كبقيَّة دول العالم، تتابع الدول العربية التطورات على الساحة الأفغانية عن كثب وتخشى أن تنزلق الأمور في هذه الدولة التي انتهكتها الحدود إلى حربٍ أهليَّة طاحنة كما حدث في نهايات القرن الماضي، ولا شكَّ أنَّ تجارب الماضي القريب بكل تفاصيله المُرة ليست ببعيدة عن المخاوف التي تخشاها دول المنطقة وعلى رأسها الدول العربية؛ ومِن هنا قد يتمُ فهم المواقف الرسميَّة المُعلنة لمعظم هذه الدول وبخاصَّة الخليجية منها، ما عدا دولة قطر التي تبدو داعمةً بقوة لحركة «طالبان».
أبرز مخاوف دول المنطقة تشكيلُ دولة أيديولوجية تعتمد على البُعد المتطرّف بكلّ أشكاله؛ وبالتالي تتحوّل إلى بؤرةٍ جديدة لاستقطاب المتطرفين ومِن ثَمَّ إعادة تصديرهم إلى العالم، كما حدث مع تجربة صعود تنظيم «القاعدة» وما تولّد عنه من جماعاتٍ متطرفة. لا يجبُ تجاهل حقيقة أنَّ إيران سهَّلت مرور عناصر «القاعدة» في أفغانستان الذين نفَّذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر وأنَّ هذا يشكل نقطةً جديرة بالاهتمام في تنامي العلاقات بين إيران و«طالبان» مستقبلًا.
كما أنَّ الصورة النمطية لـِ «طالبان» أيْ المتطرّفة تسيطر على المشهد رغم الوعود التي أطلقتها الحركة بعد سيطرتها على «طالبان». إنَّ سبب عدم أخذ هذه الوعود بجديَّة كبيرة هو استعادة تاريخ ما حصل في الدولة الجارة لأفغانستان، إيران بعد إسقاط النظام الشاهنشاهي هناك في عام 1979م حينها قدَّم روح الله الخميني وأتباعَهُ وعودًا وردية للداخل الإيراني ولدول الجوار ودعا النظام السياسي الجديد إلى التعاون والتآخي والوحدة الإسلامية لكن سرعان ما تملَّص من تلك الوعود وقدَّم وجهًا أيديولوجيًّا متطرّفًا للداخل والخارج. تعاني شعوب إيران والمنطقة والعالم تبعاته حتَّى الآن. وحاليًّا نشهد حالةً من الغزل الإيراني تجاه «طالبان» انعكس بجلاء في وسائل الإعلام الإيراني وتصريحات المسؤولين في طهران، رغم الترقّب الحذر لما ستؤول إليه التطورات المستقبليَّة في أفغانستان، وتقييمٌ لحظيّ ومتابعة دقيقة للإشارات التي تبعثُها الحركة بين الفينة والأخرى.
إنَّ هذه المخاوف ليست تخيليَّة بل مبنيَّةٌ على واقع ملموس يتمثَّلُ في العلاقة المتطورة جدًّا بين نظام الولي الفقيه وحركة «طالبان» على مدي العقدين الماضيَيْن والخدمات اللوجستية التي قدمتها طهران لقيادات «طالبان» واستضافة قيادات تنظيم «القاعدة» في طهران وفتح مكتبٍ سريٍّ لـِ «طالبان» في مدينة مشهد شرق إيران بالقرب من الحدود مع أفغانستان. يركّز كثيرٌ من المحلِّلين على النمط الكلاسيكي للعلاقة بين «طالبان» وإيران وأنَّ الاختلاف الأيديولوجي يجعل هذين الغريمين متنافرين في علاقتهما. هذا صحيحٌ خلال مرحلة ما قبل 2001م، لكن بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان؛ تغيرت طبيعة هذه العلاقة وتمَّ بناء جسورٍ قوية (وحتَّى إنْ اعتقد البعض أنَّها تمثلُ علاقة الضرورة أو المصالح)، فقد تجاوزت هذه العلاقة الدعم اللوجستي والاستخباراتي الإيراني لـِ «طالبان» إلى الحديث عن فتح مكتبٍ للجماعة في مدينة مشهد بالقرب من الحدود مع أفغانستان. كذلك تردُّدْ قادة الحركة على إيران بشكلٍ متواصل ولعلَّنا نتذكر الاستهداف الأمريكي للقيادي في «طالبان» ملا أختر منصور عبر طائرة مسيرة خلال عودته من إيران. المُتَتَبّع أيضًا للتصريحات الإيرانية في السنوات القليلة الماضية حول «طالبان» يلحظ حالةً من النغمة الناعمة تجاه الحركة، فعلى سبيل المثال: في مقابلةٍ تليفزيونية أجرتها قناة «طلوعTOLO» الأفغانية مع وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف سأل المذيع الضيف الإيراني عن موقف إيران من «طالبان» وأخذ ظريف يتحاشى الإجابة المباشرة وقال بعد ضغطٍ كبير من المذيع: إنَّ «طالبان» جزءٌ من الحلّ المستقبلي لأفغانستان وإن كانت قد ارتكبت عمليَّات إرهابية في السابق؛ فلا نستطيع حاليًّا وصفها بذلك حتَّى وإن كانت إيران تصنّفُها جماعةً إرهابية تبعًا لتصنيف الأمم المتحدة، وقد صرفنا النظر عن الانتقام منها جرّاء عمليَّاتها السابقة التي استهدفت 8 دبلوماسيّين إيرانيّين في أفغانستان.
تبقى الإشارة هنا إلى أنَّ الجيل الجديد من قيادات «طالبان» قد لا يحمل التعقيدات الأيديولوجية التي كان يحملها الآباء المؤسّسين، وهناك نظرةٌ براجماتية وأيضًا أهداف سياسية تؤثِّرُ كثيرًا على صناعة القرار في رأس هرم الحركة، وقد يتناسى قادة «طالبان» أنَّ إيران قد لعبت دورًا محوريًّا في سقوط دولتهم السابقة، لكن يعتمد توجه «طالبان» القادم في التعاطي مع إيران على طبيعة علاقتها مع بقيَّة اللاعبين وبخاصَّة أمريكا والصين.
في ظل هذه المعطيات، ما الذي ينبغي على دول المنطقة القيامُ به يكمُن في رسم إستراتيجية محكمَة تحوُل دون التحالف بين هاتين الأيديولوجيّتيْن من خلال تبنِّي سياسة تحوُل دون دفع حركة «طالبان» إلى الحضن الإيراني. يمكنُ لهذه الدول العمل على مصالحةٍ أفغانية-أفغانية ينبثقُ منها حكومةٌ وطنيَّة لا ترتهن إلى الأيديولوجيا الإقصائية وتراعي مصالح المواطن الأفغاني أوّلًا، ثُم علاقة متوازنة مع المنطقة. وتحاربُ التشكيلات الطائفية وتشكُّل الميليشيات المسلَّحة ذات الولاءات العابرة للحدود.
تبقى المعضلة الكبرى مُتمثِّلةً في أهداف الدول الكبرى تجاه أفغانستان وتحويلها مجدَّدًا لساحةٍ للصراعات وخدمة مصالحها الضيقة دون أي اعتبار لمصلحة المواطن الأفغاني الذي عاش لعقود في صراعات على أرضه لا ناقةَ له فيها ولا جمل.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد