أفغانستان.. تحدِّيات الوضع الراهن مع «طالبان» ومحاولات تصحيح الصورة

https://rasanah-iiis.org/?p=25657

في خِضَّم الفوضى المستمِرَّة والمتصاعدة على مدار الساعة، من المستبعد أن يُسلَّم مطار كابول في الموعد المحدَّد؛ الموافق 31 أغسطس.

على الصعيد العسكري، أصبحت العمليات سلِسةً نسبيًا، بعد نشر واشنطن لــــ 7200 جندي أمريكي، لكن على الصعيد المدني، لا تزال هناك صعوبات لسببين رئيسيين:

أ. نقص الكادر الوظيفي لإتمام الوثائق، إذ غادر بعض موظَّفي السفارات إلى بلدانهم..

ب‌. العديد من الأفغان الذين عمِلوا لصالح دول أجنبية والذين يتوقون لمغادرة بلادهم خوفًا من الإعدامات، لا يملكون جوازات سفر؛ فلم يخطر على بالهم قط أن يمُرّ عليهم يومٌ كهذا.

أمَّا التحدي الآخر، فهو إحجام شركات الطيران عن العمل في مجال جوِّي عالي الخطورة، إلى جانب الفوضى العارمة التي نشبت في المطار، لاسيما مُدرَّجه .وتواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها تحدِّيًا آخر، يتمثَّل في إعادة ترتيب سير الطائرات المدنية عن طريق المقاولين وشركات الطيران، بينما تضاعِفُ من جهودها لتسريع استخراج الوثائق. والمطار غيرُ مُهيَّأ لاستيعاب وتسهيل سفر العديد من المتواجدين فيه ممن ينتظرون إقلاع رحلاتهم. خارج المطار، بدأت «طالبان» بفرض سيطرتها بإطلاقها الغاز المُسيل للدموع على الحشود، التي كانت تنتظر دخول المطار، أمام الحواجز التي أقامتها «طالبان» في الطُرُق المؤدِّية إليه، ولا تزال مشاهد البؤس مستمِرَّةً في المطار، حيث يتشبَّث الأفغان بكُلّ قطرة أمل متبقِّية لدخوله.  

من جانبٍ آخر، لم ترِد بعد أيّ أنباء عن أيّ محادثات بين «طالبان» والولايات المتحدة، حول مصير ملتمسي اللجوء غير القادرين على دخول المطار، ومن المُستبعَد أن ترغب القُوى الغربية في استقبال المزيد من اللاجئين؛ إذ تقود فرنسا حملة منع دخول اللاجئين الأفغانيين في الاتحاد الأوروبي، بينما لجأت الولايات المتحدة للاستعانة بمصادر خارجية في دول أوروبا الشرقية وأفريقيا، وأصبحت أخبار مأساة اللاجئين حديث الساعة في مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك ومجموعات الواتساب في أفغانستان) محطِّمةً لآمالهم، وسيستفيد على المدى القصير والطويل تُجّار البشر، الذين يعملون غالبًا في إيران -بتواطؤٍ مع الحرس الثوري الإيراني- من الاستجابة السياسية الباهتة للولايات المتحدة وحلفائها والبيروقراطية في استخراج المستندات في الوقت المناسب. ومنذ بداية الأزمة، أصدرت إيران تعليمات لــ «قوّات أمن الحدود» بمنع دخول الأفغان لأراضيها، ولا يزال هناك مصيرٌ قاتم ينتظر اللاجئين الأفغان؛ إذ شيَّدت تركيا جدارًا حدوديًا مع إيران؛ تحسُّبًا لموجة اللاجئين، لاسيما أنَّها ترى أنَّ ليس بمقدورها بعد الآن تحمُّل المزيد من تدفُّق اللاجئين بعد دخول ملايين السوريين إلى أراضيها منذ قرابة عقدٍ مضى.

ومن المتوقَّع أن تُعيِّن «طالبان» مسؤولين لشغل مناصب تنفيذية ووزارية مختلفة، لاسيما أنَّ الإعلان المنتظر -بفارغ الصبر- عن تشكيل الحكومة الأفغانية، سيُساعد الأفغان والعالم في تكوين صورةٍ أوضح عن المسار المستقبلي للحركة، ومن المتوقَّع أن يترأَّس الملا عبد الغني برادر الحكومة، إلى جانب ممثِّلين من الأحزاب التي تدور في نفس النسق الفكري، مثل «الحزب الإسلامي» بزعامة قلب الدين حكمتيار، لكن من المُستبعَد أن يتولَّى القائد الأعلى لـ «طالبان» منصبًا تنفيذيًا. إلى جانب ذلك، تُعَدُّ تسمية برادر أميرًا/رئيسًا لأفغانستان أمرًا مطمئنًا للولايات المتحدة وأعضاء الناتو ودول الخليج العربي وباكستان؛ نظرًا لدوره في محادثات السلام. وليس هناك شكّ في حقيقة أنَّ برادر قد سافر جوًّا إلى قندهار، بعد مفاوضات مكثَّفة مع المسؤولين الأمريكيين، بقيادة مبعوث بايدن الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد. ويُشير صعود برادر على رأس السُلطة في أفغانسان، إلى وجود قناة تواصُل مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو على أعلى مستوى، والتي قد تؤول بدورها في نهاية المطاف إلى التمهيد للاعتراف بالنظام، وبدأت حركة طالبان عملية الانخراط السياسي بعقد اجتماع مع الرئيس السابق حامد كرزاي ورئيس لجنة المصالحة الأفغانية عبدالله عبدالله، وقطعت هذه الاجتماعات جولتين، ويبدو أنَّها تسير بدرجة من الثقة.

وإذا وافقت الجهات السياسية المعنية الأُخرى على التمثيل الرمزي في الحكومة التي تقودها «طالبان»، فإنَّ القلق والتوتُّر داخل البلاد سينخفض إلى حدٍّ كبير، ويشير استعداد «طالبان» للتعامُل مع كرزاي وعبدالله، إلى أنَّ الرئيس السابق أشرف غني ومساعديه كانوا بمثابة الحواجز التي حالت دون التوصُّل إلى اتفاق، ولا يمكن استبعاد احتمال انهيار المفاوضات الجارية، بيْد أنَّ بقاء المبادرة نفسها علامةٌ مشجِّعة بحدِّ ذاتها.

بيْد أنَّ المشكلة التي لم يُتطرَّق إليها بعَد، هي منظور «طالبان» حول دستور أفغانستان الذي سنَّته الولايات المتحدة في المقام الأوَّل، كما تقِف «طالبان» حائرةً أمام الديمقراطية والعملية الانتخابية، وبما أنَّ «طالبان» تقدِّم نفسها على أنَّها نظامٌ معتدل بقيادة الملا برادر، فإنَّ احتمالات إحراز تقدُّم على المدى الطويل قائمةٌ بالفعل، ولا تُوجَد حلولٌ سهلة، حين يتعلَّق الأمر بتقاسُم السُلطة في أفغانستان، لاسيما أنَّ الديمقراطية لا تستميل الأطراف المعنية إلى ذلك الحدّ.

ومع ذلك، فإنَّ صعود برادر إلى منصب رئيس السُلطة التنفيذية واستمرار المفاوضات السياسية مع أصحاب المصلحة الآخرين، يزيد من فُرص الاعتراف بالنظام، فالصين ليست وحدها التي كانت في طليعة المُنحازين صراحةً إلى «طالبان»، بل سعى كبار قادتها أيضًا إلى التعاون مع روسيا وإيران والعراق وباكستان وبعض الدول الأفريقية والآسيوية، وقد منعت بكين بالفعل مواطنيها في أفغانستان من مغادرة البلاد، وتشارك الصين في مشاريع البُنية التحتية في البلاد، وفي استخراج المعادن أيضًا، وقد عرض قادة «طالبان» من جهتهم التعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فضلًا عن الهند.

وتواجه أفغانستان في الوقت الراهن تحدِّيًا خطيرًا على الصعيد المادِّي، إذ صرَّح صندوق النقد الدولي عن خفض نسبة القروض، التي كان من المقرَّر تقديمها في الأسبوع الأخير من أغسطس؛ بسبب الوضع غير المستقِرّ في البلاد، بينما جمَّدت الولايات المتحدة الحسابات الأفغانية؛ لممارسة الضغط خلال عملية الإجلاء، وخلال مرحلة تشكيل الحكومة. ويُذكَر أنَّ كابول -التي تملك احتياطات من النقد الأجنبي تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار- ستُعاني كثيرًا بسبب عدم قُدرتها على استخدام الدولار الأمريكي، والواقع أنَّ استعداد الصين وروسيا للعمل مع أفغانستان يوفِّران المتنفَّس الذي تحتاجُه البلاد، ولا تزال كافَّة نقاط التجارة الأفغانية مع البلدان المجاورة قيد العمل في الوقت الراهن، ولا يُوجَد نقصٌ في المواد الغذائية أو الموارد الحيوية مثل النفط.

وأخيرًا وليس آخِرًا، فإنَّ ظهور الرئيس المخلوع أشرف غني ونائبه الأوَّل أمرالله صالح على الساحة السياسية قد يشكِّل معوِّقات لحركة طالبان، وقد يشكِّل غني مصدر قلقٍ لهم في وسائل الإعلام الدولية، إلّا أنَّ صالح وأحمد مسعود لا يزالان مستقلِّيْن، كما تشكِّل ولاية بنجشير، مصدر قلقٍ آخر، مع احتمال نشوب حركات تمرُّد من داخلها. وتُعدّ بنجشير -معقل المقاومة ضدّ السوفييت و«طالبان»- محميةً بطبيعة جبالها العالية وممرَّاتها الضيِّقة، وتُعَدّ قُدراتها على خوض الحروب دفاعيةً إلى حدٍّ كبير، وكابول من جهتها غير مجهَّزة لشنّ هجوم جوِّي فعَّال على أرضٍ محاطة بجبالٍ كالقلاع، وقد نُقِل الكثير من معدَّات القوَّات الجوِّية الأفغانية بتأنٍ إلى أوزبكستان خلال الأيَّام العشرة الماضية، كما أنَّ معظم المعدَّات الجوِّية -باستثناء عددٍ قليل من المروحيات الجاهزة للعمل- الموجودة على الأراضي الأفغانية متوقِّفة بسبب مسائل فنِّية، هذا وهناك طائرتان مروحيتان غير حربيتين في بنجشير. وتسعى «طالبان» إلى ضمّ بنجشير، لكنَّها تفضَّل فرض ضغوط قبلية وسياسية، بدلًا من فتح جبهة قتال جديدة.  

يُذكَر أنَّ السياسيين وأُمراء الحرب المختبئين في بنجشير، لا يتمتَّعون بشعبية، باستثناء ابن الراحل أحمد شاه مسعود، ويمكن أن يؤدِّي الصراع حول بنجشير إلى انتفاضات مسلَّحة مماثلة في أجزاء أُخرى من البلاد أيضًا، والتي لن ترغب «طالبان» في الخوض فيها قبل تحقيق الاندماج الكلِّي، كما أنَّ دوستم، المارشال الأفغاني وأمير الحرب المدعوم من تركيا، مسنٌّ جدًّا، ولا يتمتَّع بالشعبية التي تخوِّله إلى تشكيل تحالُف من أجل تحدِّي «طالبان» عسكريًا أو سياسيًا.

وختامًا، تواجه «طالبان» تحدِّيًا يتمثَّل بضيق الوقت، ونقص القوَّة البشرية، وأزمة الهوية، إذا تمكَّنت من تشكيل حكومة في غضون الأيام القليلة المقبلة، بموافقة ضمنية من دول الجوار والغرب، يمكنها تخطِّي إشكاليات إدارة الحُكم. وقد واجهت «طالبان» عقبات غير متوقَّعة بمحاولتها تصحيح صورتها، والردّ على شكاوي العامَّة؛ بعدما أغلقت مواقعُ التواصُل الاجتماعي الكُبرى حساباتِ الحركة. وتعي «طالبان» أنَّ البلاد أصبحت متطوِّرةً بصورةٍ كبيرة، منذ أن سيطرت عليها في عام 1996م، من ناحية البُنية التحتية والمصادر ومنظور الوعي العام وغيرها. الصورة الناعمة التي تسعى الحركة لإيصالها قد تُلطِّخها أقدام جنود «طالبان»، الذين يحملون رؤيةً متشدِّدة عن الإسلام الذي فرضوه بالقوَّة في الفترة بين عامي 1996م و2001م.  

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير