سقط وادي بنجشير، المعقل الأسطوري للمقاومة الأفغانية، في أيدي «طالبان» في غضون 72 ساعة من حصاره، وما زال الغائب عن المشهد حتى الآن أحمد مسعود، نجل أمير الحرب الراحل أحمد شاه مسعود، الذي انتقل إلى منطقة مجهولة، وقدم عرضه لإجراء محادثات مع «طالبان»، أما نائب الرئيس السابق لأفغانستان أمر الله صالح، فقد غادر البلاد إلى طاجيكستان المجاورة، على متن طائرة أفغانية من طراز Mi-17.
ولجبالها الشاهقة المحاطة بالثلوج فالمقاطعة رقم 34 الواقعة شمال شرق أفغانستان، أعطت أملًا في نجاح القوات المناهضة لـ «طالبان» والعناصر المتبقية من «قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية» للمقاومة ضد «طالبان»، إذ لم ينتقل إليها الكوماندوز الأفغان بالذخائر والإمدادات فحسب، بل أيضًا كان بحوزتهم قرابة ستة طائرات هليكوبتر، ثلاثٌ منها ما تزال هناك.
وجاء في رسالة لجبهة المقاومة الوطنية المنسحبة بأن «بنجشير تُعدُ متاهةً بها عشرات الوديان المتداخلة، وقد تراجعنا بشرف، بعد أن تسببنا في وقوع أكبر عدد من الضحايا في صفوف طالبان أكثر من المقاطعات الأخرى مجتمعة خلال الحرب».
وأضاف المتحدث أيضًا: «كان علينا الليلة الماضية اتخاذ قرارٍ صعب لمواجهة هجمات العدو العنيفة ونفاذ الذخيرة، كان أمامنا أحد أمرين، إما أن نقوم بوقفة أخيرة في (بازاراك) ونخاطر بالقضاء التام على قيادتنا، أو التراجع إلى أرض أكثر ارتفاعًا من أجل مواصلة المقاومة، وقد اخترنا الخيار الأخير، وإننا نقاتل على أرض نعرفها، وهي تناسب الفصل التالي من مقاومتنا، ونحن نعرف ما نقوم به! وقد كان هذا متوقعًا!». ولقد تعهدت «جبهة المقاومة الوطنية» بالعودة للقتال «بعد فترة من أجل إنشاء طرق إمداد». وأفادت تقارير بأن (أحمد مسعود) أرسل أيضًا رسالة صوتية مماثلة. غير أن الوادي محاط بمقاطعات تحت سيطرة «طالبان»، مما يعني أن أي جهد مستقبلي من جانب جبهة المقاومة الوطنية سيواجه تحديات كبيرة للتزود بالأسلحة والأغذية والأدوية والدعم البشري.
الجدير بالذكر هنا، أنه لم تتمكن القوات السوفيتية ولا قوات «طالبان» حتى عام 2000م، من اجتياح هذه المقاطعة، لكن هذه المرة كان تقدم «طالبان» مخططًا جيدًا، ونجحت في تحريك أوراق عرقية وسياسية لصالحها.
وعلى عكس ما جرى في التسعينات، لم تحشد «طالبان» في صفوفها مقاتلي البشتون فقط، بل شملت حملتها مقاتلين من الطاجيك، بالإضافة إلى الأوزبكيين.
كما قام مخبرو «طالبان» والمتعاطفون معها داخل إقليم بنجشير، بتزويد «طالبان» بالخرائط والمعلومات الاستخبارية الحيوية، إلى جانب تنفيذ هجمات تخريبية مزعومة.
وتراجعت قوة جماعة مسعود ووحدتهم، لأن بعض كبار السن في العائلة، إما لم يؤيدوا الصراع أو اعترضوا على بعض الشخصيات السياسية، ومنهم أمر الله صالح الذي أعلن نفسه رئيسًا بالنيابة لأفغانستان بعد مغادرة الرئيس أشرف غني.
علاوةً على ذلك، يبدو أن إستراتيجية «طالبان»، المتمثلة في الحرص على الحصول على دعم القبائل، قد أثمرت إيجابيًا في مقاطعة بنجشير أيضًا.
وعلى الرغم من أن شخصيات سياسية، قد غادرت أفغانستان من أجل زيادة الدعم الدبلوماسي للمقاومة الوطنية، ومن أجل الدعم ضد «طالبان»، إلا أن معظم القوى الرئيسية، بما في ذلك روسيا والصين والولايات المتحدة، اختارت العمل مع إدارة كابول.
وتبقى احتمالات شنِّ ضغوط دبلوماسية متواصلة على «طالبان»، وتشكيل حكومة في المنفى مع قدر من الدعم داخل البلاد ضئيلة، لا سيما أن حكومتا كرزاي وغني فشلتا في تحقيق الحكم الرشيد، وقد عُرفتا بالفساد وعدم الكفاءة.
ومع ذلك، فإن مخاوف «طالبان» لم تهدأ بعد، نظرًا لوجود عددٍ كبيرٍ من مخازن الأسلحة المخبأة لدى قوات المقاومة الوطنية الأفغانية، ومن المرجح أن تنشأ مجاميع جديدة من المقاتلين المناهضين لـ «طالبان»، وإن كان ذلك ربما محدوداً في جيوب صغيرة بمختلف المقاطعات، ويمكن أن تصبح تلك الانتفاضات مثل التي تم التصدي لها في جلال أباد والمدن الأصغر الأخرى، ظاهرةً متكررة إلى جانب الاحتجاجات السلمية في المدن الرئيسية.
وهناك أيضًا مجاميع منظمة ممولة من الخارج، إلا أنها في حالة سبات الآن، وينتظر أمثال «لواء فاطميون»، الذين أُعيد تسميتهم مؤخرًا بــــ «الحشد الشيعي»، تعليماتهم من إيران.
وقد مثّل سقوط بنجشير صدمةً وذهولًا لطهران، إذ صرَّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن إيران تُدين التدخلات الخارجية في الشأن الافغاني، مشيراً ربما إلى دورٍ لباكستان في سيطرة «طالبان» لآخر معقل للمقاومة.
وإلى أن تتمكن «طالبان» من تشكيل «حكومة إسلامية شاملة» من المرجح أن يتصرف قادة «طالبان» بإدراك، لأهمية التهدئة من أجل الحصول على اعتراف أوسع. ويعتمد مستقبل المقاومة الأفغانية في أجزاء من وادي بنجشير أو في أي مكان آخر، على مدى قدرة «طالبان» على تفعيل الخدمات وتحريك الاقتصاد، وقدرتها على فرض الأمن والاستقرار.
وعلى الرغم من أن سقوط بنجشير جاء بمثابة انتصار نفسي لـ «طالبان»، كما لم يحدث على مرِّ التاريخ، بأن سيطرت «طالبان» على كل مناطق أفغانستان، إلا أنها بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة، وتعزيز قوات الأمن الداخلي وأجهزة المخابرات؛ وإلى أن يتم ذلك، تستعدُ الدول المجاورة لموجات تدفق اللاجئين هرباً من نُذر الحرب الأهلية الوشيكة في أفغانستان، التي ألمحَ قائدٌ عسكريٌ أمريكي إلى إمكانية حدوثها.