مع استمرار المحادثات النووية الإيرانية في فيينا، تشير الدلائل إلى أن «المتشددين» في البلاد يدعون لوقف المحادثات الحالية غير المباشرة مع واشنطن، التي قد تفضي إلى إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015م». ونستذكر هنا بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية في 2018م، استهدفت القوات العسكرية الأمريكية قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق في أوائل يناير 2020م، ومنذ ذلك الحين، يدعو «المتشددون» في إيران إلى «انتقام قاسي» من الولايات المتحدة.
ويبدو من غير المرجح أن يحدث هذا «الانتقام القاسي»، ما دامت إيران تشارك في المحادثات النووية، لاسيما إذا أصرت واشنطن على إنهاء عملياتها شبه العسكرية خارج الحدود الإقليمية، التي قادها سليماني في عددٍ من دول الشرق الأوسط. وتأمل واشنطن بغياب سليماني، أن تقلص طهران أنشطة ميليشياتها في المنطقة.
ويدفع «المتشددون» في إيران الفريقَ التفاوضي الإيراني، إلى عدم الرضوخ لضغوط واشنطن. وتماشيًا مع موقف المرشد الإيراني والقائد العام للقوات المسلحة علي خامنئي، يسعى «المتشددون» إلى إبقاء خياراتهم مفتوحة، في حال فشلت المحادثات النووية، ويتطلعون أن ينفذ الحرس الثوري الإيراني هذا «الانتقام القاسي» عاجلًا، في حال عدم التوصل لاتفاق نووي.
وبكل بساطة، تجاهل «المتشددون» حقائق جلية، إذ تشير التقارير إلى أنه بعد مقتل سليماني، وخوفًا من التعرض لرد انتقامي شديد على يد واشنطن، تنحَّى الحرس الثوري الإيراني وذراعه فيلق القدس جانبًا، بدلًا من السعي لتنفيذ «الانتقام القاسي»، الذي توعَّدوا به.
ما حدث هو أنه في مقابل الضربات المستهدفة المعلن عنها مسبقًا بقيادة إيران على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، سمحت واشنطن لطهران بحفظ ماء وجهها، في حال التزمت الأخيرة بإبرام اتفاق نووي أمتن. ومع ذلك قاوم «المتشددون» المحاولات، التي قام بها الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني لصياغة اتفاق جديد مع واشنطن، إذ اتخذ البرلمان الإيراني «المتشدد» خطوةً إضافية تتمثل في تمرير «مشروع قانون الانتقام القاسي (لمقتل سليماني)»، الذي يضم ثلاثة مستويات لعرقلة المفاوضات النووية.
ومنذ ذلك الحين، تغيرت الأمور إلى الأسوأ بالنسبة لإيران؛ فهي الآن بحاجة ماسة إلى إبرام اتفاق نووي لرفع العقوبات الأمريكية، التي تستهدف اقتصادها. وبحذر أكثر، تتعهد طهران بتنفيذ «انتقامها القاسي» من منفّذي عملية الاستهداف من الدائرة المقربة لترامب؛ أولئك الآمرين باستهدافه، لاسيما أن استهداف سليماني نُفِّذ أثناء إدارة ترامب.
وقال الرئيس الإيراني «المتشدد» الحالي إبراهيم رئيسي، إنه «يجب محاكمة الرئيس الأمريكي السابق، وإلا فإنه سيواجه الانتقام». ونشر الموقع الرسمي لخامنئي مقطع فيديو متحرك، يصور هجومًا بطائرة مسيرة يستهدف ترامب. وقال قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي: إن «الانتقام القاسي لإيران تحقق جزئيًا، بعد استهدافهم قواعد عسكرية أمريكية في العراق»، مؤكدًا أن «الجزء الثاني منه للبلاد لم يأتِ بعد، ويتضمن إخراج القوات الأمريكية من المنطقة».
لكن المواقع الإخبارية المرتبطة بصحف «متشددة»، تؤكد أنه لا جديد في التصريحات المذكورة؛ لأنها تعكس مواقف إيرانية سابقة، إذ أصروا على أن «الانتقام القاسي» لإيران يجب أن يشمل تدمير القوة الأمريكية، وإحياء «الحضارة الإسلامية» بقيادة إيران، وأدانوا المسؤولين الحكوميين لسلبيتهم في المحادثات النووية، ولاستمرارهم بالتشاور مع «الشيطان الأكبر»، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ويرى «المتشددون» أن خامنئي يقف إلى جانبهم في هذا المسألة، أما وكالة «فارس» المقربة من خامنئي تقف علانية مع «المتشددين»، فيما يتعلق بالسعي لـ «الانتقام القاسي» لمقتل سليماني.
وتوعدت حكومة رئيسي القادة الأمريكيين المشاركين في مقتل سليماني، أن تجعلهم يختبؤون خوفًا من الانتقام، في محاولة منها لاسترضاء منتقدي الحكومة، ممن يعارضون بشدة تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. ويدعم الحرس الثوري الرئيس الإيراني في الوقت الحالي، مؤكدًا أن ما يُسمَّى بقوات المقاومة -في إشارة إلى الوكلاء الذين تموّلهم إيران والجماعات شبه العسكرية في المنطقة- سينفذون بالتأكيد «الانتقام القاسي» لطهران.
وحذَّرت واشنطن طهران من عواقب وخيمة، إذا تعرَّض أي أمريكي للهجوم، بعد أن فرضت إيران عقوبات على 51 فردًا لتورّطهم في مقتل سليماني.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، يبدو أن وقت ومكان «الانتقام القاسي» النهائي لإيران، أصبح يعتمد بصورة متزايدة على التقدم في محادثات فيينا. وفي غضون ذلك، للحفاظ على استمرارية المحادثات النووية، تحاول طهران من خلال التصريحات العامة، الحد من زخم «الانتقام الصعب»، الذي توعدت به ترامب ودائرته الداخلية؛ من أجل التوصل إلى اتفاق لرفع العقوبات في هذه الفترة الانتقالية مع فريق بايدن. وعلى الرغم من أن المرشد الإيراني يواصل خطابة المتشدد ضد الولايات المتحدة، إلا أنه في حقيقة الأمر يسعى لتأخير أي «انتقام قاسي»، إلى حين حصد بعض النتائج من محادثات فيينا. ويبقى أن نرى ما سيحدث بعد ذلك، في حال فشل التوصل إلى اتفاق نووي، فقد يقرر خامنئي إطلاق العنان لـ «الانتقام القاسي» في البلاد؛ لحفظ ماء الوجه في الداخل الإيراني. لكن بالنظر إلى التطورات الأخيرة، فإن «الانتقام القاسي»، الذي تروّج له إيران، أصبح احتمالًا بعيد المنال.