احتجاجات المياه في الأحواز: أزمات مستمرَّة ومعالجات غير ناجزة

https://rasanah-iiis.org/?p=25466

بدأت الاحتجاجات في إقليم الأحواز في منتصف يوليو 2021م، ولا تزال مستمرَّة حتّى لحظة إعداد تقدير الموقف هذا. وقد سبقت هذه الاحتجاجات موجةٌ واسعة من احتجاجات عُمَّال النِّفط المتعاقدين بدأت في 20 يونيو الماضي، وذلك في أكثر من 80 مركزًا نفطيًّا بمختلف محافظات إيران، وعمَّت احتجاجات أُخرى البلاد، وذلك على خلفية مطالب عماليَّة بزيادة الحدّ الأدنى للأجور، وعدم تأخير مستحقَّات العُمَّال، وتحسين بيئة العمل.

يُلقِي هذا التقدير الضوء على تطوُّرات هذه الاحتجاجات، والعوامل التي تقف خلفها، وسِماتها الرئيسة، وكيفية تعاطي النظام مع هذه الموجة من الاحتجاجات، وكذلك ردود الفعل الدوليَّة والإقليميَّة على الاحتجاجات، وأخيرًا مستقبل هذه الاحتجاجات.

أوَّلًا: ليست مجرَّد احتجاجات على نقص المياه

اتّسعت في الأحواز الاحتجاجات منذ منتصف يوليو، على خلفية أزمة شُحّ المياه التي يعاني منها هذه المحافظة، حيث إنَّ أكثر من 702 قريةٍ في الأحواز تعاني من مشكلات في المياه، وقد تسبَّب الجفاف وشُحّ المياه في الأشهر الأخيرة بمشاكل كثيرة لسُكَّان هذه المناطق من المزارعين والرُعاة، وأدَّى هذا إلى نفوق عددٍ كبيرٍ من المواشي.

شكل (1): المحافظات التي شهدت احتجاجات مؤيِّدة لاحتجاجات الأحواز

المصدر: https://bit.ly/3l5n6GS

حاولت السُلطة احتواء الاحتجاجات، سواءً من خلال الحوار أو القمع، مع محاولة معالجة الأسباب المباشرة للأزمة، غير أنَّ الاحتجاجات لا تزال مستمرَّة، بل اتّسع نطاقها، وذلك في مواجهة آلة القمع التي تواجه المتظاهرين. وتسبَّبت المواجهة في مقتل 9 أشخاص حتّى الآن، فضلًا عن مئات المصابين والمعتقلين، واتّخذت الاحتجاجات أبعادًا سياسية، حيث رفع المحتجُّون شعارات منها «الموت للديكتاتور»، في إشارة للمرشد خامنئي، و«هيهات منا الذلَّة»، و«كفى أيُّها الإيرانيون، أظهروا حميّتكم»، و«الإيراني يموت ولا يقبل الذُلّ»، وفي  مدن أُخرى كطهران وكرج، ردَّد المحتجُّون شعار «يا شاه إيران ارجع إلى إيران».

وقد نجح المتظاهرون في الحفاظ على زخم احتجاجاتهم، بالاعتماد على وسائل التواصُل الاجتماعي، وبثّ فيديوهات حيَّة للاحتجاجات، فضلًا عن توثيق قمع الأجهزة الأمنية وتعامُلها بقسوة مع المحتجِّين؛ الأمر الذي كان له مردوده في اتّساع نطاق الاحتجاجات في الأحواز وغيرها من المحافظات، فضلًا عن تشكيل موقف داخلي وآخر دولي ضدّ تصرُّفات السُلطات الإيرانية.

وقد شهدت الاحتجاجات تضامُنًا شعبيًّا، ظهرت ملامحه في اتّساع نطاق التظاهُرات خارج الأحواز، منها مظاهرات في مدينة تبريز في 24 يوليو، واحتجاجاتٍ مُمَاثلة في محافظات بوشهر وطهران وأصفهان ولرستان وكرمانشاه، وتمَّ اعتقال بعض المتظاهرين أو الذين دعوا للاحتجاجات، كما أعلن أكثر من 200 محامٍ عن تعاطُفهم ودعمهم للمحتجِّين في الأحواز، فضلًا عن إعراب عددٍ كبيرٍ من السينمائيين والُنشطاء الثقافيين واتّحاد الكُتَّاب الإيرانيين في إجراءات منفصلة عن تعاطُفهم مع أهالي الأحواز «المظلومين»، بما في ذلك نشر بيانيْن احتجاجيَّيْن والتجمع في دار الفنّانين، وطالبوا بحلﱟ سِلْمي لمشاكلهم، وقام عدد من النُشطاء المدنيين بالاحتجاج تضامُنًا مع الأحوازيين، وتمَّ اعتقالهم لعِدَّة ساعات، منهم الناشطة الحقوقية نرجس محمدي.

ولا تُعَد أزمة المياه في إيران مشكلة ظهرت مؤخَّرًا، أو أنَّها ترجع فقط إلى الجفاف وانخفاض هطول الأمطار وتغيُّر المناخ الناجم عن ظاهرة الاحتباس الحراري، بل كان سُوء إدارة مِلف المياه والإفراط في استخدامها في الصناعة والزراعة وسياسات التنمية العشوائية في هذه القطاعات، عاملًا أكثر أهمِّية وجِدِّية في إحداث هذه المشكلة.

على مدى أربعة عقود، لم تُعطِ السُلطات العناية الكافية للبيئة، حيث أدَّت التنمية غير المُستدامة، والاهتمام فقط بالفوائد قصيرة المدى، إلى تدهوُر البيئة على نطاق واسع، وفُقدان الموارد الطبيعية مثل المياه. وقد حذَّر الباحثون في هذا المجال من هذه السياسات، وتهديدها لأمن إيران المائي والغذائي والأمن الاجتماعي والسياسي، وكان اعتقال السُلطات لعُلماء البيئة مؤشِّرًا على نمط تعامُل السُلطات مع هذا المِلف.

بدلًا عن التدبير والتخطيط السليم، كان إسناد مِلف المياه للحرس الثوري في إنشاء السدود بكثافة على مجاري الأنهار دون دراسة علمية وافيه، سببًا في اندلاع الأزمة. ويفيد بذلك حديث نائب رئيس البرلمان السابق علي مطهري، بقوله إنَّ جزءًا من المشكلة في الأحواز اليوم هو الموقع الخطأ لسدّ غتوند، ودعوته لاستخدام أفضل الخُبراء، الإيرانيين وغير الإيرانيين، في تنفيذ مشاريع التنمية.

تتحمَّل حكومة روحاني نصيبها من الأزمة الحاليَّة، فَمع اندلاع الاحتجاجات على انقطاع الكهرباء في عددٍ كبيرٍ من المدن الإيرانية خلال يوليو 2021م، اتّجهت السُلطة إلى سدّ الفجوة في العجز بالكهرباء البالغ 10 آلاف ميغاواط، من خلال زيادة معدَّلات تدفُّق المياه من السدود لزيادة إنتاج الطاقة الكهرومائية، وبعض هذه السدود يلعب دورًا هامًّا في تأمين المياه اللازمة للشُرب ولقطاعات الزراعة وتربية الماشية والهور العظيم، وقد نوَّه الخُبراء في حينه إلى أنَّ ذلك سيؤدِّي لتفاقُم مشكلات المياه في البلاد، خلال شهر سبتمبر المقبل والنصف الأول من الخريف؛ ما يعنى أنَّ الأزمة ستظلَّ مستمرَّة، وسيتم تصديرها لحكومة رئيسي الجديدة.

وعلى الرغم من أنَّ نقص المياه كان ولا يزال محفِّزًا قويًّا للاحتجاجات التي تشهدها الأحواز على مدى الأيام الماضية، لكن هناك واقعٌ أكثر تعقيدًا يقف خلف هذا الغضب المتنامي في هذه المناطق، يتعلَّق بسياسات التهميش وعدم المساواة التي يعاني منها الإقليم، على الرغم من أنَّه يُعَد أغنى أقاليم إيران وأكثرها تنوُّعا في الموارد الطبيعية؛ فعلى سبيل المثال، يُعَدُ الإقليم أغنى مناطق إيران بالموارد المائية، حيث يضُمّ خمسة أنهار كبيرة تشكِّل أكثر من ثُلث المياه الجارية في إيران، منها أنهار كارون والكرخة والجراحي، ومِن ثمَّ يُفترَض أنَّه مصدر أساسٌ لمياه الشرب والري لكامل إيران، وليس لسُكَّان الإقليم فقط.

مع ذلك، تتملَّص الحكومة من مسؤوليتها، وتعُد أزمة المياه في الأحواز نتيجةَ سلسلة من الظواهر الطبيعية، ولا سيَّما الجفاف هذا العام، فضلًا عن تداعيات الإجراءات القسرية المرتبطة بالعقوبات الأمريكية، والتي منعت نقل التكنولوجيا والاستثمار في قطاع المياه بالأحواز، وهي ادّعاءاتٌ لا تصمُد أمام الوقائع.

كما يُعَدُ الإقليم هو أصل إنتاج صادرات الطاقة في إيران، فهو يشكِّل حوالي 87% من إنتاج النِّفط في البلاد، و90% من إنتاج الغاز، و74% من إنتاج الكهرباء عبر السدود والمصادر الطبيعية، بالإضافة لذلك تشكِّل أرض الإقليم احتياطي النِّفط والغاز الأساسي للبلاد، أي إنَّها أهمَّ مخزن نفطي للبلاد، ومع ذلك فإنَّ الإقليم هو الأكثر فقرًا وتهميشًا على المستوى الاقتصادي وإقصاءً على المستوى السياسي.

حالة الغضب إذًا لها صِلة وثيقة بالسياسات المُمنهَجة، التي تتّبعها السُلطة ضدّ الأقلِّية العِرقية العربية في إيران، وقد طالت سياسات التمييز ضدّ العرب مسألة المياه ذاتها، فالإقليم الذي تقطنه أغلبية عربية يعاني من نقص المياه بشكلٍ غير متناسب؛ بسبب تحويل نهر كارون إلى محافظات كرمان ويزد وأصفهان التي تفتقر إلى المياه. ووَفقًا للخُبراء، لم يتم تحويل مياه نهر كارون لمجرَّد الشُرب، لكن بشكل أساسي للأغراض الصناعية، وكانت هذه المحافظات المركزية الثلاث أيضًا الوجهة الرئيسة للاستثمارات الصناعية الإيرانية، بما في ذلك صناعات السيّارات والصُلب. تلك الاستثمارات زادت من حاجة المحافظات للمياه، وكان ذلك على حساب الأحواز، وليس من قبيل المصادفة أنَّ المحافظات التي تستفيد من تحويل المياه والاستثمارات الصناعية، هي في الغالب مقاطعات مأهولة بالسُكَّان ذوو الأصل الفارسي (كرمان ويزد وأصفهان).

إنَّ معدَّل البطالة الحقيقي في معظم مناطق إقليم الأحواز يتراوح بين 45-50%، ويفتقر الإقليم إلى الخدمات الأساسية وضعف البنية التحتية، ولا يستفيد سُكَّان الإقليم بصورة أساسية من فُرص العمل التي توفِّرها صناعة النِّفط والغاز وصناعة البتروكيماويات، بل يعتمد مُعظم سُكَّان الإقليم على الزراعة والثروة الحيوانية، وهذه عوامل محفِّزة للغضب الكامن خلف الاحتجاجات. وفي الأخير، تركت أزمة المياه سُكَّان الإقليم بلا بدائل، ويرى بعض الخُبراء أنَّ هذه السياسات مقصودة؛ بغرض دفع سُكَّان هذه المناطق إلى الهجرة وإحلالهم بسُكَّان من أُصول فارسية ولورية أكثر ولاءً للدولة وللنظام. ولا شكَّ أن هذا التمييز والتهميش والإقصاء له دور في تطوُّرات الأزمة بالأحواز، خلال هذه الموجة من الاحتجاجات.

وبالمُجمَل، يمكن القول: إنَّ السِمات الأساسية لاحتجاجات الأحواز تتمثَّل في استمرار اتّساع جغرافيا الاحتجاج يومًا بعد يوم، والدور الكبير للشباب في قيادة هذا الحراك، فضلًا عن الدعم غير المسبوق الذي يلقاه المحتجُّون في الأحواز من مختلف مكوِّنات الشعب الإيراني، وفشل رهان النظام الإيراني على إعطاء الحراك الأحوازي طابعًا عِرقيًّا وانفصاليًّا.

ثانيًا: مزيج من القمع والسياسة لاحتواء الأزمة

تَمَظهر تعامُل السُلطات الإيرانية مع موجة الاحتجاجات الحاليَّة وفق اتّجاهين رئيسيْن؛ مختلفين في الوسائل والأدوات، ومتّفقين على هدف واحد، وهو إخماد هذه الاحتجاجات مبكِّرًا وعدم اتّساع نطاقها.

1.التعامل الأمني: لطالما تعاملت السُلطات الإيرانية عبر السنين مع موجات الاحتجاجات، التي تشهدها مختلف المناطق والمدن الإيرانية من حين إلى آخر عبر اتّباع عددٍ من الإجراءات الأمنية والعسكرية لإنهاء الاحتجاجات المتزايدة، والتي تعُدُها تهديدًا خطيرًا لمستقبل النظام الإيراني. وتتمثَّل أهم الآليات الأمنية لمواجهة الاحتجاجات الحالية من جانب السُلطات الإيرانية، في التالي:

أ. استخدام القوَّة القمعية والحضور المكثَّف لقوّات الأمن ووحدات الحرس الثوري وكذلك ميليشيات «البسيج»، في التعامُل مع الاحتجاجات والتصدِّي للمحتجِّين عبر الذخيرة الحيَّة، وكذلك بتكثيف حملات الاعتقال والتهديد. وأسفر هذا الأسلوب القمعي من قِبل السُلطات الأمنية في سقوط عددٍ من الضحايا واعتقال عددٍ من المتظاهرين.

ب. فرض طوق أمني على المدن الإيرانية التي شهدت احتجاجات، ولاسيَّما مدينة الأحواز، والتي تُعَدّ مسرحًا لانطلاق الشرارة الأولى لاحتجاجات المياه.  كما أنَّ زيارة قائد الحرس الثوري حسين سلامي لمركز المظاهرات في الأحواز، تعطي للمحتجِّين مؤشِّرًا بأنَّ النظام الإيراني سوف يستخدم أقصى درجات القمع، في حال استمرار الاحتجاجات، حيث لا يُوجَد أي مبرِّر آخر لزيارة قائد أعلى قوَّة عسكرية في النظام الإيراني لمركز الاحتجاجات، سوى تخويف المحتجِّين وإرسال رسالة بأنَّ النظام الإيراني سوف يواجه الاحتجاجات بأقصى قدر من القوَّة والقمع. إضافةً لذلك، حشد النظام الإيراني قوّات الأمن وقوّات مكافحة الشغب في الأحواز وعددًا من المدن الكبرى لمواجهة المتظاهرين، وقد أسفرت المواجهات بين قوات الأمن والمحتجِّين عن مصرع أحد أفراد الشرطة وجرح آخر بمدينة ماهشهر جنوب الأحواز.

ج. تجنيد الميليشيات التابعة لها والمنتشرة في عددٍ من الدول المجاورة؛ لسحق الاضطرابات الأحوازية، فاستقدمت السُلطات الإيرانية أكثر من 1500 عنصر من الميليشيات المواليَة لها في العراق والتابعة لميليشيات »الحشد الشعبي«؛ لمساندتها في قمع الاحتجاجات المندلعة على الأراضي الإيرانية.

د. تعطيل الإنترنت وأدوات «التواصُل الاجتماعي«؛ من أجلإبطاء تلقِّي المعلومات عن مراكز انتشار الاحتجاجات، والحدّ من قُدرة الجمهور على التعبير عن السخط السياسي أو التواصُل داخليًّا أو مع العالم الخارجي. وهو أسلوب ينتهجه النظام الإيراني عادةً في ُكّل مرَّة تشهد فيها البلاد مظاهرات احتجاجية واسعة.

هذا التعامُل الأمنيمع الاحتجاجات، قُوبِل برفض شديد من مُختلف مكوِّنات الشعب الإيراني من سياسيين ومثقَّفين وفنّانين ورياضيين، كما انتقد الرئيسان الأسبقان محمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد، في بيانيْن مختلفين، الإجراءات الأمنية وأساليب التعامُل القمعية مع احتجاجات الأحواز.

2. التعاطي السياسي من قِبَل النظام الإيراني: بالتزامُن مع تغليب البُعد الأمني في احتواء موجة الاحتجاجات المتسارعة، عَمدَ النظام الإيراني إلى اتّخاذ معالجاتٍ سريعة تهدفُ إلى امتصاص غضب المحتجِّين، سواءً عبر تقديم وعود بإجراء إصلاحات سريعة للأسباب المباشرة لاندلاع هذه الأزمة، أو عبر تقاذُف الاتّهامات بالتقصير وسوء الإدارة بين التيّارات السياسية المختلفة، أو عبر توجيه أصابع الاتّهام بتدخُّل أطراف خارجية في تحريك هذه الاحتجاجات واستغلالها لأسبابٍ سياسية.

  • محاولات التهدئة وامتصاص الغضب من قِبل مسؤولي النظام الإيراني، والتي جاءت مغايرةً لأسلوبهم في التعاطي مع الاحتجاجات السابقة في إيران؛ فتصريحات المسؤولين وتغطية بعض الإعلام مالت إلى تغطيةِ الاحتجاجات بطريقة مُسيطَر عليها، بجانب إظهار التعاطُف مع المحتجِّين، بهدف احتواء غضبهم، وتقليص دائرة الاحتجاجات بشكلٍ أسرع.

بوادر محاولات امتصاص غضب المحتجِّين وتهدئتهم تجلَّت في تصريحات المرشد الأعلى  علي خامنئي، حين دافع عن حقّ المحتجِّين في أن يغضبوا ويخرجوا إلى الشوارع، ومطالبته الحكومة الإيرانية الجديدة بوضع أزمة هذا الإقليم على رأس سُلَّم أولوياتها. كما نأى خامنئي بنفسه عن دوره في الأزمة، عبر إلقاء اللوم على الحكومات، وذلك بالقول: إنَّ مشكلات الأحواز وشُحّ المياه سببها عدم الانصياع لتوصياته وتوجيهاته.

بجانب ذلك، أعلن الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني، تشكيل لجنة طوارئ إستراتيجية لبحث تداعيات الأزمة، وإطلاق وعود بمعالجات جدِّية بدأت بإرسال مسؤولين عسكريين وسياسيين لمعالجة أزمة المياه، كما أرسل روحاني نائبه الأوَّل إسحاق جهانغيري إلى الإقليم؛ للوقوف مباشرةً على أسباب الأزمة، ومحاولة خلق معالجات سريعة. بجانب ما ذُكِر، سعت الحكومة لاحتواء الاحتجاجات عبر التواصُل مع شيوخ القبائل ورموز المجتمع الأحوازي، حيث زار جهانغيري عددًا من شيوخ القبائل العربية في الأحواز، ووعد بتلبيَة مطالبهم مقابل المساهمة في خفض حدَّة الاحتجاجات، حيث أعلن عن فتح بوابات سدّ الكرخة لإعادة نسبة المياه إلى الأنهر. أمَّا الحرس الثوري فقد زوَّد عددًا من المناطق بـ 60 صهريجًا، وفيما يخُصّ السُلطة القضائية فقد أمر رئيسها بتجهيز المجال بأسرع ما يمكن للإفراج عن الأشخاص الذين وُضِعوا تحت الملاحظة خلال أحداث الأيام الأخيرة في هذه المحافظة بسبب الاحتجاجات الأخيرة. هذه التحرُّكات لم تكُن لتحدُث لو لم يشعر النظام الإيراني بمدى جدِّية التحدِّي، الذي بات يشكِّله هذا الحراك في بُعدَيْه السياسي وكذلك الحقوقي، واحتمالية توسُّع دائرته أكثر وأكثر، ولاسيَّما بعد التضامُن الذي أظهره الشارع الإيراني مع احتجاجات الأحواز.

وحول دلالات لجوء النظام للتهدئة، يمكن القول: إنَّها تعود لعِدَّة أسباب أهمَّها أنَّ سبب الاحتجاج مطلب مصيري وحياتي لا مجال للقمع في السيطرة عليه، كما أنَّه كاشف لمدى فشل النظام وتحديدًا الحرس الثوري، الذي تولَّى مسؤولية إنشاء مئات السدود في إيران دون دراسات علميَّة وافية، وتسبَّب في بعض الحالات في كوارث. كما يخشى النظام أن تلتحم حالة الغضب الراهنة على خلفية مطالب تتعلَّق بانقطاع الكهرباء وشُحّ المياه مع حالة الغضب السياسي، التي ظهرت في عدم المشاركة في الانتخابات؛ فتقود إلى احتجاجات واسعة على غرار احتجاجات 2009م. إنَّ النظام يريد من التهدئة وضع إطار محدَّد للاحتجاجات، بعدم اكتسابها مزيدًا من التسييس، وبالتالي يرغب النظام في ألّا تمتدَّ الاحتجاجات إلى حين تولِّي إبراهيم رئيسي السُلطة، وبالتالي تمهيد أجواء هادئة من أجل تمرير مشروعه وتنفيذ برنامجه، حيث ستؤدِّي الاحتجاجات إلى فرض قيود عليه في بداية ولايته، ومنح «الإصلاحيين» فُرصة للعودة للمشهد، واستغلال الاحتجاجات ضدّ رئيسي، كما سبق أن استغلّها المحافظون في إضعاف شعبية روحاني وإحباط برنامجه.

من جهة ثانية، فإنَّ النظام يستعدّ لمفاوضات مع الغرب والولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، ولا يرغب في اتّساع نطاق الاحتجاجات وتفاقُم الوضع الإنساني وتزايُد الضغوط، ومن ثمَّ منح الأطراف الأُخرى على طاولة المفاوضات ورقةً قويَّةً لمساومة النظام على مطالب تصرّ عليها الولايات المتحدة، فيما يتعلَّق بتعديل الاتفاق، وسلوك إيران الإقليمي، والبرنامج الصاروخي.

ب. اتّهامات بالعمالة والتخوين: رغم التظاهُر بالدفاع عن حقوق المحتجِّين، لكن يبدو أنَّ نظرية المؤامرة ستكون حاضرة على الدوام، بوصفها الوسيلة الوحيدة التي يلجأ إليها النظام للهروب من المأزق الحالي، والتغطية على فشله في تلبية متطلَّباتالمواطنين،حيث عُزِيت الأسباب الرئيسة لانتشار الاحتجاجات في مدن الأحواز، إلى وجود »أعداء« أجانب »إعلام منشَقّ« وكذلك وجود »جماعات انفصالية« مدفوعة من الخارج خلف هذه الاحتجاجات. كما أنَّ المرشد علي خامنئي الذي يُكثِر من ترديد كلمة «العدو« في خطاباته، لم يخرُج هو الآخر عن هذا السياق فألمَحَ إلى وجود أصابع خارجية تُفاقِم المشهد، وذلك بمطالبته للمتظاهرين بعدم إعطاء »أعداء إيران« ذريعة، بوصفِ »العدو« يسعى للاستفادة من هذه الاحتجاجات ضدّ البلاد والثورة الإسلامية وضدّ المصالح العامَّة للشعب الإيراني.  

ثالثًا: انتقادات دوليَّة خجولة وحسابات مرتبطة بمفاوضات فيينا

مع تصاعُد الاحتجاجات الإيرانية في الأحواز، ومنذ اليوم الثالث والعشرين من يوليو الجاري، أبدت منظَّمات دوليَّة حقوقيَّة ومنظَّمات غير حكومية تعاطُفها مع المتظاهرين، فقد أدانت المفوَّضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ميشال باشليت السُلطات الإيرانية، وطالبتها بالتركيز على اتّخاذ إجراءات مُعتبَرة لمعالجة معضلة نقص المياه في الأحواز، بدلًا من استخدام القوَّة المُفرِطة والاعتقالات واسعة النطاق لسحق الاحتجاجات وقمع المتظاهرين.

بدورها صرَّحت منظَّمة العفو الدوليَّة بأنَّ أعداد القتلى وصل إلى نحو ثمانية أشخاص، بمَن فيهم شاب لم يتجاوز سنّ المراهقة. ووَفقًا لجماعات حقوقية، فإنَّ إيران تستخدم القوَّة بإفراط ودون وجه حقّ؛ بُغيَة صدّ الاحتجاجات الشعبية وقمعها.

أعلنت منظمة «هيومن رايتس واتش» في بيانٍ لها، أنَّ القوات الإيرانية تعاطت مع المحتجِّين بقوَّة مُفرِطة، وحثَّت الحكومة على «التحقيق بشفافية» في حالات القمع والقتل المُشار إليها، بدلًا من التنكيل المستمرّ بالمتظاهرين.

وقد أبدت الولايات المتحدة موقفها الداعم للمحتجِّين الإيرانيين، حيث علَّق المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في الثاني والعشرين من يوليو 2021م على الاحتجاجات، بقوله «نحن ندعم حقّ الإيرانيين في التظاهُر السلمي والتعبير عن أنفسهم. يجب أن يتمتَّع الإيرانيون بهذه الحقوق دون خوف من العنف، ودون خوف من الاعتقال التعسفي من قِبَل قوّات الأمن». وفي اليوم التالي، أعادت نائبة المتحدِّث الرسمي جالينا بورتر التأكيد نفسه، مع إيضاحها لأمرين إضافيَّيْن؛ الأوَّل مراقبة الولايات المتحدة عن كثب لتقارير تُثبِت إطلاق قوّات الأمن الإيرانية للنار على المتظاهرين العُزَّل، وتقارير قطع الحكومة للإنترنت في المنطقة، أمَّا الثاني فيتعلَّق بردّ إدارة بايدن الاحتجاجات إلى سنواتٍ من التهميش الحكومي وسوء الإدارة للموارد المائية، والتي فاقمت الجفاف الشديد الذي تتعرَّض له إيران منذ 50 عامًا مضت.

وأخيراً أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في الثامن والعشرين من يوليو بيانًا رسميًّا بشأن الاحتجاجات في إيران، يُدين إطلاق النار من قِبل القوّات الإيرانية على المتظاهرين، ويُجِّرم استخدام العُنف، ويؤكِّد مراقبته للأحداث عن كثب، ولاسيَّما عمليَّات قطع الإنترنت ومنع المواطنين من الوصول إلى المعلومات إلكترونيًّا. وأردف البيان بأنَّ على الحكومة الإيرانية «السماح لمواطنيها بممارسة حقِّهم في حرِّية التعبير والوصول إلى المعلومات بحرِّية، بما في ذلك ما يكون عبر الإنترنت».

وعلى كل حال، فرادع الدول الغربية عن التطرُّق إلى ما يجري في الداخل الإيراني مردّه إلى عامليْن؛ الأوَّل: حساسية المُنعطَف الذي وصلت إليه المباحثات النووية في فيينا، وما أعقب ذلك من تأجيل طارئ تبعًا لفوز إبراهيم رئيسي بكرسي السُلطة التنفيذية في إيران، وإلّا فإنَّ الولايات المتحدة سبق أن أدرجت العديد من الأسماء، أبرزهم رئيسي ذاته على خلفية أداوره كرئيس للسُلطة القضائية في قمع تظاهُرات عام 2019م.

الأطراف الأوروبية أيضًا طالما ندَّدت بالانتهاكات الصارخة للقوَّات الأمنية الإيرانية ضدّ المحتجِّين، وفرضت عقوبات اقتصادية في هذا الإطار، كان آخرها إدراج قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي وسبعة من قادة ميليشيا البسيج والشرطة الإيرانية في لائحة العقوبات في أبريل الماضي؛ بسبب حملة القمع والاضطهاد التي نفَّذتها السُلطات في نوفمبر 2019م.

العامل الآخر يكمُن في اقتصار التظاهُرات حتّى اللحظة على مناطق معيَّنة، بخلاف الانتشار الواسع الذي آلت إليه تظاهُرات 2019م، والتي سيكون لها بالغ الأثر إن تكرَّرت، من جرّاء ما يعصف بالبلد من ظروف اقتصادية واجتماعية، وما يعتري نظامه السياسي من تآكُل في المشروعية؛ ومسؤولي الدولة الإيرانية يعُون تمامًا خطورة الموقف الراهن وتعقيداته المُحتمَلة، ولاسيَّما إنْ اقترن بتأييد دولي في مرحلة شديدة الحساسية كالتي تعيشها إيران حاليًّا.

رابعاً: معالجات غير جذرية وأزمة مستمرَّة

لقد تعامل النظام الإيراني من منطلق أمني مع المحتجِّين على أزمة المياه في الأحواز، لكن بعد حملات التعاطُف التي لقيها سُكَّان الأحواز من قِبَل عدد كبير من سُكَّان المحافظات الإيرانية المختلفة، اضطرَّ النظام للبحث عن معالجات سريعة لأسباب اندلاع هذا الحراك، بإطلاق وعود سياسية وتنموية جديدة ومعالجات ميدانية. لكن يبدو أنَّ هذه المعالجات يُنظَر إليها على أنَّها مؤقَّتة، ولا تستهدف حلّ الأزمة من جذورها؛ ما يعني أنَّ هذه الاحتجاجات ستبقى مفتوحة على كُلّ الاحتمالات.

الدعم الكبير الذي لقِيه المحتجُّون في الأحواز، من مختلف المحافظات، هو الأوَّل من نوعه في تاريخ الاحتجاجات التي شهدتها هذه المنطقة، كما أنَّ الاحتجاجات الأخيرة كشفت أنَّ أزمة المياه في الأحواز ليست بسبب الجفاف فقط، بل إنَّ سياسات النظام في نقل مياه هذه المنطقة إلى محافظات أُخرى وبناء السدود علی الأنهار خلق مشكلة في تأمين المياه، كما كشفت عن قناعة الشارع الإيراني بوجود أزمة حقيقية، لا علاقة لها بالأهداف الانفصالية والقومية.

حاولت وسائل الإعلام التابعة للنظام الإيراني بثّ روح الفُرقة، عبر إعطاء الاحتجاجات بُعدًا عِرقيًّا، والادّعاء بأنَّ بعض المتظاهرين ردَّدوا شعارات انفصالية باللغة العربية، لكن خروج المسيرات المؤيِّدة لمطالب سُكَّان الأحواز كشفت أنَّ رهان النظام الإيراني على الورقة العِرقية لم يعُد مُجدِيًا.

شكَّل تدخُّل مختلف القُوى الاجتماعية والسياسية والفنّانين والرياضيين للتعبير عن تعاطُفهم مع المحتجِّين في الأحواز، نُقطة تحوُّل جديدة في مناهضة النظام الإيراني، وهو ما عبَّر عنه البعض بمرحلة التحوُّل الثوري ضدّ النظام.

يظهر قيام المحتجُّين بالتنديد ونعْت المرشد علي خامنئي بـ «الدكتاتور»، والتنديد بالنظام الإيراني عقب كُلّ مظاهرة خلال السنوات القليلة الماضية، اتّساع دائرة السخط الشعبي من النظام الإيراني؛ لارتباط الأزمات التي تشهدها إيران بسياسات النظام الخاطئة.

وأخيرًا، يمكن القول: إنَّ الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي سيستهلُّ ولايته الأولى بمواجهة حالة غضب كبيرة، وستكون سياساته على المحكّ، لكن لن يعدَم النظام القُدرة في السيطرة على موجة الاحتجاجات الراهنة، ولاسيَّما أنَّه سيواجه استحقاقات داخلية وخارجية مهمَّة، ومن صالحه تهدئة أيّ توتُّرات قد تعرقل خُططه فيما يتعلَّق بإعادة تأهيل النظام، واستعادة مكانة «المحافظين» التي تراجعت خلال السنوات الأخيرة. وكُلّ ذلك لا ينفي أنَّ هناك مشاكل لا يزال النظام غير قادر على معالجتها بصورة جذرية، تتسبَّب في اندلاع موجات متتالية من الاحتجاجات التي تنال من شرعية النظام وشرعية قيادته.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير