تتضاءلُ فرصة إنقاذ الاتفاق النووي المُبرم عام 2015م مع إيران والمعروف بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» بحسب ما ذكرته مصادر دبلوماسية فرنسية، إذ يرى دبلوماسيون فرنسيون ضرورةَ إلزام الجمهورية الإيرانية باحترام التزاماتها النووية، وتعكس وجهة نظر باريس خطرَ خسارةِ طهران لفرصة إنقاذ الاتفاق النووي، ممّا يزيدُ من احتمالية وقف المحادثات الدبلوماسية النووية في فيينا، وترى باريس أنَّ خطةَ العمل الشاملة المشتركة أصبحت أقلَّ أهميةً بالنسبة للأطراف الأخرى في الاتفاق؛ بسبب رفض إيران تقييد طموحاتها النووية منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في مايو 2018م، بل تستغلُ عاملَ الوقت في بناء برنامجٍ نوويٍ شامِل يعزّز موقفها في المفاوضات. وبالرغم من أن تركيز باريس انصبَّ في الأساس -خلال الخمسة عشر عامًا الماضية- على الجانب النووي في نهجِها الثُنائي والإقليمي والدولي تجاه الملفّ الإيراني، إلَّا أنَّ انسحابَ الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، كشفَ عن رغبةٍ دبلوماسيةٍ فرنسية للتوصُّل إلى اتفاقٍ أوسع نطاقًا، فباريس تؤيدُ صيغة «الاتفاق النووي الموسَّع» لحلِّ المسألة النووية الإيرانية، إذ تسعى هذه الصيغة إلى معالجة عيوب خطة العمل الشاملة المشتركة المتمثِّلة في عدم إشراك القضايا العالقة الأخرى مثل برنامج إيران للصواريخ البالستية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان وعدائها الإقليمي، ونظريًا هذه الصيغة الفرنسية مهمَّة في ظلِّ عجز خطة العمل الشاملة المشتركة عن تقديم حلٍ دبلوماسيٍ دائمٍ للملفّ النووي الإيراني.
وفي الوقت نفسه -وفقًا لباريس- فإن المحادثات الشاملة الجديدة مع طهران ستؤولُ إلى الفشل في حال استغلَّ الإيرانيون الضغط في الجوانب «الإقليمية» للمماطلة والضغط في مسار المفاوضات، وتلعبُ باريس دورَ وسيطٍ دبلوماسيٍ بين إيران ودول المنطقة، ويتَّضح ذلك في المؤتمر الإقليمي المُقام في بغداد في 28 أغسطس 2021 بعنوان «مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة».
كما أثَّر السلوكُ الإيراني الإقليمي على نهج السياسة الخارجية الفرنسية تجاه إيران منذ ثورة 1979م ولا سيما في لبنان، فطموحُ فرنسا في أداء دورٍ قياديٍ في صياغة المسار السياسي بلبنان، يُعتبرُ عاملًا رئيسيًا في تحديد ملامح العلاقات الثُنائية بين باريس وطهران، وتتأرجحُ سياسةُ فرنسا تجاه لبنان بشكلٍ كبير وتختلفُ تبعًا لرؤى الرؤساء الفرنسيين، فعلى سبيل المثال كانت العلاقة الشخصية التي جمعت بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عاملًا مؤثرًا بصورةٍ كبيرة على النظرة الفرنسية للجمهورية الإيرانية، أمَّا الرئيس نيكولا ساركوزي فقد أثَّر تحالُفه مع تل أبيب على تحديد السياسة الخارجية الفرنسية تجاه إيران، وفي نهاية المطاف ستكون العلاقات الدبلوماسية بين باريس وطهران أيضًا عنصرًا مؤثرًا على تحديد مسار الخط الدبلوماسي الفرنسي في الساحة السياسية اللبنانية بعيدًا عن التوجُّهات الأمريكية. وما يزال انعدام الثقة بين فرنسا وإيران يقفُ عقبةً رئيسةً أمام تعزيزهما للعلاقات الثُنائية، إذ إنَّ عدمَ استعداد الأوروبيين لتقديم الأولوية للسوق الإيرانية على تحالُفهم عبر المحيط الأطلسي مع واشنطن -أثناء فترة الرئيس دونالد ترامب (2017م-2021م)- يُبرّر صعوبةَ أنّ تؤدي عواصمُ أوروبا دورًا مستقلًا لمعالجة الملفّ النووي الإيراني، كما أنَّ استقلاليةَ القطاع الخاص الأوروبي -ليس على مستوى الدول الأوروبية فحسب بل على مستوى الاتحاد الأوروبي- يُفسِّر السببَ الذي جعلَ أغلبَ الشركات الخاصة الأوروبية تأخُذ بنصيحة إدارة ترامب بعدم التعامل مع إيران.
وتُدرك القيادةُ في إيران محدوديةَ قُدرة أوروبا على التحرُّك في المجال الاقتصادي؛ ممّا قاد إلى تداعياتٍ سياسية، فبعضُ المعارضين في الداخل الإيراني ومنتقدي حكومة إبراهيم رئيسي، يرون أنْ تتفاوضَ النُخبة السياسية-الدينية الإيرانية مباشرةً مع الإدارة الأمريكية لحلِّ المشاكل الاقتصادية الحرِجة التي تواجهُ إيران، فيما يرفضُ ذلك المرشد الإيراني علي خامنئي ويرى تبنّي سياسةَ الاتجاه نحوَ الشرق (الصين والهند) والشمال (آسيا الوسطى وروسيا).
وتعني حالةُ الانغلاق في السياسة الإيرانية، استحالةَ موافقة المرشد الإيراني على عقد محادثاتٍ معلنة مع واشنطن، وفي الوقت نفسه الاستفادة من التقارُب مع الاقتصادات الروسية والصينية والهندية، ولكن هذا الجمود في السياسة الخارجية الإيرانية لا يعني أنَّ إيران ستُحجِم عن تنفيذ تهديداتها المتعلِّقة بالتصعيد النووي، بل يتزايد هذا الخطر في عهد رئيسي، إذ كانت محاولة الأوروبيين للتوصّل إلى اتفاقٍ نوويٍ أوسع مع إيران تستندُ إلى إقناع «المعتدلين» الإيرانيين دبلوماسيًا بأنَّ أيَّ عملية تطبيعٍ اقتصاديٍ بين الجانبين تستلزمُ إبرامَ اتفاقٍ شامل، ولكن لم يعُد هذا هدفًا يسعى الدبلوماسيون الأوروبيون لتحقيقِه منذ تولّي «المتشدِّدين» الإيرانيين الرئاسة.
وفي إيران فإنَّ الاختلاف في الخطاب الإيراني بين التشدُّد والدبلوماسية، يُستغلُ لخلقِ الفُرقة بين خصوم إيران من خلال بثِّ النزاع بين بروكسل وواشنطن، حيث كانت هذه تمثل استراتيجيةَ إيران منذ عام 1990 وحتى عام 2005، ولاحقًا سعت إيران إلى تقسيم خصومها بين مؤيدين للحوار مع إيران كقوةٍ إقليمية لا غنى عنها، ومؤيدين لاستراتيجيةٍ أكثرَ صرامةً تجاه طهران.
أمّا على الجانب الاقتصادي الفرنسي فمِن المحتمل ألَّا تسمحَ تسويةٌ نوويةٌ مستقبلية مع إيران للشركات الفرنسية بالعودة إلى السوق الإيرانية كمستثمرين على المدى القصير، إذ قد يحتاجُ ذلك إلى تطبيعٍ دبلوماسي بين طهران وواشنطن، أولًا.
إنَّ انتخاب رئيسٍ إيرانيٍ «محافظ» يفرضُ تحديًا أمام الدبلوماسيين الفرنسيين يتمثّلُ في إحكام سيطرة الأجهزة الأمنية الإيرانية على المشهد السياسي في البلاد، ويجبُ عليهم التغلُّب على هذا التحدّي، وسيزدادُ انعدامُ الثقة بين فرنسا وإيران -والموروثة من الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينات- في عهد رئيسي، ممّا سيُصعّب على الدبلوماسيين الفرنسيين الدعوةَ إلى الحوار مع رئيسٍ إيرانيٍ متّهمٍ بانتهاك حقوق الإنسان، وعلى الرغم من ذلك، قرّرَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إقامةَ علاقةٍ مباشرةٍ وشخصية مع رئيسي؛ بهدف استغلال الملف الإيراني لإبقاء فرنسا كلاعبٍ فاعلٍ في المفاوضات النووية والإقليمية. وتستمرُ فرنسا في ممارسة السياسة الواقعية بالرغم من الاختلافات الأيديولوجية الكبيرة بينها وبين إيران، فلن تستطيعَ فرنسا الدفع باستراتيجيتها المتمثلة في تحقيق توازُنٍ بين ضفَّتي الخليج في ظلِّ رئاسةِ شخصيةٍ «محافظة بشدّة»، ومن المُحتمل أن يؤدي سلوكُ «المتشدِّدين» في إيران إلى إعادة التقارُب بين بروكسل وواشنطن؛ إذ ما يزال احتمالُ عودة العلاقات الاقتصادية بين دول أوروبا وإيران مستبعدًا.
من الأرجح عدمُ عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبلَ عام 2018م، فليس من المتوقع أنْ يُراهن النظامُ الإيراني من جديد على التقارُب الاقتصادي مع الأوروبيين بسبب تبعيَّتهم الاستراتيجية لواشنطن وبسبب استقلالية القطاع الخاص الأوروبي عمومًا والفرنسي خصوصًا، وستركّز السياسةُ الدولية والإقليمية لإيران -على الأرجح- النظرَ إلى الشرق على المستوى الدولي وتطوير علاقاتها الاقتصادية مع الدول المجاورة لها على المستوى الإقليمي. وهذه الخيارات والاحتمالات الاقتصادية الجديدة تجعلُ احتمالَ عودة إيران إلى الدبلوماسية الاقتصادية الأوروبية -ولا سيما الفرنسية- مستعبدًا خلال السنوات الأربع أو الثماني القادمة من رئاسة رئيسي.
ونظرًا لتبنّي الحرس الثوري والرئيس الجديد في إيران نهجًا مواليًا لروسيا والصين فلن يكون تحسينُ العلاقات مع أوروبا وفرنسا عنصرًا مهمًا في استراتيجية إيران الاقتصادية المستقبلية، ومن ثمَّ سيبقى الجانبُ الاقتصادي في الدبلوماسية الفرنسية تجاهَ إيران هامشيًا على المدى القصير، ومن المحتملِ أنْ تتأثرَ العلاقات الثُنائية بين فرنسا وإيران بملفات القضايا الرئيسة مثل برنامجي إيران النووي والصاروخي وسياستها الإقليمية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد