المقدمة
بسيطرة «طالبان» على أفغانستان، تستعدُّ الحركة للعودة لإدارة الدولة بعد أن فارقتها منذ عام 2001م، ويساعدها على ذلك تركُّز الأسلحة في المقاطعات التي تنتمي إليها «البشتون»، في ظلِّ عدم التنسيق بين الجماعات الوطنية الأخرى.
ويكتنفُ هيكل الحكومة الأفغانية القادمة نقاشاتٌ إستراتيجيةٌ تتعلَّق بالدستور الأفغاني الحالي، ومُسمَّى البلاد الرسمي وعلمها، ورئيس الإدارة المُقبلة. كما يُحيط بإدارة «طالبان» لأفغانستان، تأثير ديناميكيات داخلية منها: تقاسم السلطة بين الجماعات العِرقية، وعدم توافق مباديء طالبان مع تطلعات ومنجزات الشعب الأفغاني على مدى 20 عامًا، وعجز الاقتصاد. وعلى الرغم من التفاؤل الحذر بشأن قدرة «طالبان» على قيادة الدولة، إلَّا أنَّ تبديد المخاوف الجيوسياسية والأمنية الدولية، يتوقّف على مدى تبني «طالبان» سياسةً منفتحةً ومتكيّفةً مع العالم المعاصر.
أولًا: استعراضٌ لكيفية استيلاء «طالبان» على أفغانستان
حاولت الولايات المتحدة -بعد 20 عامًا من القتال في أفغانستان-أن تجد حلًّا نهائيًا لوضع البلاد من خلال عقد محادثاتٍ مع «طالبان»، وبعد مفاوضاتٍ دامت أكثر من عام بين الولايات المتّحدة و«طالبان»؛ وقّع الطرفان اتّفاقية سلام في الدوحة بتاريخ 29 فبراير 2020م.
تضمّنت ما يلي:
- 1- عدم تعرّض أيّ فردٍ أو جماعةٍ من الأراضي الأفغانية للولايات المتحدة وحلفائها بالتهديد.
- 2- مغادرة جميع القوات الأجنبية لأفغانستان.
- 3- بعد إبرام الاتفاقية يبدأ الحوار الأفغاني-الأفغاني (بين طالبان وإدارة كابل).
- 4- الاتفاق على وقفٍ مستدام لإطلاق النار من خلال الحوار الأفغاني-الأفغاني ورسم خارطة طريق سياسيَّة لأفغانستان.
كما تضمنت الاتفاقية قضايا أخرى، مثل: الإفراج عن 1000 جنديٍّ معتقل عند «طالبان» من الأفغان والأجانب، وإطلاق سراح 5000 من عناصر «طالبان»، ورفع العقوبات عن «طالبان» وشطبها من قائمة مجموعة العمل المالي (FATF).
وفي مقابل ذلك، تلتزم «طالبان»-التي أشارت إلى نفسها في الاتّفافية باسم «إمارة أفغانستان الإسلامية»-بعدم السماح لجماعاتٍ مثل: «القاعدة» باستخدام الأراضي الأفغانية ضد الولايات المتّحدة وحلفائها أو التعاون معهم أو استضافتهم أو منحهم تصاريح إقامة أو جوازات سفر أو تأشيرات.
وبعد عقد الاتفاقية بدأ الحوار الأفغاني-الأفغاني، وعُقدت محادثاتٍ بين «طالبان» وإدارة كابل في عددٍ من الدول في قطر وروسيا وإيران، غير أنّ جميع تلك المباحثات لم تخلُص إلى نتيجةٍ ملموسة، ودارت رحى المحادثات حول الدستور وهيكل الحكومة الجديدة واسم البلاد الرسمي وحقوق المرأة وقضايا الإعلام، وبينما كان الحوار مستمرًا تصاعدت هجمات «طالبان» واتّسعت رقعة مناطق سيطرتها.
وبالنظر إلى هجمات «طالبان»، نجد أنّها لم تسيطر في المرحلة الأولى على مراكز المحافظات بل شنّت هجماتها على المقاطعات، وفعليًّا نُوقشت هذه المسألة كثيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التليفزيونية واحتمال كونها جزءًا من الاتفاقية بين «طالبان» والولايات المتحدة.
وقد أدّى فشل الحوار الأفغاني-الأفغاني في التوصّل إلى نتيجةٍ نهائية دورًا في زيادة هجمات «طالبان» وتحرّكها بشكلٍ أسرع، إذ صعّدت الحركة هجماتها في يونيو وفرضت سيطرتها على ما يزيد عن 200 مقاطعة في أواخر يوليو، أمّا حكومة «كابل» فوصفت الهزيمة التي لحقت بها في أول الأمر بـِ «الانسحاب التكتيكي»، إلَّا أنها لم تتمكّن من استعادة السيطرة على عديدٍ من المقاطعات التي خضعت لسيطرة «طالبان»، وفي ظل عدم محاربة الحكومة المركزية لـِ «طالبان» بدأت المقاومة الشعبية في قتال الحركة في مناطقَ مختلفة وكانت متفرّقة تحت قيادة «أمراء حرب» محليّين، دون تنسيق بين تلك الجماعات.
كما أنَّ قادة الجماعات العرقية الملتفّين حول حكومة «كابل» كانوا في حالة غيابٍ تامّ للتنسيق، حالهم كحال «أمراء الحرب» المحليّين، ولم يكُن هناك تنسيق حتَّى بين القادة الذين يمثلون الجماعة العرقية نفسها، فعلى سبيل المثال: أعلنت شخصياتٌ مثل «إسماعيل خان» -ذو الأصل الطاجيكي – و«عطا محمد نور» و«أحمد مسعود» ابن أحمد شاه مسعود، أعلنت الحرب على «طالبان» في مناطق عديدة، غير أنهم لم ينسقوا فيما بينهم؛ مِمَّا مكّن «طالبان» من هزيمة كل هذه الجماعات الصغيرة غير المنظمة واحدةً تلو الأخرى، لتصبح القوة الحاكمة في أفغانستان بعدما استولت على «كابل» في 15 أغسطس.
ثانيًا: لماذا لم تواجه «طالبان» مقاومةً جديَّة؟
عندما هاجمت الولايات المتّحدة أفغانستان عام 2001م كانت الجماعات الأفغانية ما تزال مسلّحة بعد أن خاضت الحرب الأهلية، ولكن بعد الغزو الأمريكي بدأت عمليَّة نزع السّلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) بإشراف قوات الأمن الدوليَّة، وانطوت على جمع السلاح وإتلافه أو تسليمه في المناطق غير التابعة لـِ «طالبان»، أمّا في المناطق الجنوبية والشرقية التي تسيطر عليها «طالبان» فلم تُنفّذ العمليَّة بالكامل، وبالتالي ظلّ سلاح الحرب الأهلية بيد «طالبان» فيما نُزع من عديدٍ من المناطق المجاورة مع «طالبان»، ويجدر بالذكر أنَّ المناطق التي تُسيطر عليها «طالبان» غالبًا ما تتداخل مع تلك التي تسكنها الجماعة العرقية البشتونية، وبالتالي يمكنُ الخلاص إلى أنَّ المناطق التي نُزع السّلاح منها كانت في الأساس مناطق لا يسكنها البشتون، ويجدر بالذكر أيضًا أنّ كلا الرئيسين اللذيْن تولّا السلطة -كما كان الحال في العهد الملكي في أفغانستان-في أعقاب عام 2001م كانا من أصلٍ بشتوني.
وخلال رئاسة «حامد كرزاي» كان يُشار إلى «طالبان» بـِ «الإخوة المستائين»، فيما ذكر «أشرف غني» أنَّ 98% من عناصر الحركة المعتقلين في السجون الأفغانية من البشتون، ووصف ذلك بغير العادل، ويتّضح من ذلك أنَّ كلا الرئيسين أبرزا القومية البشتونية أثناء حكمهما للبلاد، كما كانت مسألة أوضاع البشتون في المناطق الشمالية تُثار بصورة متكررة خلال فترة كرزاي، وقيل أيضًا إنَّ «أشرف غني» يستخدم جماعاتٍ عرقيةٍ أخرى شكليًّا ويحتكر السلطة ويرجع السبب في ذلك إلى أنَّ موظفيه الأساسيين يقتصرون على البشتون.
وفيما يخصُ الصراعات الأخيرة فلم تتمكَّن إدارة «غني» من استعادة عِدَّة مقاطعات وتركتها في بداية الأمر في قبضة «طالبان» بحجة الانسحاب التكتيكي، ثُم ظهرت مقاومة شعبية في مناطق معينة للدفاع عن أراضيهم ضد «طالبان»، وفي بداية الأمر قالت إدارة «غني» بأنها ستدعمُ المقاومة الوطنية لكنها لم تفِ بوعدها في أرض المعركة، وقد تداولت منصّات التواصل الاجتماعي نقاشاتٍ متكررة حول هذه المسألة، وخلاصة القول: إنّه بالرغم من امتلاك الجيش الأفغاني المعدَّات والقدرات اللازمة لقتال «طالبان»، فإنَّ الإرادة لم تكُن كافية عند القيادة لقتال الحركة، بل إنَّ عديدًا من المدن الأفغانية سُلّمت إلى «طالبان»-على يد محافظي المدن المعيّنين من الدولة- دون وقوع أيّ صراع، ومن أمثلة ذلك ما وقع في المدن الكبيرة مثل «غزنة» و«جلال آباد».
ثالثًا: المقاومة الشعبيَّة؟
إنَّ انعدام التنسيق اللازم بين جماعات المقاومة الوطنية -كما أسلفنا- وانعدام التسليح الذي وعدت به الحكومة المركزية ولم تنفّذه والتآمر المتعمّد على قادة المقاومة كلها عوامل أدّت إلى هزيمة تلك الجماعات، إذ أعلن قادةٌ مثل «إسماعيل خان» و«عطا محمد نور» والمارشال «عبد الرشيد دوستم» أنَّ سبب هزيمتهم تمثّل في مؤامرة سياسية حِيكت ضدهم، وذكر «نور» في مقطع فيديو نُشر من «أوزبكستان» أنَّ الجيش لم يقدّم الدعم وأنَّ البنادق التي وصلت في اللحظة الأخيرة من طراز «إم 16» كانت عديمة الفائدة وأنَّ هناك مؤامرة مدبرة وراء الأمر، وبالتالي؛ سيطرت «طالبان» على كامل أفغانستان بسرعةٍ غير متوقَّعة وحقَّقت انتصارات دون أن تواجه أية عقبات حقيقية.
رابعًا: احتمالات لما ستكون عليه هيكلة الإدارة الأفغانية القادمة
قياسًا على الطريقة التي حكمت بها «طالبان» البلاد من عام 1996 إلى عام 2001م، فإنه يتبيّن عدم وجود نظام انتخابي، وأنَّ المسؤولين عُيّنوا عن طريق الاختيار، ولكن ثمَّة نظام اختيار في عهد «طالبان» يسمى «البيعة»، ويعود إلى فترة بداية الإسلام، ولكنه لا يقوم على إعلان الولاء بصورةٍ مباشرة، إذ يتعيّن على شيوخ القبائل أن يبايعوا رئيس الإدارة بالنيابة عن الشعب، ويسمّى رئيس الإدارة «أمير المؤمنين» ويعيّن تحته مسؤولين، كما يلعب العِرق-خلافًا لفترة الإسلام الأولى-دورًا مهمًا عند «طالبان»، إذ كان جميع مسؤولي «طالبان» تقريبًا من عام 1996 إلى عام 2001م -بمَن فيهم محافظو المقاطعات ورؤساء البلديات والوزراء – من أصل بشتوني حتَّى في المناطق التي تضم جماعات عرقية أخرى.
ومؤخرًا يتّضح أنَّ «طالبان» تبنّت الأسلوب نفسَه في المناطق التي سيطرت عليها، ففي ولاية «دايكندي» -التي يسكنها الهزارة فقط -كان المحافظ ورئيس الوحدات الإحدى عشرة التي تشكل المنظمة الرئيسة للولاية، ورئيس البلدية والمحافظون الذين سيعملون في المقاطعات-من أصل بشتوني، فيما عُيّن المسؤولون ذوو المراتب الأدنى من السكان المحليّين.
وقد أثار ذلك استياء زعماء الجماعات العرقية الأخرى، وأكّد كل هؤلاء القادة على مسألة تمثيل جميع الجماعات العرقية والأقليَّات في الإدارة القادمة، كما أكدت مجموعة من مُمثّلين سابقين للحكومة سافروا إلى باكستان لإجراء مفاوضاتٍ على هذه القضية في مؤتمر صحفي في إسلام آباد، وبحسب تصريحات «طالبان»، فإنَّ الإدارة الجديدة ستضم جميع الأفغان، ولكن لا يوجد إجماع حتَّى الآن على نوع الإدارة التي ستُشكّل.
كما تشغل مسألة تغيير الدستور من عدمه مساحةً من المناقشات بين «طالبان» وإدارة كابل، ويُعَد الدستور الأفغاني الحالي مزيجًا بين الشريعة الإسلامية والنظام الديمقراطي الذي أوضحت «طالبان» أنها لا تقبله، ولم يتّضح بعد ما إذا كان الدستور سيُغيّر كُليًّا أم جزئيًّا، كما لم يتّضح بعد اسم البلاد الرسمي وعلمها الذي سيكون رمزًا لبداية الإدارة الجديدة ولا يزال كل ذلك محلّ نقاش، وبالرغم من أنَّ «طالبان» قالت إنها لا تمانعُ الإبقاء على علم أفغانستان ذي الألوان الثلاثة (الأسود والأحمر والأخضر) إلَّا أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تداولت مشاهد عُنف ضد مَن يحملونه، ولكن في ظل حكم «طالبان» يبدو من الصعب استخدام أيّ علمٍ آخر بديل عن علمها، ولن يكون اسم الإدارة المقبلة محلّ جدلٍ مثل مسألتَي العلم والدستور؛ لأنَّ اسمها الحالي «جمهورية أفغانستان الإسلامية»، وستكون النقطة المفصلية ما إذا كانت البلاد ستحكمُ بنظام «أمير» في المستقبل أم يحكمها النظام الانتخابي في بعض المواضع على الأقل.
خامسًا: أهم شخصيات «طالبان» في الإدارة الأفغانية القادمة
بعد الإعلان عن مقتل الزعيم الأعلى لـِ «طالبان» الملا «محمد عمر» في عام 2016م انتخبت «طالبان» «أختر محمد منصور» زعيمًا لها، لكن «منصور» قُتل في العام نفسه على الأراضي الباكستانية إثر هجوم أمريكي، وبعد وفاته تولى نائبه هبة الله آخند زاده زمام القيادة.
- 1- هبة الله آخند زاده:
عمره 60 عامًا تقريبًا، وهو بشتوني من قندهار، وينتمي إلى قبيلة نورزاي، وهو شخصية دينية وله مدرسة بالقرب من «كويته» في باكستان، ويقال إنَّ عديدًا من المسؤولين التنفيذيين في «طالبان» تلقوا تعليمهم في هذه المدرسة، وتربط «آخند زاده» بـِ «القاعدة» علاقات وثيقة، ويُقال إنَّ زعيم القاعدة «أيمن الظواهري» قد بايعه، ويُعرف بأنّه القائد الذي يحلّ النزاعات داخل «طالبان».
- 2- الملا عبد الغني برادر:
وُلد «عبدالغني» في ولاية «أروزكان» ونشأ في قندهار ويبلغ عمره 53 عامًا، وهو بشتوني ينتمي لقبيلة بوبالزاي، وهو رئيس المكتب السياسي لـِ «طالبان» في قطر، ووقَّع على الاتفاق بين «طالبان» والولايات المتحدة، وهو نائب زعيم «طالبان»، وأحد الأربعة المؤسِّسين لحركة «طالبان».
- 3- محمد يعقوب:
نجل مؤسِّس حركة «طالبان» الملا «محمد عمر» وعمره 30 عامًا تقريبًا، كان أول ظهور له عام 2016م بعد وفاة والده التي أعلن أنها طبيعية، ويُقال إنه لم يوافق على تولي «أختر محمد منصور» السلطة بعد والده، وتربطه علاقة جيدة بـِ «هبة الله»، وهو أحد نواب القادة ومسؤول عن العمليَّات العسكرية لـِ «طالبان».
- 4- سراج الدين حقاني:
نجل «جلال الدين حقاني»، عمره يقارب الأربعين، ومؤسِّس «شبكة حقاني» المعروفة بأنها الأكثر تطرفًا في «طالبان»، وقد فقد أربعة من أشقائه؛ بسبب العمليَّات العسكرية الأمريكية، ويُعرف بأنه رجل «طالبان» الثاني، وهو أحد نواب القادة، وبعد الاتفاق بين «طالبان» والولايات المتحدة بفترة قصيرة كتب «حقاني» مقالًا في صحيفة «نيويورك تايمز» ذكر فيه أنَّ الإدارة الأفغانية المقبلة يجب أن تشمل الجميع.
- 5- عبدالحكيم حقاني:
يُعرف بقربه من مؤسِّس حركة «طالبان» الملا عمر، وهو شخصية دينية، وقاد وفدًا من 21 عضوًا من عناصر «طالبان» في المحادثات بين الولايات المتحدة و«طالبان»، وعمره 64 عامًا، وهو بشتوني ينتمي إلى قبيلة إسحاق، ولا علاقة له بعائلة حقاني، وهو قاضي القضاة (المدعي العام) في حركة «طالبان».
- 6- شير محمد عباس ستانيكزاي:
من أصل بشتوني وُلد في ولاية لوكر في أفغانستان، وعمره 62 عامًا، وتلقى تدريبًا عسكريًا في «الأكاديمية الهندية العسكرية» في دهرادون، وشغل في عهد «طالبان» منصب نائب وزير الخارجية ونائب وزير الصحة، وهو نائب رئيس المكتب السياسي في الدوحة، كما شارك في المفاوضات بين الولايات المتحدة و«طالبان» بوصفه نائبًا لرئيس وفد «طالبان».
سادسًا: مكانة «طالبان» في المجتمع الدولي
قالت الصين إنها ستحترمُ خِيار الشعب الأفغاني، وانتقدت تخلي الولايات المتحدة عن أفغانستان في الفترة التي تشهد هذه الاضطرابات، وتواصل السفارة الصينية عملها في كابل، وترحّبُ الصين بتشكيل «طالبان» حكومةً تشمل جميع الأفغان، فيما أكدّت روسيا أنهّا لا تريد اضطرابات قرب حدود الاتحاد السوفيتي السابق بعد سيطرة «طالبان» على أفغانستان، ويفسّر ذلك إجرائها عمليَّاتٍ عسكرية مع أوزبكستان وطاجيكستان بالتزامن مع صعود حركة «طالبان»، وكما قالت روسيا إنَّ «طالبان» جماعة يمكنُ التفاوض معها.
وكانت إيران هي أول من يشير إلى قيادة «طالبان» على أنَّها إمارة إسلامية، وقالت: إنَّ البلاد ستنعم بالاستقرار مع خروج الولايات المتحدة منها، وقالت إيران أيضًا: إنها تراقب الأحداث عن كثب.
فيما قالت باكستان: إنها تراقب الأحداث عن كثب ولا تعُدُ «طالبان» منظمةً إرهابية، وأشار رئيس الوزراء الباكستاني «عمران خان» إلى إنجازات «طالبان» بقوله: إنَّ أفغانستان استطاعت «كسر الأفغان أغلال العبودية»، وعلى الرغم من عدم إقرار باكستان رسميًّا، فإنَّ الواقع يشهد أنَّ عديدًا من أفراد ميليشيات «طالبان» عبروا الحدود إلى أفغانستان من باكستان.
وكانت المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا من بين الدول التي كانت متفائلة تجاه «طالبان»، وكان أردوغان قد قال: إنه قد يلتقي بقادة «طالبان»، فيما قالت «طالبان»: إنها بحاجة إلى مساعدة تركيا لإعادة بناء أفغانستان.
ومن المرجَّح جدًّا أن تعترف الدول المذكورة بقيادة «طالبان» رسميًّا بعد تشكيل حكومةٍ في أفغانستان. وعدا عن هذه البلدان، فإنَّ نهج بقية الدول تجاه حكم «طالبان» إما سلبي أو متروك للظروف، إذ أعلنت كندا أنها لن تعترف رسميًّا بقيادة «طالبان»، فيما صرَّح الاتحاد الأوروبي أنَّ تقديمه للمساعدة لـِ «طالبان» يعتمد على ما إذا كانت حقوق الإنسان -وخاصة حقوق المرأة –مكفولة.
سابعًا: الديناميكيات الداخلية المحتمَلة المهدِّدة لـِ «طالبان» في أفغانستان
سيتمثَّل التحدي الأول الذي قد تواجهه «طالبان» في تقسيم السلطة بين الجماعات العرقية؛ لأنَّ تجربة «طالبان» السابقة في الحكم أثبتت أنَّ نهجها يتمحور حول العرق بصورة كبيرة، وهذه المرة تدّعي «طالبان» أنّها تغيّرت بالرغم من أنَّ مسؤولي صُنع القرار فيها يقتصرون على عرق البشتون، وقد سلّط قادة الجماعات العرقية الأخرى -الذين اضطروا إلى الفرار إلى الخارج بعد سقوط كابل-الضوء على هذه المسألة في خطاباتهم، وعلى مرّ التاريخ أثارت قضية تقسيم السلطة صراعاتٍ داخلية بين الأفغان؛ ولذا فمن المؤكد أن تقع نفس العواقب في حال تكررت نفس الأخطاء، مِمَّا يجعل التقسيم غير العادل للسلطة تهديدًا حقيقيًّا أمام إدارة «طالبان» القادمة وربما سيكون أهمها.
وقد أكّد الزعيم الطاجيكي «عطا محمد نور» أنَّ «غني» احتكر السلطة واتخذ قرارات مع ثلاثة أشخاص من أصل بشتوني (مهيب وفضلي وغني)، مِمَّا جعل البلاد في حالة فوضى، وأنهم سيتّخذون خطواتٍ في حال ارتكاب الإدارة الجديدة نفس الأخطاء، كما شدّد زعيم الهزارة «محمد محقق»- في حديثه إلى التليفزيون الأفغاني الدولي –أنهم سيتّخذون خطوات للحصول على حقهم في حال احتكار «طالبان» للسلطة مثل «أشرف غني» ولا يتم تمثيل الهزارة في الإدارة الجديدة، إذ تُعَد فئة الهزارة الأضعف من حيث العرق والطائفة على حدٍّ سواء بخلاف «طالبان»، فيما حضرت «طالبان» «مراسم عاشوراء» في كابل لإعطاء انطباع جيّد عنهم بالرغم من تفجيرهم تمثال «عبد العلي مزاري» زعيم الهزارة في ساحة باميان، وهذا التناقض عند «طالبان» ليس الأول، إذ شوهد في مناطق أخرى أيضًا.
كما قد تواجه «طالبان» تحديًّا آخر وهو أنَّ إنجازات الشعب الأفغاني على مدى 20 عامًا لا تتفق مع مبادئ «طالبان»، ومن أبرز تلك الإنجازات: حُرية الإعلام وحقوق المرأة، خلال العقدين الماضيَيْن بعد سقوط «طالبان» تحسَّن أداء وسائل الإعلام في أفغانستان كثيرًا، ووَفقًا لآخر الإحصاءات يوجد حاليًّا 96 قناة تليفزيونية و190 محطة إذاعية و231 شركة للإعلام المقروء في أفغانستان، كما أنَّ وضع البلاد جيّد جدًا من حيث حُرية الإعلام مقارنةً بدول المنطقة، ولكن مع وصول «طالبان» أوقفت عديدٌ من المحطات التليفزيونية برامجها الترفيهية، واضطر عديد من الصحافيين للسفر إلى الخارج، وكانت «طالبان» قد صرّحت أنَّ الإعلام حُر في إطار الشريعة وبحلول الوقت الذي جاء فيه الإجراء كان من الواضح أنَّ «طالبان» قد حنثت بوعدها، إذ مُنعت المذيعتيْن في إذاعة وتليفزيون أفغانستان «شابنام دوران» و«خديجة أمين» من دخول مكتبيهما؛ لأنهما امرأتين.
ومؤخرًا نشط استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على نطاقٍ واسع في أفغانستان ولا سيَّما «فيسبوك»، ولم تفرض «طالبان» حتَّى الآن قيودًا على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن المتوقع- كما هو حال الأنظمة المغلقة الأخرى- أن تفرض «طالبان» قيودًا على وسائل التواصل الاجتماعي وسيكون هذا الأمر محطّ جدال بين جيل الشباب الذي نشأ على استخدام منصات التواصل الاجتماعي كثيرًا، مع سيطرة «طالبان» على البلاد ذهب عديدٌ من الشباب الذين يعملون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي إلى الخارج، ومن الواضح أنَّ هذا سيُسبِّب لـِ «طالبان» متاعبَ لا تختلف عن التحديات التي فرضها الصحافيون الإيرانيون العاملون في الخارج للقيادة الإيرانية الحاليَّة.
وثمَّة مشكلة أخرى قد تواجه «طالبان» تتمثَّل في أنَّ أفغانستان عاجزة عن الوقوف على قدميها اقتصاديًّا، فرواتب الموظفين المدنيين والعسكريين واحتياجيات مواطنيها الأساسية مثل المياه والكهرباء وتنفيذ برامج التنمية كلها تُعَد نفقات اقتصادية، وكان 80% من رواتب العسكريين الأفغان تدفعُها الولايات المتحدة وقوات المساعدة الدوليَّة لإرساء الأمن في أفغانستان (إيساف) في عهد الحكومات التي سبقت «طالبان»، وكانت برامج التنمية تُنفّذ من خلال المساعدات الدوليَّة، وتُغطى النفقات الأخرى بإيرادات أفغانستان، ولكنَّ أفغانستان دولة غنية من حيث الثروة المعدنية، وأهمها: الحديد والنحاس والليثيوم والأحجار الكريمة ويعطي الطلب المتزايد على الليثيوم في عصر التقنية ميزة لأفغانستان، كما تملك أفغانستان كميَّة كافية من الغاز الطبيعي والنِّفط.
ومن أجل الاستفادة من هذه المعادن لابدَّ أن تُدمج الإدارة القادمة مع النظام الاقتصادي العالمي، وقد أبدت الصين وروسيا وباكستان وإيران ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تفاؤلها بحذر بشأن قيادة «طالبان» المستقبلية، وعلى الرغم من علاقات «غني» الإيجابية مع العالم، فإنَّ موارد أفغانستان الاقتصاديَّة ولا سيَّما معادنها لم تُستغل بسبب المشاكل الأمنية وتفشّي الفساد بين مسؤولي الإدارة، ومع وصول «طالبان» إلى السلطة اختفت المشكلة الأمنية وبقي أمام «طالبان» خِياران، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، الأول: يتمثَّل في مواصلة عمليَّة الاندماج الاقتصادي التي حقّقتها الدولة والتخلّي عن أفكارها وتبنِّي سياسةً منفتحة مع العالم مِمَّا سيسفر عن نتائج إيجابية، والآخر: يتمثَّل في التمسك بأيديولوجيتها، وبالتالي وقوع أزمات اقتصادية كحال أيّ نظام منغلق بسبب عدم استغلال إمكانات الدولة بالشكل المناسب.
الخاتمة
حين ننظر إلى تاريخ أفغانستان نجد أنّها دولة لطالما قاومت قوى أجنبية وهزمتها، لكنها هُزِمت بسبب الصراعات الداخلية التي أصبحت سمةً لأفغانستان ومصيرًا لها يتكرّر كل 20-30 عامًا، والسبب الرئيس وراء هذه الاضطرابات الداخلية يعود إلى التركيبة العرقية في أفغانستان، إذ تضمُ عددًا كبيرًا من الجماعات العرقية أبرزها (البشتون والطاجيك والهزارة والأوزبك) وأقليات عرقية أخرى، وقد قاد تقسيم السلطة بين هذه الجماعات العرقية أفغانستان إلى صراع مستمر فقد خلّف انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان في عام 1989م فراغًا في السلطة، وحاول المجاهدون الأفغان -الذين قاتلوا ضد الاتحاد السوفيتي ككل – ملء هذا الفراغ بشكل فردي في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، ومع مرور الوقت أصبحت الجماعات التي كانت تحاول ملء هذا الفراغ في السلطة أحزابًا سياسيَّة عرقية، وبعد سنوات من القتال الدامي استولت «طالبان» على كل أفغانستان نيابةً عن البشتون وهي أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان من حيث العدد، ومِن ثَمَّ تأسس حكم «طالبان» تحت اسم «إمارة أفغانستان الإسلامية» في عام 1996م.
والآن يعيد التاريخ نفسَه، بفارق رئيس هو أنَّ «طالبان» لم تستولِ على البلاد نتيجة حرب بل نتيجة اتفاقية، وسلَّم الرئيس بشتوني الأصل «أشرف غني» أفغانستان لـِ «طالبان» دون مقاومة، فيما يحذّر زعماء جماعات عرقية أخرى من أنَّ التقسيم غير العادل للسلطة سوف ينشئُ صراعًا أهليًّا جديدًا، والسبب الرئيس وراء استسلام «غني» بهذه الطريقة هو التصويت في الانتخابات الأخيرة؛ لأنَّ الجدل مستمر حول فوز عبد الله عبد الله -الذي كان يمثّل الطاجيك- في الانتخابات الأخيرة مرتين، لكن بعد محادثات طويلة شُكلت الحكومة الائتلافية دون إعلان النتائج النهائية للانتخابات، وفضّل «غني» تسليم أفغانستان- التي يحكمها البشتون تقليديًّا منذ عام 1747م- لمجموعةٍ من أصل بشتوني على أنْ يرى جماعة عرقية أخرى تحكم أفغانستان بالانتخابات.
وحاليًّا، فإنَّ تشكيل إدارة جديدة أمرٌ حيوي كخطوة سياسيَّة مهمَّة لـِ «طالبان»؛ لأنه في حال لم تُمثّل الجماعات العرقية الأخرى في الحكومة الجديدة فمن المؤكّد أن يقع صراعٌ داخلي عاجلًا أم آجلًا، وتُظهر تصريحات «طالبان» بشأن إنشاء إدارة تشمل جميع الأقليَّات والجماعات العرقية أنهم إدراكهم الخطر المحتمل، وستحدّد الكيفية التي ستحقّق بها «طالبان» التوازن بين مبادئها وبين الواقع الأفغاني مسار البلاد في السنوات المقبلة.
كما أنّ إنشاء نظامٍ مستدام وناجح- في عالمٍ أصبح كالقرية في ظل تطوّر الاتصالات والتقنية – يعتمد على عوامل خارجية وداخلية، وستأتي الانتخابات بنتائج إيجابية وسلبية على «طالبان» على حدٍّ سواء، ففي حال تبنّيها سياسة منفتحة وموثوقة مع العالم ستنتفعُ من النظام العالمي وينعكس ذلك على التنمية في البلاد، إذ شرطت عديد من الدول الغربية علاقاتها بـِ «طالبان» وتقديمها المساعدة لها بتحقيق القيم الديمقراطية مثل: احترام حقوق الإنسان ولا سيَّما النساء، ومع أنه يبدو صعبًا على إدارةٍ عملت على تجنيد عناصرها من سنوات بالشعارات الداعية إلى الجهاد ووصلت إلى السلطة في النهاية أن تتكيف مع العالم المعاصر إلَّا أنَّ جماعة «طالبان» جاءت إلى السلطة بعد اتفاقية مع رائد الحضارة الغربية (الولايات المتحدة).