تتشبثُ الإدارة الأمريكية حتّى الآن بضرورة إحياء الاتفاق النووي، رغم ما يكتنفهُ من تبعات قد لا تصل بمنطقة الشرق الأوسط إلى ما يأملهُ شركاء الولايات المتحدة من استقرار أمنيٍ وسلام. وفي الوقت ذاته، تنتخب إيران رئيسًا مُدرجًا على لائحة عقوبات الولايات المتحدة من جرّاء الضلوع في جرائم تتعلق بمِلف حقوق الإنسان حسب معايير الولايات المتحدة، وعطفًا على تقديراتها الاستخباراتية والسياسية.
تحوم حول الرئيس الإيراني المنتخَب إبراهيم رئيسي، العديد من الشبهات والاتهامات، أبرزها عضويته في «لجنة الموت» المكونة من أربعة مسؤولين أجازوا في عام 1988م إعدام قرابة خمسة آلاف سجينٍ من المعارضين السياسيين -من اليسار السياسي وغيره من الأطياف الأخرى المناوئة لحكم ولاية الفقيه-تبعًا لفتوى الخميني، المرشد آنذاك، بتهمة انتمائهم إلى جماعة «مجاهدي خلق». جدير بالذكر أنَّ عمليَّات الإبادة التي تمَّت خلال فترة وجيزة لم تتجاوز الثلاثة أشهر، كان من ضمن ضحاياها أطفالٌ ونساء وشيوخ.
بالإضافة إلى ماسبق، فقد اضطلع رئيسي بأدوارٍ مؤثِّرة في أعمال القمع الممنهج الذي ألبسه السلكُ القضائي ثوبَ الشرعية وتصدَّت لتنفيذه الدولة العميقة لتُنزل بمتظاهري «الثورة الخضراء» عام 2009م أبشع أنواع القتل والتنكيل، فضلًا عن دوره كرئيس للسلطة القضائية في قمع متظاهري ثورة 2019م، وإصدار أحكام الإعدام بذرائع الفساد في الأرض والتخابر ضد الدولة الإيرانية، في حالاتٍ استدعت الإدانة والتنديد العالمي، كان آخرها إعدام الصحفي روح الله زم في محاكمة وُصفت بغير العادلة إذ ارتكزت على اعترافاتٍ منتزعة بالقوة.
وفي المقابل، تعتدُّ الولايات المتحدة بوصفها قوة عظمى -ومن خلفها الدول الأوروبية-بكونها «حامية لحقوق وحريات الإنسان»، ولطالما وجدت نفسها أمام اختباراتٍ متكررة لهذا الاعتداد المدعوم بالإعلام والرأي العام الأمريكي.
لاشكَّ أنَّ تضارب المصالح بين القوى العظمى هو الجوهر، أما الصراعات الإقليمية الأخرى فهي ثانوية في سُلم اهتمام الولايات المتحدة، إذ إنَّ تركيز إداراتها الثلاث الأخيرة انصبَّ على ما تخوضه هيمنتها العالمية من معتركات، ظاهرةً كانت أم خفية، بغية التصدي لاكتساح التنين الصيني للأسواق العالمية واحتواء طموحاته السياسية للحيلولة دون بسط نفوذه على إقليم شرق آسيا، علاوةً على مواجهة الند الروسي الذي ما فتئ يبتزُ الأطراف الغربية بمناوشاته السيبرانية ومناكفاته السياسية.
ومع فرضية التسليم بأولويات الإدارة الأمريكية يبقى التساؤل مشروعًا، ما إذا كان عليها أن تبرِّر التعاطي مع الرئيس الإيراني المنتخَب، رئيسي، والمدرج على لوائح عقوبات انتهاكات حقوق الإنسان، أم أنَّ إدارة جو بايدن ومن خلفها حكومات الحلفاء الأوروبيين مدركين لما يمكنُ أن يعتري توجهاتهم الخارجية من مغبات؟ مع الأخذ في الاعتبار المباحثات النووية الجارية في فيينا وعزم المتنفِّذين في إدارة بايدن العودة للاتفاق النووي، وإن استدعى ذلك رفع بعض العقوبات المفروضة على إيران، على حساب دعاوى مناصرة حقوق الإنسان والمُثُل الديمقراطية.
ما هو معلومٌ بالضرورة أنَّ الإدارة الأمريكية لا تتحرك من دون إستراتيجية براغماتية، وعليه فإنَّ لديها ما تنشده في نهاية مطاف التفاوض مع إيران، والدلائل تتضحُ في حِدَّة النبرة الأخيرة التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مهددًا بالانسحاب من المفاوضات بقوله: «إنَّ المحادثات لن تستمر إلى الأبد»، ومشيرًا في الوقت ذاته إلى أنَّ تحقيق الاختراق المرجو في المباحثات يقع على عاتق المرشد الإيراني علي خامنئي ليصل بجميع الأطراف إلى أرضية مشتركة، ولاسيَّما بعد انقضاء ست جولات متتالية من المفاوضات. وحسب التيار المؤيد لهذا الاتجاه، فإنَّ بايدن في غنىً عن التعاطي المباشر مع الرئيس المنتخَب، كون زمام أمر التفاوض ومآله عائدٌ إلى رأس الهرم في الدولة الإيرانية، المرشد علي خامنئي، ومسألة انتخاب رجل ذي أيديولوجية «أصولية» تابعة للدائرة المقربة من المرشد تصبُ في صالح المتفاوضين الغربيّين وتختصر عليهم الطريق بعد أن أرهقهم تناقض ما يلِّمح إليه المسؤول الدبلوماسي الإيراني وما يقوم به صانع القرار الفعلي في إيران.
خامنئي بلا ريب هو صاحب الكلمة الفصل في مسائل الاتفاق النووي والقضايا الخارجية الحرجة، غير أنَّ ما أثار التساؤل هو حرصه الفائق لضمان تسنُم رئيسي دون غيره كرسيَّ رئاسة السلطة التنفيذية. فقد مهد الطريق لرئيسي بأن أوكل إلى «مجلس صيانة الدستور» -الجهاز المخول برفض أو قبول أهلية المترشِّحين للانتخابات-، مُهمَّة تحييد وإبعاد كل الخصوم والمنافسين ما عدا بعض المرشَّحين غير المؤثِّرين.
قد نجد مسوغات معتبرة لتدخُل المرشد، أهمها: حاجته لمساعدٍ تنفيذي لا لشخصيةٍ مُستعصية على الانقياد، بالإضافة إلى ما يشاع من تكهنات بعزم خامنئي تجهيز رئيسي ليحمل لواء منصب المرشد من بعده. أما إستراتيجيًّا، فلقراره حظٌ من المثالب أهمها: تأجيج واحتقان الداخل الإيراني ودفعه للإضراب كما تبدَّى في قلة نِسَب الإقبال على التصويت التي لم تصل إلى 50% من مجمل الجديرين بالانتخاب، مع التنبه إلى كون 12.88% من نسبة المشاركة كانت مجرد أوراق بيضاء وتمَّ إلغاؤها.
وعلى ذات المنوال، لربما كان اختيار خامنئي لرئيسي يعود بالأساس لردع الغرب عن التفاوض حيال البرنامج الصاروخي الباليستي لإيران، مِمَّا يقوّض رؤية الإدارة الأمريكية وشركائها الأوربيين الذين هبوا لإحياء الاتفاق النووي بذريعة الحيلولة دون إقدام إيران على تطوير قنبلة نووية، رغم أنَّ تجاوز الحكومة الإيرانية لحاجز الـ20% من نِسَب تخصيب اليورانيوم، لم يأتِ إلا تبعًا لوصول الرئيس بايدن للحكم ولثقتها برغبته في التفاوض. على كل حال، فإنَّ التعاطي مع الرئيس المنتخَب رئيسي من شأنه أن يعقِّد على بايدن وحلفائه خُطط البناء على بنود الاتفاق النووي الموقَّع في عام 2015م، ويعرقل مساعي الإيفاء بوعودهم بأنَّ المباحثات النووية ستُفضي إلى تسوياتٍ تطيل أمد الاتفاق النووي وتعالج نقاط ضعفه السابقة سواء فيما يتعلق بإشكالية الصواريخ الباليستية الإيرانية أو الدعم الذي توليه إيران للميليشيات المزعزعة للاستقرار.
من جهةٍ أخرى، يُعاب على الأطراف الأوروبية عدم اكتراثها بالأمن الإقليمي المنعكس بالضرورة على أمنها قدر اهتمامها بتحصيل المكاسب الاقتصادية، أما الطرف الأمريكي فتركيزه منصبٌ على حسابات ردع الصين وتمكين الحلفاء الأطلسيين ضد المخاطر الروسية. كما أنَّ العامل الأبرز في سياق احتواء إيران يتصل بسياسة «التغيير من الداخل» وهي السياسة التي أثبتت فشلها في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما مِمَّا يجعل نجاحها في عهد بايدن محلّ شك.
من الصعوبة بمكان أن تجد أوروبا الطريق معبدًا أمام مساعيها المعتادة لتحسين الوضع الإنساني الداخلي في إيران، وهي عادةً ما تجنح إلى الضغط على الحكومة الإيرانية بفرض عقوبات اقتصادية عليها ردًّا على انتهاكات حقوق الإنسان، لكن الأمر يزداد سوءًا طالما أنَّ رأس السلطة التنفيذية ذاته مُتَّهم بالضلوع في عمليَّات القمع والقتل والتنكيل. وفي سياق موازٍ، ربما يصعبُ حلحلة أزمات المعتقلين في إيران من حاملي الجنسيات المزدوجة والذين تعتقد حكومات الدول الأوروبية بأنهم لم يحظوا بمحاكماتٍ عادلة، وفي حالات عديدة ترى أنهم يُرغَمون على الاعتراف بما لم يرتكبوه تحت وطأة التعذيب والاستجواب القسري.
إجمالًا، فإنَّ وصول «التيار المتشدد» إلى سدة الرئاسة، وهو المناوئ للغرب ويقود التكتلات المناهضة له، سيضعُ إيران في معسكر روسيا والصين على حساب التقارب مع الغرب. ومن هنا تتبدَّى دوافع الاهتمام الأمريكي والأوروبي بإحياء الاتفاق النووي، لكنَّ الرئاسة الإيرانية الجديدة والمنسجمة تمامًا مع الأدوار المزعزعة للاستقرار التي يقوم بها «الحرس الثوري» وجناحه الخارجي «فيلق القدس» في الإقليم، ستزيد من تعقيدات السياسية الخارجية للغرب تجاه تحركات إيران.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد