العالم. أيّ أنَّ هناك حاجةً مُلحَّة وضرورية إلى رفع العقوبات الأمريكية عن الاقتصاد الإيراني، في أقربِ وقت.

5. المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة بين الصين ودول الخليج

لا يمكن إغفالُ حجم هذه المصالح، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية، التي تحوي أراضيها استثماراتٍ صينية أكبرَ ممّا لدى إيران، كما أنَّها أكبرُ مغذٍّ للصين بالنفط والمنتجات النفطية، ووقود نمو الاقتصاد الصيني فلا تستطيع بكين الاستغناء عنها، على الأقلّ على المدى القريب.

خامسًا: مستقبل الاتفاقية

على ضوء الفُرص والتحدِّيات التي تواجه تنفيذ الاتفاقية، يمكن القول إنَّ هناك عدَّة سيناريوهات مُحتمَلة، أوَّلها: احتمال تفعيل الاتفاق ودخوله حيِّز النفاذ، وثانيها: تجميد الاتفاق، وأخيرًا: الإبقاء على مستوى التعاون الراهن، الذي تراعي فيها الدولتين مكانتهُما وضغوط البيئتين الإقليمية والدولية.

1. سيناريو تفعيل الاتفاقية

يدعم ذلك الفشل في الوصول إلى أيّ صيغة للتفاهُم بين الولايات المتحدة وإيران للعودة للاتفاق النووي، والإحباط الإيراني من شروط إدارة بايدن، واستمرار العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وبالتالي تفاقُم الأزمة الاقتصادية؛ واستمرار هذا الوضع، سيدفع إيران إلى تفعيل الاتفاقية مع الصين، على أساس أنَّها ستُساعدها في الخروج من أزمتها.

كذلك تحتاج إيران إلى الصين لموازنة هذه الضغوط الأمريكية، وتحقيق توازُن داخل مجموعة 4+1، من أجل دعم موقفها التفاوُضي، وعرقلة أيّ مطالبَ غربية بشأن تعديل السلوك الإقليمي، والتفاوُض حول برنامج الصواريخ البالستية.

من جهة الصين، فإنَّ الانسحاب الأمريكي من المنطقة يُغريها من أجل تعزيز حضورها، وذلك في إطار إستراتيجية شدّ الأطراف، ونقل المواجهة بعيدًا عن حدودها المباشرة.

ولا يفوت التنويه إلى أهِّمية إيران جيو اقتصاديًا للصين، وذلك في إطار مشروع الحزام والطريق وإحياء طريق الحرير، وهي المشاريع المنافسة للمشروع الأمريكي بالمشاركة مع الهند؛ من أجل النفاذ إلى آسيا الوسطى وصولًا إلى أوروبا، كما تحتاج الصين إلى تأمين احتياجاتٍ إضافية وثابتة ورخيصة من الطاقة من خلال إيران.

 ومن ثمَّ فإنَّ الاتفاق يُعطي للطرفين ميزاتٍ جيوسياسية وفوائد اقتصادية مهمَّة، وهذا يُرجِّح الاتجاه نحو تفعيله في المستقبل، خصوصًا أنَّ إيران قد اكتشفت خطأ رهانها بالانفتاح على الغرب، وتريد أن تطمئِن الصين أنَّها لن تتخلَّى عن شراكتها، في حال أُعيد إحياءُ الاتفاق النووي.

إنَّ الدولتين لديهما طموحٌ من أجل تعزيز النفوذ والتأثير على المستويين الإقليمي والدولي، والاتفاق يُعطيهِما ميزاتٍ متبادلة في تحقيق ذلك، ومن ثمَّ فإنَّهما قد تكونان حريصتين على تفعيل الاتفاقية ودخولها حيِّز النفاذ.

2. المناورة بالاتفاقية

يدعم هذا السيناريو وجودَ معارضةٍ داخلية في إيران للاتفاقية، إذ أنَّها تتنافى مع واحدٍ من أهمّ مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية، وهو مبدأُ الاستقلالية، ورفض أيّ هيمنةٍ من قُوى خارجية، خصوصًا أنَّ الصين لديها سياسةٌ خارجيةٌ مثيرةٌ لقلقِ بعض الدول من جهةِ تغلغُلِها الاقتصادي ونفاذِها من خلال الاقتصاد؛ للحصول على تأثيرٍ سياسي على بعض الدول.

كذلك هناك قُوى اقتصادية داخلية كالحرس الثوري، لديها مخاوفُ من النفوذ الاقتصادي للقُوى الكُبرى كالصين؛ لأنَّ هذا سيكون على حساب حصَّتها في السوق الإيرانية، ومن ثمَّ فإنَّها قد تُعرقل هذا الاتفاق، ويتمتَّعُ الحرسُ بمكانةٍ سياسية واقتصادية مؤثِّرة، ونفاذٍ في مؤسَّسات صُنع القرار، وقد يتزايد هذا النفوذ السياسي في حال فوز أحد مرشَّحيه بالانتخابات الرئاسية القادمة.

كما أنَّ الاتفاقيةَ على الرغم من أهمِّيتها على الجانب الاقتصادي، غير أنَّ العقوبات الأمريكية لو بقِيت ستُفرِّغ الاتفاق من مضمونِه وتجعلُه معطَّلًا، وستظلّ سيفًا مُسلَّطًا على تنفيذ العديد من بنود الاتفاقية.

وفي ظلّ نظرةِ كُلٍّ من إيران والصين إلى الاتفاقية باعتبارها مناورةً من أجل الضغط على الولايات المتحدة، وليست عمليةً مستقلَّةً بذاتها، ومن ثمَّ فإنَّهما قد لا يتّجهان إلى تفعيل الاتفاقية، إذا حقَّقت المناورةُ هدفها؛ وقد أثبتت خبرةُ ما بعد الاتفاق النووي في 2015م، كيف أعطت إيران أولويةً للاستثمارات الأوروبية وحتّى الأمريكية (خاصَّةً في الصناعات المتقدِّمة كالطيران)، في الوقت نفسه الذي علَّقت فيه مناقشةَ هذه الاتفاقية منذ عام 2016م، وهو أمرٌ قابلٌ للتِّكرار خلال المرحلة القادمة، وتتحسَّب له الصين بلا شكّ.

3. سيناريو التفعيل الجزئي

يُعزِّز هذا السيناريو التنامي المطّرِد للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، ووجود تعاونٍ وثيق في عددٍ من المجالات الاقتصادية والتجارية، ويقدِّم الاتفاقُ في بعض جوانبه حوافزَ متبادلة وأهدافًا مشتركة، لا سيما على الجانب الاقتصادي والتجاري، لكن من الصعب أن يتمّ تنفيذُ البنود الخاصَّة بالتعاون الأمني والعسكري والإستراتيجي.

فالبلدان لديهما مصلحةٌ في التبادُلات النفطية، فإيران تُريد تنويعَ صادراتها في حال رُفِعَت العقوبات، والصين تُريد تأمينَ مصادرَ أكبر للطاقة، كما أنَّ لهما مصلحةً في استكمال الخُطط الخاصَّة بطُرُق التجارة؛ كطريق الحرير ومبادرة الحزام والطريق، لما لها من عوائد اقتصادية وجيوسياسية للبلدين. يُضاف إلى ذلك، أنَّ الصين تُدرك أنَّ اتّجاهها لتفعيل الاتفاقية بصورةٍ شاملة، يُشعل المواجهة مع الولايات المتحدة، لا سيما إذا اندفعت نحو خلق وجودٍ عسكري على الأراضي الإيرانية، لذا فإنَّها ووفقَ توجُّهاتها الخارجية القائمة على النفاذ من خلال الاقتصاد وتجنُّب المواجهة السياسية والعسكرية والمنافسة على قمَّة النظام الدولي، ستُركِّز على العلاقات القائمة، كما ستتجنَّب إغضابَ دولِ المنطقة، التي لديها معها علاقاتٌ مهمَّة اقتصادية وسياسية.

على ضوء ذلك، فإنَّ الدولتين ستكونان حريصتين على الأرجح على عدم توسيع مستوى شراكتهما بعد حدٍّ معين، لاعتباراتٍ داخلية وجيوسياسية، كما أنَّهما لن تعودا بالعلاقات للوراء، إذ لدى كُلٍّ منهما مصالحُ مشتركة يمكن تعزيزها؛ ما يضمنُ لهما مكاسبَ متبادلة دونَ تحمُّل تكلُفةٍ إضافية.

خلاصة

 يمكن القولُ إنَّ الولايات المتحدة رغم تقليل حضورها في المنطقة، غير أنَّها لا تزالُ هي القوَّةُ الأكثرُ تأثيرًا، وهي تأخذُ بحسبانها تحرُّكاتِ الصين وإيران، وقد يكون من المرجَّح أن يسبِقَ دخولَ الاتفاق حيِّزَ النفاذ اختبارٌ لردودِ الفعل، في هذه الحال قد يتمّ الاكتفاءُ بتحقيقِ أهدافِ البلدين في موازنةِ الضغوط الأمريكية، خاصَّةً مع غيابِ عنصُر الإلزامِ لدى الطرفين، أو تفعيلِ بعض جوانبها، في إطار تنامي العلاقات، لا سيما على الجوانب الاقتصادية والتجارية ومشاريع الطاقة وطُرُق التجارة.

لكن في كُلِّ الأحوال، تُعَدُّ هذه الاتفاقية خطوةً مهمَّة ضِمن خطواتِ الصين الهادِئة للعبِ أدوارٍ سياسية واقتصادية أكبر في الشرق الأوسط وفي العالم، لذا فمِن الأهمِّيةِ بمكان الاحتياطُ العربي المُبكِّر للتحدِّيات الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي قد يفرضُها مثل هذا التقارُب الصيني-الإيراني النوعي؛ نظرًا لخطورةِ الطموحاتِ الخارجية للنظامِ الإيراني -التي يُقرُّها الدستور- على أمنِ واستقرارِ وسلامةِ المنطقة، وحتّى العالم.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير