يقترب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان -وهو أشبه بتراجُعٍ متسرِّعٍ ومُحرِج- من مرحلته النهائية مع سيطرة «طالبان» على منطقةٍ تلو الأُخرى، حيث أنَّ مئاتٍ من جنود الجيش الوطني الأفغاني، إمّا استسلموا للميليشيات المتشددة أو هربوا ببساطة عبر الحدود الشمالية؛ فلا عجبَ إن أفضت الأوضاع إلى فراغٍ في السُلطة. وعلى عكس السياسات السابقة لإدارة ترامب، فإنَّ إدارة بايدن لم تتراجع بصورةٍ حاسمة عن قرار سحبِ القوّات الأمريكية المتبقِّية البالغ عددُها 7000 جندي من أفغانستان، وأجَّلتهُ لأسابيعَ قليلة فقط. ويعتقدُ بعض المحلِّلين أنَّ العاصمة الأفغانية كابول، قد تسقط في أيدي «طالبان» هذا العام، إذا لم يُقدَّم دعمٌ سياسيٌ وعسكري لحكومة الوحدة الوطنية والقوّات المسلَّحة في البلاد. وعلى الرغم من وجود قوّات «الناتو» المُفوَّضة من مجلس الأمن التابع للأُمم المتحدة على مدى عقدين من الزمن، فإنَّ الدولة التي مزَّقتها الحرب خاليةٌ من أيّ قُدرات لبناء مؤسساتها، وتفتقرُ إلى قُدرات الدفاع عن النفس. ولأوَّل مرَّة منذ وجودها، استولت «طالبان» على ممرّ «واخان» الإستراتيجي، الواقع على أعتاب حدود طاجيكستان والصين وباكستان، وتفكِّر الدول المجاورة الأُخرى لأفغانستان -إيران وتركمانستان وأوزبكستان- في اتّخاذ إجراءاتٍ استباقية لتأمين حدودها؛ من أجل التعامُل مع تدفُّق اللاجئين المُحتمَل.
يبدو أنَّ إيران مستعدَّةٌ لأن تكون صاحبةَ النفوذ المحوري في أفغانستان، بعد خروج خصمها من البلاد. وعلى الرغم من أنَّ طهران و«طالبان» كانتا على وشك الدخول في صراعٍ مباشر في عام 1998م، عندما قُتِل ثمانيةُ دبلوماسيين إيرانيين وموظَّفٌ حكوميٌ آخر في مزار شريف، إلّا أنَّ الوضع قد تغيَّر بسرعة، بعد أن بدأت الولايات المتحدة «عملية الحرية الدائمة»؛ وعلى إثرها، فرَّ أسامة بن لادن إلى إيران، كما فرَّت عائلتُه مع العديد من قادة القاعدة الرئيسيين. وفي نفس الوقت، تقاربت إيران وقيادة «طالبان» لوجود عدوٍ مشترك، وتلاقي أهدافهما الإستراتيجية، واستمرَّت هذه العلاقة دون انقطاعٍ منذ ذلك الحين، دون وقوع حادثِ خطفٍ أو اغتيالٍ غير مرغوبٍ فيه لمواطنين إيرانيين أو عناصر موالية لإيران في أفغانستان. وفي مايو 2016م، قُتل المُلّا أختر منصور، خليفة المُلّا عمر، في غارة بطائرة مسيَّرة أثناء عودته من إيران إلى باكستان، وعلى الرغم من علاقاتها مع الجناح العسكري لـ «طالبان»، كانت طهران أيضًا على اتّصالٍ مستمر مع مكتبها السياسي في الدوحة، ودعت أعضاء «طالبان» مرارًا إلى محادثات، في ظلّ جهودٍ باكستانية وأمريكية للتوصُّل إلى شروط اتفاق سلامٍ مُحتمَل مع الميليشيا. وفي 14 أبريل 2019م، عيَّنت إيران السفير إبراهيم طاهريان مبعوثًا خاصًّا لها إلى أفغانستان.
وفي 07 يوليو الحالي، أجرت إيران محادثاتٍ بين الأفغان في طهران مع شير محمد عباس ستانيكزاي، على رأس وفد «طالبان»، وترأس الجانب السياسي الأفغاني نائب الرئيس الأفغاني السابق يونس قانوني، وضمَّ محمد كريم خليلي زعيمُ حزب «الوحدة الإسلامي» وكبار مساعدي الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، ويُذكَر أنَّ الرئيس أشرف غني قد حضر المحادثات أيضًا.
وبصرف النظر عن المشاركة السياسية والإعلامية لإيران، فإنَّها لم تكُن قادرةً على تمكين الأقلِّية الشيعية في أفغانستان من المشاركة بشكلٍ جيِّد في حكومة كرزاي السابقة، ولا في حكومة غني الحالية. ومع ذلك، لديها أكثر من 10000 مقاتلٍ شيعيٍ مُدرَّب (لواء فاطميون)، الذين عاد الكثير منهم إلى أفغانستان بعد مشاركتهم في الحرب الأهلية السورية.
على مدى العقود الماضية، كانت أفغانستان ذات أهمِّيةٍ حيويةٍ قصوى لحاجتين أساسيتين، وهُما: المعدَّات العسكرية التكنولوجية المتقدِّمة، والحصول على الدولار الأمريكي. وتُعَدّ إيران العميلَ المفضَّل لـ «طالبان»، فيما يتعلَّق بأنظمة الأسلحة التي استولت عليها والمسروقة والمعطَّلة، وغالبًا ما تكون إيران في حاجةٍ ماسَّة إلى الأنظمة الفرعية المتطوِّرة، والتي يمكن استخدامُ بعضها في الصواريخ والطائرات المسيَّرة والقنابل، بينما يتم استخدامُ البعض الآخر منها لأغراضِ الهندسة العكسية، وإنتاج الأسلحة بكمِّياتٍ كبيرة.
وتُعَدّ أفغانستان خزّانًا ضخمًا للدولار الأمريكي، إذ يبلُغ حجم المبلغ الذي هرَّبته حاليًا حوالي 4 مليارات دولار، ومع عزم إدارة بايدن رفعَ العقوبات عن إيران، فمن المُحتمَل أيضًا أن يتضخَّمَ خطّ الإمداد للدولار الأمريكي من أفغانستان، وبصرف النظر عن التجارة غير المشروعة التي تصل إلى المليارات، فإنَّ التجارةَ الرسمية تصل إلى ملياري دولار سنويًا بين البلدين. ولقد نجحت إيران في إنشاء طريقٍ تجاريٍ بديل لأفغانستان، من خلال تطوير ميناء تشاهبار باستثماراتٍ هندية، بالإضافة إلى بناء خطّ سكَّة حديدٍ بطول 140 كيلومترًا من خواف في مقاطعة خراسان، إلى مدينة غوريان غرب أفغانستان في ديسمبر 2020م، والذي من المقرَّر أن يمتدّ إلى هرات. ولا تزال العديدُ من المدن الحدودية في أفغانستان، تعتمدُ على الكهرباء والسلع البترولية والمؤسَّسات التعليمية الإيرانية.
ولا يزال الاستثمارُ الإيراني متعدِّد الجوانب في أفغانستان، يُسبِّب لها معضلة. وتعتقدُ طهران أنَّ «طالبان» أصبحت أكثر براغماتيةً ونُضجًا؛ وبالتالي لن يكون سلوكهُم متهوِّرًا، كما كان قبلَ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وحتّى لو كانت «طالبان» ودِّية، فإنَّ نظرتها البراغماتية المتطوِّرة قد تعني أنَّه بإمكان الدول التي تريد تقويضَ المصالح الإقليمية لإيران والثورة الإيرانية، التقارب معها.
على المدى القريب، فإنَّ إيران ستُواصل المشاركةَ السياسية والدبلوماسية العلنية على المستويين الثُنائي والمتعدِّد الأطراف، بينما تستعدُّ لأسوأ سيناريو في أفغانستان. أمّا من وجهة نظر «طالبان»، فإنَّ إيران شريكٌ أفضل من باكستان المُنهَكة والمنطوية، التي ينصَبُّ اهتمامُها الأساسي بأفغانستان في التحقُّق من طموحات الهند. ومع سيطرتها على البلدات المجاورة، ستسعى «طالبان» إلى تأمين ما تحتاجُه من أموال، عن طريق تهريبِ البضائع والمخدّرات والأسلحة والبشر.
طوَّر قائدُ «فيلق القدس» إسماعيل قاآني خبرةً فريدةً من نوعها، فيما يتعلَّق بأفغانستان وباكستان، منذ الثمانينيات. لقد كان ينظُرُ إلى «طالبان» على أنَّها خصمُ إيران وصديقها على حدٍّ سواء، وخلال الثمانينيات، أنشأ قاآني كتيبة «أبي ذر» الشيعية من أفغانستان، التي حاربت في العراق.
إنَّ إيران متجذِّرةٌ بعمق في أفغانستان، لذلك ستدفعُ ثمنًا باهظًا إذا استمرَّت أفغانستان في دوامةِ العُنف المتهوِّر، أو إذا اتّخذت «طالبان» مسارًا أكثرَ استقلالية. ونظرًا لمعنوياته المنخفضة وضعف قُدرته على القتال في الحرب، فمستقبل الجيش الوطني الأفغاني بات معروفًا للجميع، ومن المتوقَّع أن يزدادَ اهتمامُ إيران بلواء «فاطميون»، بسبب مكانتِه الرادِعة والعملياتية القويَّة.