الاتفاق النووي والضمانات الروسية.. الدوافع والتداعيات

https://rasanah-iiis.org/?p=27584

مقدمة

في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة وأوروبا والدول المتحالفة عقوبات غير مسبوقة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، خرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 05 مارس 2022م ليؤكد ضرورة أن تمنح الولايات المتحدة روسيا ضمانات، بألا تؤثر العقوبات الغربية ضد بلاده في التعاملات بين إيران وروسيا عند تنفيذ الاتفاق النووي. وأعلن لافروف أنه «إمّا أن تتحقق مصالح روسيا في الاتفاق النووي، وإما ألَّا يجري إحياء هذه الاتفاقية».

قُوبِلت تصريحات لافروف برفض أمريكي قاطع، إذ أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن «مطالب لافروف لا علاقة لها بالاتفاق النووي»، وأنها «خارج السياق»، واعتبرت الولايات المتحدة أنها وروسيا تربطهما مصلحة مشتركة في إعادة إحياء الاتفاق النووي، ويبدو أن إيران فوجئت بالطلب الروسي، لذا شددت على مصلحتها الأساسية المتمثلة في إعادة إحياء الاتفاق النووي بمعزل عن أي قضايا ثنائية قد يثيرها أطراف الاتفاق. في إطار هذه التصريحات الروسية، وردود الفعل عليها من جانب الولايات المتحدة وإيران، تُثار تساؤلات بشأن الملابسات التي خرج فيها التصريح، والأهداف الروسية من ورائه، وردود الفعل الأمريكية والإيرانية، وتداعياتها على مفاوضات إحياء الاتفاق النووي وعلاقة إيران بروسيا، واتجاهات الولايات المتحدة للتعاطي مع هذه المتغيرات. للإجابة عن هذه التساؤلات، يتناول تقدير الموقف هذا العناصر الآتية:

أولًا: مفاوضات نووية في بيئة معقدة

جرت المفاوضات النووية في ظل بيئة شديدة التعقيد، أبرز ملامحها:

1. التوتر المتصاعد بين روسيا والغرب: تشهد علاقات روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة مواجهة متصاعدة، ربما لم تشهدها الساحة الدولية منذ الحرب الباردة، وأصبحت أزمة أوكرانيا هي التي تستحوذ على اهتمام العالم وقياداته ومؤسساته الدولية، وتراجعت إلى حدٍّ ما الاهتمامات بغيرها من القضايا، بما فيها القضايا المرتبطة بالشرق الأوسط، ولا شك أن الأزمة ألقت بظلالها على المفاوضات النووية.

2. تفاهمات مرتقبة بين إيران والغرب حول الاتفاق النووي: تقترب المفاوضات النووية مع إيران من خط النهاية، وقال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: «أعتقد أننا لم نقترب مطلقًا إلى هذا الحد من إبرام الاتفاق كما نحن عليه الآن». لا شك أن إيران استفادت من الوضع في أوكرانيا بصورةٍ ما، في ما يتعلق بتحسين موقفها التفاوضي وتخفيف حدة الضغوط الأمريكية، في ظل الانشغال الغربي بالمواجهة مع روسيا باعتبارها قضية أكثر إلحاحًا. وحُسمت أغلبية القضايا الخلافية، وبقيت قضايا محدودة بحاجة إلى قرار سياسي من جانب الولايات المتحدة ومن جانب إيران.

3. دور منتظر لروسيا في وفاء إيران بالتزاماتها النووية: جاءت سلسلة من الإجراءات لتواكب التقدم على صعيد المفاوضات، الإجراء الأول كان إعادة الولايات المتحدة العمل بالإعفاءات النووية، التي سبق وألغاها الرئيس دونالد ترامب في مايو 2020م في إطار إستراتيجية الضغوط القصوى، التي تسمح لروسيا بالتعاون مع إيران في المشاريع غير العسكرية في محطة بوشهر للطاقة النووية، ومنشأة أراك للماء الثقيل، ومفاعل طهران للأبحاث، إضافة إلى نقل الفائض من اليورانيوم المخصب والماء الثقيل وأعمال الصيانة والتطوير. والإجراء الثاني هو التفاهمات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن تنفيذ البروتوكول الخاص بالوكالة، وعودة إيران إلى التزاماتها في الاتفاق النووي، والذي أيضًا لروسيا دور مهمّ في تنفيذه.

4. عقوبات على قطاع الطاقة الروسي وظهور إيران مصدرًا بديلًا: بينما تفرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية على روسيا، ومن ثمّ تتزايد أسعار الطاقة بصورة غير مسبوقة، نجحت إيران في ظل غض الطرف الأمريكي عن تطبيق العقوبات في أن تصل بصادرات النفط الإيرانية إلى 1.5 مليون برميل من دون الاتفاق النووي، وقد يحتاج الغرب إلى دخول إيران إلى سوق الطاقة بديلًا لروسيا، للسيطرة على ارتفاع الأسعار على المدى القصير، وتوفير بديل لأوروبا على المدى البعيد. وحسب التقديرات لدى إيران فإن نحو 80 مليون برميل نفط مخزنة في ناقلات ومخازن دول آسيوية يمكن تسويقها بشكل فوري.

5. موقف متأرجح من إيران بشأن الأزمة الأوكرانية: لم يتّسم الموقف الإيراني بالوضوح التام منذ أن قُرِعت طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إذ واجه موقفها المؤيد لروسيا انتقادات واسعة حاولت لملمته واستدراكه تاليًا، لكنها حاولت أن تتخذ موقفًا متوازنًا، لحساسية وضعها الراهن في ظل المفاوضات الجارية مع الغرب.

6. تحالف ضرورة بين روسيا وإيران: يجمع روسيا وإيران مصالح مشتركة، أبرزها العداء للولايات المتحدة، والرغبة في إعادة هيكلة النظام الدولي، فضلًا عن التعاون في بعض الملفات الإقليمية كسوريا. لكن توجد خلافات ومصالح متقاطعة، فقد سبق واتهم وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، روسيا بعرقلة الاتفاق النووي لعام 2015م، لهذا فإن الموقف الراهن من روسيا ليس بجديد، فإيران طالما نظرت إلى إلحاق روسيا الضرر بها، فضلًا عن عدم التعاون الكافي في مواجهة إيران للعقوبات الأمريكية، والتعاون مع إسرائيل في سوريا والإضرار بمصالح إيران، فضلًا عن تأييد القرار الدولي الأخير ضد الحوثيين باليمن، ناهيك برواسب تاريخية قديمة لها صلة بنزعة الاستعمار السوفييتية للأراضي الإيرانية.

ثانيًا: الأهداف الروسية

من الواضح أن رفع سقف المطالب الروسية ترافق مع إعلان الولايات المتحدة أنها تدرس حظر واردات النفط الروسي مع حلفائها الأوروبيين، كردٍّ على الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك ترافق مع إعلان طهران أنها وافقت على خريطة طريق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، لحل القضايا التي تعطل المفاوضات مع القوى العالمية في فيينا؛ بهدف استعادة الاتفاق النووي المتعثر. لذا تسعى موسكو إلى تقويض العقوبات الغربية، وقطع الطريق على إيران ومعها الدول المفاوضة لجهة توظيف الاتفاق ونتائجه، للالتفاف على الأزمة الناتجة عن العقوبات التي فُرِضت على روسيا، ومنع مسار التراجع في اقتصاداتها مستقبلًا. ويمكن توضيح سلة الأهداف الروسية على النحو الآتي:

1. توظيف ورقة الاتفاق النووي للضغط على الغرب: تسعى روسيا إلى توظيف الخلاف الحالي بين الغرب وإيران حول الاتفاق النووي لصالحها في أحداث أوكرانيا، إذ تعتقد روسيا أنه إذا جرى إحياء الاتفاق فسوف يتخلص الغرب -وعلى رأسه الولايات المتحدة- من واحدة من القضايا الشائكة، وسوف يزداد التركيز على موضوع أوكرانيا وفرض مزيد من الضغوط على موسكو، ولا شك أن روسيا تمتلك دورًا مهمًّا في عملية الضمانات والتزام البروتوكول الإضافي وبعض البنود الفنية للاتفاق النووي. إنّ موقف روسيا قد يهدد بكسر الإجماع على منع إيران من أن تكون على وشك امتلاك القدرة على تصنيع الأسلحة النووية، وتجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها القوى الغربية، فهي تدرك حيوية هذا الملف بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي تحرص على سرعة السيطرة على برنامج إيران النووي، في ظل الحديث عن تقليل إيران الفترة اللازمة لتطوير سلاح نووي لأقل من عام.

2. تأخير عودة النفط الإيراني إلى السوق: إنّ إحياء الاتفاق النووي في هذا الفترة الراهنة لا يصبّ في مصلحة روسيا، لأنه في حال رفع العقوبات عن إيران وعودة نفطها إلى السوق سوف تقلّ أولًا ​​حاجة السوق إلى النفط الروسي إلى حدٍّ ما، وثانيًا تشير التقديرات إلى أن أسعار النفط ستنخفض أيضًا بنسبة 10 إلى 15%. ونتيجة لذلك، من مصلحة روسيا تأخير عودة النفط الإيراني إلى السوق قدر الإمكان، وجدير بالذكر أن نقاشًا أمريكيًّا يدور حول رفع العقوبات عن فنزويلا، لتكون مصدِّرًا بديلًا للنفط الروسي، وهو أمر متوقع أن يحدث مع إيران، لا سيما في حال توقيع العقوبات، وهو ما يسقط ورقة مهمة في يد الروس في صراعهم الراهن مع الغرب.

3. إحداث ثغرة كبيرة في العقوبات والالتفاف عليها عبر إيران: تريد روسيا من خلال مطلبها إحداث ثغرة، يمكن من خلالها التغلُّب على العقوبات المفروضة عليها. والإشكالية أنه في حال وافقت الولايات المتحدة على الطلب الروسي فلن يكون من جانب الولايات المتحدة وأوروبا وحسب، بل قد يشمل الدول الأخرى، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وكندا، وغيرها ممن فرضوا عقوبات على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، إذ يجب أن توافق هذه الدول على إعفاء العلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا وإيران من العقوبات الخاصة بأزمة أوكرانيا، وهو ما يعني فتح ثغرة في العقوبات الغربية على روسيا.

4. رغبة روسيا في بقاء إيران تحت وطأة العقوبات الغربية: تخشي روسيا أن يفضي إحياء الاتفاق النووي إلى تحسين إيران لعلاقتها بالولايات المتحدة والدول الأوروبية، ومن ثمّ انتفاء حاجة إيران إلى روسيا كشريك إستراتيجي، وخسارتها كدولة حليفة في الإقليم الذي تحرص على الحضور المؤثر فيه، ومنافستها في أسواق الطاقة.

ثالثًا: رفض إيراني وأمريكي لمطالب روسيا

1. رفض إيران محاولة إقحام المفاوضات النووية في صراع روسيا مع الغرب: ترى إيران أنه لا ينبغي للخلافات الراهنة بين روسيا والغرب أن تؤثر في مفاوضات فيينا، فقد استندت المفاوضات إلى قاعدة أساسية أرستها إيران وروسيا والصين، وهي عدم إقحام أي قضايا جانبية في المفاوضات، كملف سلوك إيران الإقليمي، أو البرنامج الصاروخي. ومثَّلت الخطورة الروسية رغبة في خلط الأوراق وربط الأزمة الأوكرانية بالملف النووي، ورفضت إيران هذا الخلط، فإيران وكل الأطراف حرصت على أن تنظر إلى ملف المفاوضات النووية كملف خاص. وترفض إيران أخذ روسيا مفاوضات فيينا كرهينة لتحقيق مصالحها، بعد المشكلات التي نشأت بين روسيا والغرب بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا.

واعتبر معظم الصحف الإيرانية الطلب الروسي محاولة من موسكو لعرقلة الاتفاق النووي ومصادرته بهدف ابتزاز الغرب، وعلى الرغم من أن المنددين بالموقف الروسي يلقون باللائمة على الحكومة الإيرانية، التي منحت روسيا صلاحيات قد تصل إلى درجة الوصاية في المفاوضات النووية، فإنّ تأكيد وزير الخارجية أن طهران لن تسمح لأي عمل خارجي بالتأثير في مصالحها في المحادثات النووية، اعتبره كثيرون بمثابة إعادة تصحيح للمسار من قِبل الحكومة.

2. حرص إيراني على إحياء الاتفاق النووي لمعالجة الأزمة الداخلية: ترى إيران أن لديها مصلحة أساسية في إعادة إحياء الاتفاق النووي،من أجل مواجهة التحديات الداخلية المتزايدة، فحكومة إبراهيم رئيسي تعوِّل على العودة إلى الاتفاق كرافعة لتعزيز الشرعية، وتهدئة التوترات الداخلية، وإنهاء العزلة الدولية.

3. جدل داخلي بشأن موقف روسيا وسياسة التوجُّه شرقًا: هذا التعقيد المستجد على ملف المفاوضات النووية بعد موقف روسيا أعاد إلى الواجهة تعارض الأصوات الداخلية في إيران بين المنتقدة والمعارضة لتوجُّهات حكومتها في ما يتعلق بالاتفاق النووي ومسارات المفاوضات الحالية، فبينما رفع بعض قوى «التيار المتشدد» سابقًا صوتهم بإعلان معارضتهم المفاوضات والمطالبة بوقفها، عارضت أصوات «إصلاحية»، ولا تزال تعارض، اعتماد السياسة الخارجية الإيرانية في الأعوام الأخيرة على سياسة «التوجُّه شرقًا»، وما يقتضيه من وضع كل البيض الإيراني في السلّتين الروسية والصينية حصرًا، وبعيدًا عن إعمال مبدأ التوازن في السياسات الخارجية وتوزيع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية بين المعسكرين الشرقي والغربي، لضمان الحصول على خيارات أوسع لترميم الاقتصاد بكل قطاعاته المتهالكة، خصوصًا أن الموقف الروسي الأخير عزز الانتقادات المستمرة منذ الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة إبراهيم رئيسي لموسكو، وما صاحبه من جدل حول نفعية توجُّه إيران شرقًا في سياساتها الخارجية.

4. التعويل الإيراني على الرفض الأمريكي لطلب روسيا: تدرك إيران أن الولايات المتحدة سترفض الطلب الروسي، لأنها لو وافقت عليه سيؤثر سلبًا في فاعلية العقوبات التي فرضتها على موسكو مؤخرًا. وهذا ما حدث بالفعل، إذ رفض وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مطالب روسيا، ووصفها بأنها «غير ذات صلة»، قائلاً إنّ «العقوبات المفروضة بعد غزو أوكرانيا لا علاقة لها بالاتفاق النووي الإيراني». كما تدرك إيران أن الولايات المتحدة وعديدًا من الدول الأوروبية تسعى من خلال استخدام العقوبات الدولية على صادرات النفط الروسية إلى جعل الحرب الأوكرانية مكلفة ماديًّا على روسيا، خصوصًا أن دخل النفط يمثل 36% من إجمالي الميزانية الروسية للعام الماضي 2021م. وفي ظل الحاجة الدولية، وتحديدًا الأوروبية، إلى النفط والغاز الروسي تسعى الولايات المتحدة إلى إيجاد أسواق بديلة لتعويض هذا الاحتياج، ويمثل الاتفاق النووي مع إيران وتمكُّنها من العودة إلى أسواق النفط والغاز العالمية بديلًا تعويضيًّا مناسبًا قادرًا على الاستبدال بصادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، بالنظر إلى امتلاك طهران لثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا. ولا شك أن إيران تنظر إلى هذه التطورات في إطار مصلحتها في استعادة الاتفاق في أقرب وقت.

رابعًا: نتائج وتداعيات الضغوط الروسية

1. غياب التنسيق بين روسيا وإيران واحتمال تفاقم الخلافات: طرحت روسيا مطلبها دون تنسيق مع إيران، حتى إنّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، قال في السابع من مارس: «شاهدنا تصريحات السيد لافروف في وسائل الإعلام، وننتظر الاستماع إلى التفاصيل بشأنها عبر القنوات الدبلوماسية». قد يشير ذلك إلى بداية وجود فجوة في الموقف بين الجانبين، قد تتضح سواء على صعيد المفاوضات أو على صعيد المواقف من قضايا أخرى.

2. تعقيد المفاوضات النووية: تفتح روسيا بطلبها ضمانات بشأن علاقتها مع إيران الباب أمام عرقلة المفاوضات الجارية في فيينا، وإذا أصرت روسيا على مطلبها فقد تأخذ المفاوضات إلى مسار آخر جانبي، بعدما قطعت الأطراف شوطًا مهمًّا نحو إحياء الاتفاق. لكن مع ذلك ستواجه روسيا تحديًا في هذا الشأن، فالعودة إلى الاتفاق النووي قرار إيراني-أمريكي بالأساس، يرتبط بعودة كلا الطرفين إلى التزاماته، وفي ظل الظروف الدولية الراهنة فإن الأمريكيين والغرب قد يبدون رغبة في حسم هذا الملف، لتركيز الجهد على مواجهة طموحات بوتين المتزايدة.

3. البحث عن بديل لروسيا في مجال التعاون النووي مع إيران: تتولى روسيا مسؤولية فنية في تنفيذ بنود الاتفاق النووي، من بينها ضرورة استيراد بعض العناصر الفائضة من إيران، ومنحها الكعكة الصفراء في المقابل، وغيرها، والمشاركة في تطوير برنامج إيران النووي السلمي. وإذا لم تكن روسيا مستعدة للتعاون، خصوصًا بعد أن رفعت الولايات المتحدة الإعفاءات النووية، فقد تبحث الولايات المتحدة وإيران والترويكا الأوروبية عن دولة بديلة تنقل إليها المواد النووية، وسترحب الولايات المتحدة والغرب بالتعاون في هذا الصدد، وقد تكون الوجهة الصين لو أصرَّت إيران على توجهاتها شرقًا.

4. عدم مجاراة إيران لمطالب روسيا والحفاظ على المصالح المشتركة: تحرص إيران على إحياء الاتفاق النووي كمصلحة حيوية وربما مصيرية للنظام، الذي يبحث عن تنفيذ الخطوة الثانية من الثورة، وربما استغلال التطورات الراهنة من أجل تعزيز مشروعها. لذا على الأغلب لن تنجرَّ إيران خلف تلاعب روسيا بالاتفاق النووي وتوظيفه في صراعها مع الغرب، ومع ذلك لن تتخلي إيران بالكلية عن علاقتها مع روسيا، إذ لدى البلدين مصالح مشتركة وتحالف ضرورة، أهم جوانبه العداء المشترك للغرب والولايات المتحدة.

5. الدفع بمفاوضات مباشرة بين إيران والولايات المتحدة: لعبت روسيا دورًا مهمًّا إلى جانب إيران في الحفاظ على الصفقة النووية من الانهيار، كما لعبت دورًا مساندًا لإيران على طاولة المفاوضات، وكانت وسيطًا في مفاوضات فيينا غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران.

لكن جنوح روسيا لتوظيف ملف المفاوضات في إطار صراعها مع الغرب قد يدفع بدخول الولايات المتحدة وإيران في مفاوضات مباشرة، إذ يُقطع الطريق أمام أي جهود تعرقل المفاوضات، لا سيما أن الفترة الماضية شهدت دعوات متزايدة على الجانبين لإجراء مفاوضات مباشرة، حتى يمكن التغلب على المراوغة الروسية.

خامسًا: اتجاهات الموقف الروسي

في ظل تصاعد الأزمة الأوكرانية واحتدام الصراع، فإن الأزمة تضغط على جميع الأطراف بعدم تقديم أي تنازلات، لكن المصلحة الإيرانية تستدعي إبرام الاتفاق سريعًا لتجاوز أزمتها الاقتصادية، وعدم إتاحة الفرصة لجعل ملفها ورقة مساومة في أجندة الدول الكبرى، وقد تأخذ هذه الأزمة أحد اتجاهين:

الاتجاه الأول: أن تتراجع روسيا عن متطلباتها، في ظل رغبتها في البقاء ضامنة للجانب الإيراني في المفاوضات كورقة مستقبلية، وفي ظل مؤشرات لتفاهمات روسية-أوكرانية على حلول وسط، عطفًا على اجتماعات وزيرَي خارجية البلدين في أنقرة، وإشارة لافروف إلى أن هناك احتمالية للقاء يجمع الرئيس الروسي فلاديمير وتين مع نظيره الأوكراني زيلنسكي. وفي حال إقرار العودة إلى الاتفاق فإنّ إيران ستبادر للعودة إلى الأسواق النفطية، لرفع قدرتها التصديرية إلى مليونَي برميل، والاستفادة من الأسعار المرتفعة حاليًّا، على الرغم من أن عودتها قد تسهم في خفض نسبي في الأسعار وتهدئة المخاوف في أسواق الطاقة.

الاتجاه الثاني: أن تصرّ روسيا على موقفها، الأمر الذي يدفع بإيران إلى التوجه إلى الصين لتكون ضامنًا بديلًا لروسيا، وفي هذه الحالة ستفقد روسيا ورقة هامة، وسيسرِّع ذلك عودة العلاقات الإيرانية مع العالم الغربي، والعودة إلى دور فاعل في أسواق الطاقة، والحصول على أموال كافية لدعم وكلائها في المنطقة، وشراء وتطوير الأسلحة المتقدمة.

وأخيرًا، يمكن القول إن الموقف الروسي يضرّ بمصلحة إيران الحيوية في إحياء الاتفاق النووي، وقد يلقى بظلاله على علاقات إيران مع روسيا، لكن تشابك المصالح والتعقيدات الراهنة على الساحتين الإقليمية والدولية لن يدفع بعلاقات طهران وروسيا إلى مربع الأزمة، فالبلدان رغم فجوة الثقة يدركان حاجة بعضهما إلى بعض، ويتحركان في مساحة مشتركة متفق عليها على الرغم من الخلافات وتعارض المصالح في بعض الأحيان.

وحسمت الولايات المتحدة الموقف برفض طلب روسيا، والروس أنفسهم لديهم مصلحة في إعادة إحياء الاتفاق النووي والسيطرة على طموحات إيران النووية كتقدير إستراتيجي للمخاطر على حدود روسيا الجنوبية، كما أن لديهم مصلحة في البقاء على وجودهم ضمن الاتفاق ومواصلتهم لتحمُّل مسؤولياتهم في ما يتعلق بالتعاون مع إيران والوكالة الدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني. فضلًا عن ذلك، لا ترغب موسكو في أن تولِّى إيران وجهها شطر الغرب بعيدًا عنها، لهذا قد لا تصرّ روسيا على مطلبها، خصوصًا أنه يأتي من باب المناكفة السياسية مع الغرب والتلاعب بالأوراق المتاحة، لكن لا شك أن مطلب روسيا قرَّب إيران من الغرب أكثر من أي وقت مضى، ومنح الولايات المتحدة فرصة لحرْف وجهة إيران عن توجُّهها شرقًا، لا سيما أن لإيران إغراءات هائلة، لكن سيتوقف ذلك على ما بعد الاتفاق، والقضايا الخلافية التي لا تزال إيران ترفض النقاش حولها، وأبرزها ملف الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير