مقدمة
بين عشيةٍ وضحاها، ارتفعت أسعار الطاقة من النفط والغاز لمستوياتٍ كبيرة، بعد غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير 2022م، واضطربت كلُّ الأسواق في العالم، سواءً أسواق الطاقة أو الأسواق المالية، وحتى أسواق الغذاء الرئيسية. وعلى الرغم من تضرُّر أغلب الاقتصادات العالمية من ارتفاع أسعار الطاقة، إلَّا أنه على الطرف المقابل هناك بعض الدول سوف تستفيد من هذه الأزمة.
على الصعيد السياسي، يُتوقَّع أن يكون لارتفاع أسعار الطاقة العديد من التداعيات على التكتُّلات الدولية، وقد يلعب دورًا مؤثرًا في إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات، في العديد من دول العالم.
أولًا: تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على أسعار الطاقة
تسبَّبت الاضطرابات الجيوسياسية الأخيرة المتمثِّلة بالحرب الروسية-الأوكرانية، في تحليق أسعار النفط والغاز لمستوياتٍ مرتفعة، كما كانت قبل أكثر من عشر سنوات، عقِب ثورات ما يُعرَف بـ«الربيع العربي»، التي بدأت مطلع عام 2011م.
بعد أيام من اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، فاقَ سعر برميل النفط أو خام برنت 120دولارًا للبرميل في مارس الحالي، بزيادة أكثر من 50 % عن سعر نوفمبر 2021م. أما الغاز الطبيعي، فقد شهدت أسعاره تقلبات حادة طوال عام 2021م، ولا تزال مرتفعة؛ نظرًا لأهمية ومكانة الغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، وتأثير الحرب على تعطُّل الإمدادات بفعل قرارات سياسية، بعدما تم بالفعل وقف العمل على استكمال إنشاء خط غازٍ روسي -نورد ستريم 2- إلى أوروبا.
شكل (1): أسعار النفط في الفترة من 2011- مارس 2022م
شكل (2): أسعار الغاز في الفترة من 2010- مارس 2022م
ثانيًا: فرص ومكاسب لمصدِّري الطاقة
لا شكَّ في أثر ارتفاع أسعار الطاقة الإيجابي على منتجي النفط والغاز؛ نظرًا لأنه يشكِّل جانبًا كبيرًا من إيراداتهم المالية والموازنة العامة للدولة، بعد سنوات من تدني أسعار برميل النفط. تشغل منظمة الأوبك أكبر وأهم تكتل لمنتجي النفط ومكثفات الغاز في العالم، وتضم كلًا من: السعودية، الجزائر، العراق، إيران، فنزويلا، الكويت، ليبيا، الإمارات، نيجيريا، الجابون، أنغولا، الكونغو، وغينيا الاستوائية. علاوةً على تحالف إضافي هو «أوبك بلس»، ويضم عدة دول، أبرزها: روسيا وأذربيجان وكازاخستان والبحرين وماليزيا وعُمان.
ساعدَ ارتفاع أسعار النفط حاليًا في صياغة موقف سياسي واقتصادي موحد لمنتجي النفط تجاه الغرب، بعدما التزم تحالف «أوبك بلس» موقفًا موحدًا رفض بموجبه -حتى الآن- ضخ كميات كبيرة وسريعة من النفط تخفِّض الأسعار كثيرًا، وفضَّل الالتزام بخطط زيادات إنتاج تدريجية تم الاتفاق عليها من العام الماضي، وفق أهداف تحالف «أوبك بلس»، الذي يضم روسيا.
أما ارتفاع أسعار الغاز، فيصب في صالح كبار مصدِّري الغاز الحاليين في العالم، مثل روسيا -التي ما زالت تصدِّره إلى أوروبا وغيرها من الدول- وقطر والولايات المتحدة والجزائر، بالإضافة إلى زيادة جاذبيته لدى الدول التي اكتشفت كميات كبيرة منه مؤخرًا، كمصر وتركيا بحوض البحر المتوسط، كذلك توجُّه دول الخليج لاستغلال الاحتياطات الضخمة منه مستقبلًا.
إيران أيضًا من بين المستفيدين من ارتفاع أسعار الطاقة، من عدة نواحٍ. تعاني إيران من شح إيراداتها المالية لأكثر من ثلاث سنوات، إذ تعتمد بدرجة كبيرة على صادرات النفط. لكن بسبب العقوبات التجارية والنفطية المفروضة عليها من قِبَل الولايات المتحدة، تراجعت صادرات النفط لأكثر من 60% من حجمها قبل العقوبات، واقتصرت على دول معينة، أبرزها الصين. لذا فإن ارتفاع أسعار النفط والغاز سيُفيد إيران من عدة نواحي، وهي كالتالي:
- انتعاش الإيرادات المالية من جرَّاء ارتفاع الأسعار: سعر برميل النفط في حدود 120 دولارًا، ويقارب ضعف السعر الذي توقعته الموازنة الإيرانية للعام المالي المقبل 1401 ه.ش (60 دولارًا للبرميل بالموازنة). على الرغم من أن إيران صاغت الميزانية على أساس استمرار العقوبات وتصدير كميات متواضعة، إلا أنها بدأت في تغيير تلك التقديرات بزيادة المتوقع تصديره من النفط بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، وكذلك رفعت السعر المُتوقَّع.
- الاستفادة من تعطُّش السوق العالمي للنفط: بزيادة كميات النفط المُصدَّر للخارج، حتى في ظل استمرار العقوبات، بتقديم خصومات سعرية تشكِّل إغراءً لكثير من الشركات، وحتى بعض الحكومات لضرب الحائط بالعقوبات الأمريكية، في مقابل ضمان إمدادات ثابتة وأقل من سعر السوق، خاصةً من قِبَل الدول كثيفة الاستهلاك للطاقة.
- لا تنطبق نفس المنافع بالنسبة للغاز: رغم امتلاك إيران احتياطات ضخمة منه، لكنها تصدره بكميات محدودة للغاية حاليًا للعراق، بل حتى تستورده -من تركمانستان- لسد العجز في بعض أقاليمها الشمالية؛ بسبب كثافة استهلاكها المحلي من الغاز، وافتقارها للبُنية التحتية والاستثمارات اللازمة للتصدير، لكن على المدى البعيد قد يتغير الأمر، مع تغيُّر الإستراتيجيات الأوروبية تجاه روسيا.
- ورقة في صالح إيران في مفاوضات الاتفاق النووي: إذ إن رفع حظر النفط عن إيران يزيد من الكميات العالمية، ويخفِّض الأسعار المرتفعة نسبيًا؛ نظرًا لأن الفجوة فيما بين الإنتاج والاستهلاك العالمي قُدِّرت بـ 900 ألف برميل يوميًا، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية في يناير الماضي، ومُتوقَّع أنَّ رفعَ الحظر النفطي عن إيران سوف يزيد الصادرات الإيرانية بقرابة مليون برميل يوميًا على الأقل.
فنزويلا القابعة تحت وطأة العقوبات الأمريكية، هي الأخرى مثل إيران سوف تستفيد كثيرًا من ارتفاع أسعار النفط، وهناك احتمالية لتخفيف العقوبات عنها، وتحديدًا النفطية منها، بعد زيارة وفد أمريكي لفنزويلا منذ أيام، بعدها صرَّح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بإمكانية زيادة الإنتاج النفطي لبلاده بمليون برميل يوميًا، شرط الاعتراف الأمريكي بحكومته. وتنتج فنزويلا حاليًا مليون برميل من النفط، وكانت تنتج ما يزيد عن مليوني برميل يوميًا من النفط، تذهب نسبة كبيرة منها إلى الولايات المتحدة، قبل قطع العلاقات بينهما في 2019م. لكن هناك تحديات حول سرعة زيادة الإنتاج النفطي الفنزويلي وتصديره لأمريكا، تتمثل في التحالف والعلاقات الفنزويلية-الروسية من ناحية، وفي تدهور البُنية التحتية لإنتاج وتصدير النفط في فنزويلا من ناحية أخرى، بعد ثلاث سنوات من خروج الاستثمارات الأجنبية عقب القطيعة الأمريكية.
ثالثًا: خسائر وتوقعات متشائمة لمستهلكي الطاقة
في الوقت الحالي، ستكون الدول كثيفة الاستيراد للطاقة هي أبرز المتضرِّرين من الارتفاع الحالي للأسعار، مثل كثير من الدول الصناعية والنامية، وعلى رأسها أكبر الدول الصناعية في العالم كالولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان وإيطاليا وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى كلٍّ من الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا، المصنفين ضمن الدول النامية، وغيرهم الكثير من بلدان العالم بنسبٍ متفاوتة.
وتُعَدّ كلٌّ من دول الاتحاد الأوروبي، خاصةً ألمانيا، فضلًا عن الولايات المتحدة والصين والهند واليابان أكبر مستوردي النفط في العالم، والأكثر تضررًا من ارتفاع أسعاره. وكذلك ستتأثر عدة دول عربية كثيفة استيراد النفط، مثل مصر ولبنان وتونس والأردن والمغرب. أما الدول التي ستتأثر بارتفاع أسعار الغاز، فهي ألمانيا واليابان والصين والولايات المتحدة، وهي الدول التي تُصنَّف بأكبر مستوردي الغاز بالعالم.
على المدى القريب، فإن الارتفاع المبالغ فيه في أسعار الطاقة يضر بنمو الاقتصاد العالمي والمستوردين، وحتى مصدري النفط أنفسهم في بعض الأحيان، إذا ما طال الارتفاع؛ نظرًا لأن الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة يرفع من تكلفة الإنتاج ويقلل الطلب والاستهلاك العالمي، ما قد يقود في النهاية إلى ركود اقتصادي عالمي، ينخفض فيه الطلب على النفط وتنهار أسعاره لمستويات متدنية وتتأزم الميزانيات، كما سبق أن حدث في عام 2016م، عندما انهار سعر البرميل لأقل من 40 دولارًا، وتكرَّر الأمر في 2020م (انظر شكل 1)؛ بسبب الركود العالمي الناتج عن تفشي فيروس كورونا . لذا، فإن بعض كبار منتجي النفط يرى أن سعر 100 دولار سعرٌ عادلٌ للبرميل.
بالنسبة لأوروبا، فإن الضرر مزدوج، فهي تستورد بكثافة كلًّا من النفط والغاز من الخارج، فتعاني من ارتفاع أسعارهما من ناحية، وتتخوَّف من قطع الإمدادات عنها من روسيا من ناحية أخرى. وتمدُّها الأخيرة بكميات هائلة من الغاز، لا تستطيع تعويضها من أي طرف آخر وفي وقت قريب. وما لا يقل من 40% من إجمالي واردات أوروبا من الغاز تأتي من الأنابيب الروسية عبر أوكرانيا، أي أنها نقطة ضعف قوية ضد أوروبا.
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من أكبر الاقتصادات الصناعية في أوروبا وأكثرها تضررًا من ارتفاع أسعار الطاقة، سيتأثر إنتاجها الصناعي، وسترتفع فاتورة الطاقة لدى المنتجين والمستهلكين على حدٍ سواء، في وقت لم تتعافى فيه تلك الاقتصادات من الركود الاقتصادي أو التضخم من الأساس بعد إغلاقات جائحة كورونا. على سبيل المثال، تشير تقديرات صحيفة «الإندبندنت» إلى أن الأُسر البريطانية ستواجه زيادةً بما يقارب 50 مليار دولار في فواتير الطاقة المنزلية، من جرَّاء ارتفاع أسعار الطاقة، وسوف تضطر الحكومات الأوربية إلى تقديم أنواع من الدعم للأسر.
لذا، فإن نمو الاقتصاد العالمي معرَّض لصدمة حادة، إذا ما استمر ارتفاع أسعار الطاقة لمستويات كبيرة، أو استمرت الحرب الروسية-الأوكرانية مشتعلة. فغالبية الاقتصادات عانت من ركود طوال عامي 2019 و2020م، وبدأت في التعافي المحدود في عام 2021م، وكان مُتوقَّعًا أن يستمر التعافي في 2022م، لكن الحرب وأسعار الطاقة المرتفعة ستؤثر كثيرًا على تلك التوقعات، وربما يدخل العالم في ركود مجددًا ينخفض فيه الإنتاج والطلب العالمي. والأسوأ من الركود الاقتصادي، هو الدخول في حالة الركود التضخمي، حيث يصاحب الركود ارتفاعٌ في الأسعار، وبالفعل يعيش العالم اليوم ارتفاعًا حادًا في أسعار السلع الصناعية والغذائية والخدمات، لم يشهده بعض المجتمعات الصناعية منذ عقود كالولايات المتحدة وأوروبا، بينما يتضاعف الأثر التضخمي على المجتمعات النامية
أزمة ارتفاع أسعار الغذاء لا تنفصل عن الحرب وأسعار الطاقة، فهي تتأثر بعدة عومل، منها أسعار مدخلات الإنتاج، وأسعار الطاقة المستخدمة في الإنتاج والحصاد والتصنيع الزراعي، علاوةً على أثر أكبر للحرب الروسية-الأوكرانية على صادرات الحبوب الأساسية من روسيا وأوكرانيا، وهما معًا من أهم دول العالم في إنتاجها كالقمح والشعير والذرة وزيوت الطعام وغيرها.
توقعت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ارتفاعًا في أسعار الغذاء عامةً، قد يصل إلى 20%، ويبيِّن الجدول التالي (جدول 1) التغيرات السنوية، التي طالت أهم السلع الغذائية والصناعية الدولية مؤخرًا، وشهد بعضها ارتفاعات كبيرة، كالقمح بـ 66%، والذرة بـ 37%، والماشية بـ 16%، والأخشاب بـ 60%، والقطن بـ 60%، وغيرها الكثير من السلع الحيوية والتجارية.
جدول (1): قائمة بالتغيرات السعرية لأبرز السلع التجارية
لذا، فإن أزمة اضطراب الأمن الغذائي ستطال العالم كله، وبدرجة أكبر الدول المكنشفة غذائيًا على الخارج فيما يتعلق باستيراد الغذاء وخاصةً الحبوب واللحوم، مثل غالبية الدول في الشرق الأوسط، وغيرها الكثير حول العالم؛ ما قد يسفر عن اضطرابات اجتماعية في بعض البلدان. بينما نجد أن كثيرًا من البلدان الصناعية قد قلَّلت من انكشافها الغذائي على الخارج، كالولايات المتحدة وفرنسا والصين، خاصةً من السلع الأساسية كالحبوب، لذا سيكون تأثير الغلاء أقل وطأةً على شعوبها، لكن في مقابلِ معاناةٍ اقتصادية من نوعٍ آخر نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وانعكاسها في ارتفاع أسعار غالبية السلع المصنعة، ربما تقود إلى أزمة أكبر، هي ضعف الاستهلاك وتراجع الإنتاج والدخول في ركود اقتصادي جديد.
رابعًا: التداعيات السياسية المحتملة لارتفاع أسعار الطاقة
لا شكَّ أن ورقة النفط منذ اللحظة الأولى للحرب، كانت إحدى الأوراق التي ظنت روسيا أنها من خلالها يمكن أن تتجنَّب التصعيد من جهة الولايات المتحدة والغرب، لكن مع وصول العقوبات لحدٍ غير مسبوق ومطاولتها لصادرات الطاقة الروسية، فإن رهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو قد فشل، لكن لا تزال هذه الورقة مهمة ومؤثرة في يد الروس، حيث أن ارتفاع الأسعار الهائل في سوق الطاقة، قد حدث بينما لا تزال روسيا لم تخرج من السوق بصورة كلية.
وربما لا يزال هذا السلاح أحد رهانات بوتين المهمة في مواجهة الغرب، وربما تفتح العقوبات المجال أمام روسيا، من أجل الاتجاه نحو الصين الذين تربطهما رغبة تعديلية واحدة تجاه الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، ولن تتوانَ الصين عن فعل ما هو ممكن؛ حتى لا تنهار روسيا أمام الولايات المتحدة والغرب، وذلك على الرغم من التهديدات الأمريكية للصين، والضغط عليها لعدم مساعدة روسيا وإفشال الضغوط والعقوبات الغربية.
إن أزمة الطاقة تضع روسيا والصين في خندق واحد، كما وضعتهما المنافسة السياسية على الساحة الدولية، وبينما تتجه الولايات المتحدة لتطويق الصين في بحرها الجنوبي، وتعمل على تعزيز قوة المعسكر الغربي، فإن تحالف روسيا والصين يبدو حتميًا.
لا يعقل أن يتجه الغرب نحو هذه العقوبات دون حسابات دقيقة للتأثيرات السلبية على الإمدادات، وعلى السوق العالمي، وعلى النمو الاقتصادي ككل. ومن هنا تأتي أهمية المسارات التي يتحرك فيها الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة التي تُجري اتصالاتها مع حلفائها من منتجي النفط، بل ربما تتجه نحو ترميم العلاقة مع بعض خصومها؛ لمواجهة الأزمة الراهنة.
لا شكَّ أن الأزمة سوف تدفع بالأوروبيين ليكونوا أكثر فاعلية على الساحة الدولية، فالأزمة تضرب استقرار الدول الأوروبية بقوة، ولم يعُد يكفي الاعتماد على الولايات المتحدة لمعالجة الأزمات سياسيًا وعسكريًا واقتصادًيا. هذه الفاعلية الأوروبية ستتجه بالأساس إلى تخومها الجغرافية جنوب وشرق المتوسط والفضاء الأورو-آسيوي؛ لتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي، في الوقت نفسه الذي تحاصَرُ فيه روسيا، فأوروبا ستتطلع أكثر من أي وقتٍ مضى للانخراط في السياسيات العالميةـ بدلًا عن الانكفاء والاستناد على الولايات المتحدة.
من جهة ثانية، أعادت الأزمة أهمية عددٍ من المناطق كانت قد تراجعت في أولويات الولايات المتحدة، كالشرق الأوسط، فأزمة الطاقة أعادت ورقةً مهمة في يد دول الخليج، مثلما حدث مع أزمة الطاقة في سبعينات القرن العشرين. وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن دول الخليج ترغب في استغلال الأزمة، من أجل إعادة صياغة العلاقات مع الولايات المتحدة، وترفض حتى الآن دولُ الخليج الضغط، ولا ترغب في تعديل سياساتها النفطية، ولا شكَّ أن التطورات أتاحت لها مساحةً للحركة بين التكتلات الدولية الراهنة، وبالأساس هذه الدول لديها تحفُّظ على الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وعلى الانسحاب الذي فتح المجال لتهديد الأمن والاستقرار الإقليمي، وربما مخاوف بشأن فتح المجال أمام إيران في المستقبل لتحقيق توازنات متعلقة بحسابات خاصة للولايات المتحدة، دون النظر لمصالح حلفائها التقليديين.
لكن لا يبدو أن هناك رغبة من جانب دول الخليج للتلاعب بالتوازنات الدولية الراهنة والتوجُّه شرقًا، فلم يظهر بعد أن النظام الدولي بصدد تغيير باتجاه القوى الصاعدة والمنافسة للولايات المتحدة، لكن خلقت الأزمة ورقة مساومة مهمة، تقايض بها دول الخليج؛ من أجل الاحتفاظ بمكانة إستراتيجية في التفاعلات الدولية الراهنة، وربما تحقَّقَ لها ذلك من خلال المطالب الغربية المتكررة بالعمل على استيعاب الارتفاع الكبير في الأسعار، فضلًا عن تعويض أوروبا عن احتمال فقدان إمدادات النفط والغاز الروسيين مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا.
وعلى المدى البعيد، فإن الأزمة حفَّزت الدول المستوردة للنفط للبحث عن بدائل وتبني خطط للتحول نحو الطاقة النظيفة، وربما يسهم هذا في فقدان العديد من الدول المورِّدة للنفط لميزات اقتصادية هائلة، وستسقط ورقة مساومة مهمة من يد بعض الدول في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، وهو ما سيكون له تداعيات على مكانتها، في حال ما استعدَّت هي الأخرى ببدائل اقتصادية تعزِّز من خلالها قوتها، في حال خروج النفط من المعادلة السياسية بين القوى الدولية.
على صعيد متصل، فإن عددًا من الدول المنتجة للنفط كإيران وفنزويلا، التي تعاني من ضغوط أمريكية هائلة، قد فتحت لها أزمة ارتفاع أسعار الطاقة أفقًا من أجل التخلص من العقوبات، وإعادة صياغة علاقاتها على الساحة الدولية، فالعالم بحاجة إلى دخول النفط والغاز في البلدين لسوق الطاقة، من أجل وقف الصعود الهائل في الأسعار، الذي يُتوقَّع ألا يتوقف، لا سيما مع فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي.
من جهة إيران تحديدًا، فإنها سوف تحوز عائدات كبيرة ليس لمعالجة أوضاعها الداخلية وأزمتها الاقتصادية من جرَّاء العقوبات؛ وبالتالي تدعيم سلطة «الجناح المتشدد» بقيادة المرشد، لكنها كذلك ستتحصل على عائدات تدعم من خلالها نفوذها الإقليمي، وإعادة تأهيل ميليشياتها لغرض دعم نفوذها الإقليمي. ربما يكون ذلك سببًا في إشعال المنافسة بينها وبين جيرانها، تحديدًا في غرب آسيا، مع الاحتفاظ بالتحرك شرقًا نحو الصين وروسيا ودول وسط آسيا والقوقاز؛ للاحتفاظ بقدر من التوازن في العلاقات مع الغرب.
ولا يُستَبعد أن تكون بعض دول القارة الأفريقية هدفًا للسوق الأوروبية المستهلكة للغاز، إذ أن هناك قدرًا هائلًا من الطاقة الإنتاجية في القارة، لكن كبار المنتجين يفتقرون إلى البنية التحتية، وهي فجوة يمكن سدها سريعًا، وسوف تكون نيجيريا وأنغولا وليبيا والجزائر سوقًا مهمًا على صعيد واردات الغاز الطبيعي المسال بحكم قربها الجغرافي. وسيخلق هذا النفوذ الأوروبي التقليدي في القارة منافسةً مع مناطق الإنتاج في شرق المتوسط والخليج، باعتبار أن جميع هذه الدول بدائل مُتوقَّعة للغاز الروسي.
ولا يستبعد أن التداعيات المرتبطة بأسعار الطاقة سوف تحفِّز الحراك الاجتماعي في العديد من دول العالم، من جرَّاء التضخم وارتفاع الأسعار والبطالة، وعدم قدرة بعض الحكومات على الوفاء بالتزاماتها، أو التخفيف من الأضرار عن كاهل مواطنيها. هذه الاضطرابات الاجتماعية قد تهدِّد استقرارَ بعض الدول، وربما لو اتسعت وتم ربطها بالأوضاع السياسية الهشة، قد تدفع ببعض الأنظمة للانهيار، وهو ما قد يُعيد للذاكرة الانتفاضات العربية في عام 2011م، لكن هذه المرة قد تكون الأوضاع أسوأ بكثير.
خلاصة
يمكن القول إنه لا يمكن التنبؤ بمستقبل أسعار الطاقة، دون محاولة التنبؤ بمستقبل الصراع ما بين روسيا من ناحية وأوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى؛ نظرًا لأن أسعار الطاقة هنا ستكون متغيرًا تابعًا، ليس أسعار الطاقة وحسب، بل أسعار كلِّ الأسواق في العالم، ومستقبل الاقتصاد العالمي كله أصبح متوقفًا على مسارات واتجاهات الحرب في المستقبل.
في حال استمرار وتصاعد الصراع، سوف تستمر أزمة الطاقة بلا شك، وقد يدخل العالم في ركود اقتصادي خطير، أي سنشهد ارتفاعًا في أسعار الطاقة، ومعها ارتفاع في تكاليف الإنتاج، وارتفاع أسعار المنتجات، وتعطُّل للتجارة الدولية بإغلاق الموانئ يصحبه ارتفاع في تكاليف التأمين وكذلك النقل، ناهيك على نقص في تجارة الغذاء وارتفاع أسعاره، وفقدان ملايين الوظائف فينخفض الطلب والاستهلاك؛ ليزداد الركود الاقتصادي حدةً وخطورة، خاصةً إذا ما صاحبه ارتفاعات حادة في الأسعار، أو ما يُعرَف بالركود التضخمي. وفي هذه الحال، قد تنهار أسعار الطاقة بشكل كبير، كما حدث في عامي 2015 و2016م، حينما تضرَّر منها مصدِّرو النفط التقليديون.
وفي حال وضع حد للصراع في الأجل القريب، سيكون هذا الوضع هو الأفضل بالتأكيد بالنسبة لأسعار الطاقة، وكذلك لمنتجي ومستهلكي الطاقة على حدٍ سواء وللاقتصاد العالمي، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة عودة الوضع لما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. بمعنى أنه سوف تستقر أسعار الطاقة عند مستويات مقبولة، لكنها أعلى من مستويات ما قبل بداية الأزمة، لكن ستظل روسيا لفترة بلدًا منبوذًا من الغرب؛ ما يستدعي البحث عن بدائل ليس فقط للغاز والنفط الروسي، بل لكثير من المواد الخام والأغذية المهمة المصدَّرة من روسيا. لكن المهم أن الهدوء الجيوسياسي المفقود حاليًا سيضع حدًا للاضطرابات الاقتصادية الموجودة، من ناحية استقرار أسعار الطاقة، بدلًا من التقلبات الحادة والسريعة، وما يتبعُه هذا من استقرار الطلب على الطاقة والنمو الاقتصادي في الدول الصناعية والنامية، وكذلك استقرار أسواق المال والتجارة العالمية، واستتباب الأمن الغذائي العالمي.
وعلى مستوى التداعيات السياسية لأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية، فإن الخطط المُتوقَّعة لمعالجة أزمة الطاقة الراهنة والحيلولة دون تكرارها مستقبلًا، قد تقود إلى إعادة تشكيل تحالفات وتوازنات في العديد من الدول، وربما تكون خطوط إمداد الطاقة والغاز بمثابة ممرَّات جيوسياسية تبني عليها هذه الدول تحالفات وتكتلات جديدة. كما أن هذه الأزمة قد تُحيي العديدَ من مشاريع نقل الطاقة بين الدول، وتدفع بالاقتصاد ليكون قاطرةً مهمة لتحالفات سياسية أوسع على المدى الطويل.