مقدمة
أصدر مجمع عُلماء الدين المناضلين (مجمع روحانيون مبارز) في إيران، بيانًا عقِب اجتماع له عشيّة مطلع شهر محرَّم (10 أغسطس 2021م)، حثَّ فيه على «المحافظة على إرث آل البيت وحفظه من الخرافات، والمحافظة على أرواح الناس»، وطلب من «محبِّي آل البيت» أن يحافظوا على الموروث الشيعي من الخرافات، وألّا يسمحوا لمجموعة -إمّا عن طريق الجهل بحقائق المعارف القرآنية والأحاديث الصحيحة والمأثورة للمعصومين أو لغرض الاستغلال المادِّي للدين وعاشوراء- بإجبار الناس على أمور تشوِّه حقائق الإسلام والتشيُّع وإيران أمام أنظار شعوب العالم، وأن يعلنوا للناس بعيدًا عن التقيَة والغموض، أنَّ المحافظة على أرواح الناس أسمى من أيّ شيء مُستحَب.
واللافت في البيان، أنَّ الجماعة طالبت العُلماء و«محبِّي آل البيت»، «حمايةَ الطريق المستنير للنبي والأئمَّة».
ويُذكَر أنَّ مجمع عُلماء الدين المناضلين محسوب على الجناحِ الديني «الإصلاحي»، وليس محسوبًا على التيار الحوزوي التقليدي، بخلاف جمعية عُلماء الدين المجاهدين المحسوبة على «المحافظين».
وعند الإمعانِ في بيان المجمع، نجدُ أنَّه يرُدّ على اتّجاهين: الأوَّل، هو التيّار الطقوسي الشعائري، الذي «مَرْكَزَ» الشعائرَ الحسينية ووسَّع فيها، وشجَّع عليها؛ حتَّى خرجت عن العادات الموروثة، ليس فقط عن نصوص ومقولات المذهب، ويتزعَّم هذا الاتّجاه التيّار الشيرازي. وأراد البيان التذكير بمقصد حفظ النفس، الذي هو من الأُصول الكلِّية لمقاصد الشريعة، ذلك أنَّ «بعض النفوس تُزهَق أو تُجرَح وتتألَّم نتيجة الضرب بالسلاسل، والمشي على النار، والتطبير، ونحو ذلك من مُخترَعات، وأن يعلنوا للناس بعيدًا عن التقيّة والغموض، أنَّ المحافظة على أرواح الناس أسمى من أيّ شيء مُستحَبّ». وثاني الاتّجاهات التي يتوجَّه إليها البيان، هو التيّار المُقرَّب من النظام، ولا يُريد مواجهة تلك الممارسات مواجهة جذرية، بالمنع والإلغاء، والتقنين، تقديمًا لشرعيته المذهبية بين العامَّة على المصالح الحقيقية للدين والمذهب، بل ولسمعة الدولة الإيرانية نفسها، وهذا التيّار وإن استفاد على المستوى السياسي، إلّا أنَّ له مصالح مادِّية أُخرى تحول بينه وبين الاشتباك الحاسم مع مروِّجي الخرافات.
أولًا: تسييس الطقوس بين المؤيِّدين والمعارضين
هناك تاريخٌ حافل للممارسات الشيعية غير العقلانية في أحداث عاشوراء، وتحوُّلات كبيرة في لُبّ الميراث الحوزوي المتعلِّق بالشعائر؛ ما أقلق مرجعيات دينية داخل الحوزة، فذهب بعض فُقهاء الشيعة المحسوبين على «الإصلاحية الحوزوية»، مثل السيِّد حسين فضل الله (1935- 2010م)، إلى أنَّ تلك الممارسات ليس لها أيّ أصل. ورصد فضل الله «التحوُّل الخطير الذي حدث نتيجة دعم بعض العُلماء لتلك الممارسات، لدرجة أنَّهم يقولون إنَّها ممارسات مُستحَبَّة، من أجل توسيع دائرة التشيُّع، وتمدُّد المذهب»، وأدَّى ذلك في نظره إلى خروقات وتحوُّلات خطيرة، لدرجة أنَّ بعض العوام الإيرانيين –حسب قوله- يضربون ظهورهم بالسلاسل، وبعضهم يمشون على النار، أو يلقون أنفسهم فيها، وكأنَّه يوجِّه خطابه لعلي خامنئي الذي أباح هذا العمل، كما سيأتي.
ويبدو أنَّ ثمَّة عوامل قومية وعرقية، وانحرافات عَقَدية، أدَّت إلى هذا التطرُّف الممارساتي الإيراني، حسب مرتضى مطهري (1919- 1979م) فقال منتقدًا ما يجري في إيران: «أحد العوامل التي أدَّت لأن نكون نحن الإيرانيين بهذه الدرجة من اللامبالاة (أحد العوامل؛ لأن هناك عوامل أُخرى قومية وعِرقية)، وعدم تحمُّل المسؤولية، هو التحليل المُنحرِف لنهضة الإمام الحسين». ثمّ التفت إلى بروز تيّار الإرجاء الشيعي، الذي يكتفي بتلك الممارسات والزعم أنَّها كفيلة بالخلاص الأُخروي.
واللافت أنَّ القراءة الرسمية للنظام الإيراني، هي تحريم بعض الممارسات في عاشوراء، مثل التطبير، وللمرشد خامنئي فتوى في تحريمه ومنعه؛ فيقول في خطاب له: «إنَّ اختلاق الإضافات، ومزجها بالخرافات، وممارسة الأفعال غير المعقولة باسم العزاء وإحياء ذكرى عاشوراء كُلّها لا تخدم قضية الحسين». لكن في ذات الوقت، فإنَّ عِلَّة التحريم عند خامنئي ليست بسبب بِدعيَّتها، أو دخولها على أُسُس وأُصول المذهب بسبب فعلٍ سياسي تاريخي منذ عهد البويهيين والصفويين والقاجاريين الذين استعملوا الشعائر الحسينية من أجل تعزيز شرعيتهم الدينية والسياسية، بل إنَّ العِلَّة عند خامنئي هي: «وَهَن المذهب الحقّ»، و «الإساءة إلى المذهب الشيعي»، بخلاف غيره من «إصلاحيين حوزويين»، ممَّن جعلوا العِلَّة «عدم ثبوت مثل تلك الممارسات عن الأئمَّة أو الموثوقين من العُلماء»، كما مرَّ من كلام حسين فضل الله.
ويبيحُ خامنئي نفسَه الضرب بالسلاسل على الظهر والبدن، ولا يجعل ذلك سببًا لوَهَن المذهب، «ما دام يُعَدّ عُرفًا من مظاهر الحزن والأسى في العزاء، فلا بأس به»، مع أنَّ الضرب بالسلاسل فيه أذى مماثل للتطبير. وتأتي تلك الفتاوى في إطار التسييس والتسييس المُضاد، فالولائيون لا يمتنعون عن تسييس «ثورة» الحسين، بل إنَّهم عادةً ما يستعملون مصطلحات يسارية وحداثية مثل «النهضة الحسينية»، وثنائية الاستكبار والاستضعاف، ومواجهة الحُكّام، ونحو ذلك، وينسبونها لثورة الحسين.
لذا يقول خامنئي في أحد خطاباته بمناسبة عاشوراء: «إنَّهم يقولون: لماذا تنشرون العزاء والمآتم والبُكاء والدموع بين الناس؟ إنَّ هذه المآتم المُقامة والدموع الجارية ليست لمجرَّد الُحزن والبكاء، بل إنّها للقِيَم. إنَّ الذي يختفي خلف كُلّ هذه المآتم ولطْم الرؤوس والصدور وذرْف الدموع، هي أعزّ وأكرم النفائس، التي يمكن أن تحتوي عليها كنوز الإنسانية، إنَّها القيم المعنوية الإلهية». وفي تسييس صريح يقول: «لقد ثار الحسين بن علي ليمرِّغ في التراب أنوف حُكّام الجوْر والسلاطين، الذين لا يُقيمون وزنًا للقيم الإسلامية والإنسانية والإلهية».
ويختلف حيدر حب الله مع تلك السرديات «الولائية» المعاصرة، ويذهب إلى أنَّها استُحدِثت بعد الثورة الإيرانية 1979م، فنُظِر إلى ثورة الحسين نظرة سياسية، تتّسِق مع مقاصد وأهداف مُغايِرة لتفسيرات أُخرى للثورة الحسينية، أنسَب وأليَق بسياقها وزمانها.
هذا الاشتباك لم ينحصر في الجغرافيا الشيعية الإيرانية، بل امتدَّ إلى عموم الشيعة. ففي محرَّم من كُلّ عام تبرُز خلافات بين أتباع «حركة أمل» و«حزب الله»؛ بسبب التطبير، فـَ«حزب الله» وتماشيًا مع ولاية خامنئي ومنهجهُ يمنعُ التطبير، في حين أنَّ «حركة أمل» لا تمنعهُ، وتشجِّع عليه، وهنا يدخل عامل التنافُس السياسيّ بقوَّة، فكلا الجانبين يريد فرض قراءته الرسمية، وإبراز عضلاته السياسية في الشارع؛ فـَ«حزب الله» يريد تمتين مرجعية «الولي الفقيه» في البيئة الشيعية اللبنانية، و«حركة أمل» لها مرجعيتها الخاصَّة، التي تختلف مع مرجعية «الولي الفقيه»، ولم ينحصر الخلاف بينهما في الجانب الأيديولوجي، بل ينسحب على إدارة الشأن العام، كالمسائل السياسية والاقتصادية.
وبزيادة وتيرة التنافُس والاستقطاب المذهبي والسياسي، يلجأ «حزب الله» إلى «الفصل الفوري» لأيّ عضو يمارس التطبير.
إذن، يبدو موقف «الولائيين» (في الداخل والخارج الإيراني) من التطبير موقفًا سياسيًّا، بل إنَّ علَّة تحريمه أقرب إلى السياسة لا إلى أُصول الفقه، بالطريقة الفنِّية الدقيقة. وإذا كان «حزب الله» يواجه بقراءته الولائية في المسألة الشعائرية حركة أمل، فإنَّ «الولائيين» في الداخل الإيراني وفي العراق يواجهون خصومهم ومناهضيهم، ولا سيّما التيار الشيرازي، الذي يؤكِّد هذه الممارسات ويدعو إليها بوصفها أصلًا من أُصول المذهب، وصيغة تمايُز عن العامَّة. وهذه القراءة الشيرازية الشعبوية أوجدت مساحات لها في العمل بين الجماعة الشيعية، حتَّى في الداخل الإيراني نفسه، مع العلم أنَّ الشيرازيين لا يؤمنون بولاية الفقيه في الوقت نفسه، ويتّهمون النظام بتحريم التطبير سياسيًا.
وهذا الخطاب الشيرازي يُقلِق النظام الإيراني؛ خشيةً من تمدُّد هذا الخطاب وتأثيره على حواضن التقليد، وبالتالي تُفهم تلك الفتاوى والفتاوى المضادَّة في هذا الإطار. وليس هذا موقفًا طارئًا على الشيرازيين في ظِلّ مرجعية صادق الشيرازي، بل هو خطاب إستراتيجي للتيّار منذ مرجعية أخيه الأكبر محمد مهدي الشيرازي.
أمَّا موقع مرجعية النجف من هذا الاشتباك، فقد اتّخذ آية الله السيستاني موقفًا وسطًا، لدرجة يمكن القول معها إنَّه لم يجزم بالتحريم ولم يجزم بالإباحة، ويُرجِع البعض هذا الموقف؛ بسبب الصراع الطويل بين مراجع النجف حول هذه المسألة منذ ثلاثينات القرن العشرين.
وإذا كان «الإصلاحيون» الإيرانيون يشتركون مع النظام و«المحافظين» في رفض تلك الممارسات الشعائرية، إلّا أنَّ «الإصلاحيين» يدعون إلى عقْلنة القراءة المذهبية برُمّتها، وتشذيب الشعائر من كافَّة الخرافات، بخلاف «المحافظين» الذين يتمسَّكون حتَّى اليوم بالقراءة الحرفية والنصوصية والتقليدية، ويرفضون عقْلنة المذهب، أو التراجُع عن بعض مسائله، ولو من أجل المصلحة العُليا لوحدة المسلمين.
ثانيًا: تاريخٌ من التوظيف السياسي
هناك تاريخ من التوظيف السياسي للشعائر الحسينية، ففي عهد البويهيين أصبحت الشعائر الحسينية تقليدًا رسميًّا، فأُمِر الناس أن يقيموا الشعائر في الطُرُقات، وتسبَّبت في فتن طائفية كثيرة بعد تترُّس البويهيين مذهبيًّا، فيما بعد حرص الصفويون على مأسْسة الشعائر الحسينية، والعناية بها، لتمتين الداخل وتطييفه ضدّ العدو الخارجي المتمثِّل في العُثمانيين، والعدو الداخلي المتمثِّل في المعارضين، كالقزلباش وغيرهم، بوصفهم -أي الصفويين- قائمين على حفظ بيضة التشيُّع، وحُرّاسه، وشارك ملوكهم الناس في المآتم الحسينية العامَّة. ثمّ جاء ملوك القاجار فأولوا الطقوس والشعائر اهتمامًا منقطع النظير، أيضًا لتعزيز شرعيتهم المذهبية بين العامَّة، واهتمُّوا بعمارة مراقد آل البيت في العراق وعموم إيران؛ ما كان له أثرٌ كبير في عاطفة العامَّة. ويبلغ التوظيف السياسي ذروته في زيارة ناصر الدين القاجاري إلى كربلاء ووقوفه بجوار مرقد الحسين قائلًا: «نادَى الإمام الحسين في يوم عاشوراء، هل من ناصر ينصرني؟ أتى ناصرك، وهو واقف في حضرتك لنُصرتك».
ثمَّ خَفَت هذا التوظيف وإن لم يُلغَ تمامًا في العهد البهلوي، بفعل سياسات العلْمنة وإحياء القومية الفارسية مؤسَّساتيًّا، ثمَّ رجع بقوَّة بعد الثورة الإيرانية 1979م، وسعى النُّخبة الدينية لصبغ الثورة بأيديولوجية محدَّدة، وتمرير مشاريعها وقراءتها الدينية على العوام، والاستظلال بظلال تلك الشعائر في التعامُل مع الخصوم سياسيًّا.
خاتمة تسعى المجامع العلمية والدينية المحسوبة على «الإصلاحيين» أن تُعقلِن الممارسة الشعائرية، وتهذِّبها من الدخيل الذي طرأ عليها؛ بفعل العادات تارةً والمزايدات المذهبية والسُلطوية والشعبوية تارةً أُخرى. في حين اختلفت إستراتيجية النظام الإيراني الرسمي، الذي اشتبك مع ممارسات محدَّدة، وليس مع كُلّ ما يُرى إصلاحيًا أنَّه دخيل، أو من قبيل الخرافات. لكن الجانبين «الإصلاحي» و«المحافظ» يريَان خطورة القراءة المتطرِّفة للشعائر من قِبل الشيرازيين وحواضنهم، تلك الخطورة المتمثِّلة في الهيمنة على الجماعة الشيعية، أو التمدُّد واستلاب الخطاب الديني، والتحدُّث باسم المذهب. لذا فنفس الإستراتيجية التي ينتهجها النظام الإيراني في إيران، هي ذاتها التي ينتهجها «حزب الله» في لبنان، مع الإبقاء على خيط شعائري يحفظ عاطفة العوام ونظرتهم إلى مرجعية «الولي الفقيه». لكن الشيرازيين وأتباعهم يراهنون على الجانب الشعبوي وعاطفة العوام من ناحية، وعلى استقلاليتهم وابتعادهم عن سياسة النظام الإيراني (بل ومزايدتهم عليه) من ناحيةٍ أُخرى.