تحشيد المقاتلين الأجانب في الأزمة الروسية-الأوكرانية.. المبررات والتداعيات

https://rasanah-iiis.org/?p=27719

مقدمة

بينما تشهد الأزمة الروسية-الأوكرانية تعقيدات سياسية وأمنية وكذلك اقتصادية منذ اندلاعها، أُضيف إليها مؤخرًا ملف جديد تبلوَر خلال الأيام الماضية بإعلان السلطات الأوكرانية استقبالها لعدد كبير من الأجانب الراغبين في «التطوُّع» للقتال ضد الروس. كما أعلنت موسكو هي الأخرى عن استقبال وتنظيم مقاتلين من جنسيات غير روسية، للقتال إلى جانب قوّاتها في أوكرانيا. وهنا يبدو أن ظاهرة الاستعانة بالمقاتلين الأجانب خلال الأزمة الراهنة ستُعيد إلى الأذهان تجارب سابقة من تجنيد وتسليح لمقاتلين أجانب، وتوظيفهم في ساحات الصراع المختلفة بين القوى الكبرى، وما أفرزت من نماذج ملغومة، كتنظيم «داعش»، وما حملته هذه النماذج من ارتدادات وتداعيات سلبية عديدة على أمن عديد من دول العالم. ويُعَدّ فتح كلتا الدولتين في الأزمة الراهنة الباب على مصراعيه أمام المقاتلين الأجانب، من خارج الجيشين الرسميين للبلدين للدخول في معادلة الحرب، منحنى خطيرًا ستكون له تبعات وانعكاسات متعدّدة، وهذا ما يستدعي البحث في ماهية الظاهرة وخصائصها، وأبعاد إشراك العناصر الخارجية بالحرب الراهنة في أوكرانيا، وانعكاسات هذا الانخراط من المقاتلين الأجانب في هذه الحرب على المشهد الدولي والإقليمي.

أولًا: تجنيد المقاتلين الأجانب في الأزمة الروسية-الأوكرانية.. الخصائص والدوافع

رغم أن تجنيد المقاتلين وتكوين مجموعات مسلحة شبه عسكرية للانضمام إلى ساحة الصراع بأوكرانيا ليس بالجديد، إذ شهد إقليم دونباس عام 2015م تكريسًا للنفوذ العسكري والسياسي لمجموعات مسلحة، تتخذ من بعض التوجهات الأيديولوجية المتطرفة مرتكزًا لتشكيل ما يشبه حالة ميليشياوية كاملة المعالم رسَّخت وجودها على طول خط المواجهة بين أوكرانيا وروسيا في هذا الإقليم.. فإنّ هذه المسألة دخلت مرحلة جديدة كليًّا مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ فبراير الماضي، عبر تحشيد متبادل للميليشيات والمتطوعين الأجانب بين طرفي الصراع الدائر حاليًّا على الأراضي الأوكرانية. فمن جهةٍ أعلنت أوكرانيا عن تطوُّع ما بين 16-20 ألف أجنبي من 52 دولة، للمشاركة في صراعها القائم على أراضيها مع روسيا. وفي المقابل، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السماح للمقاتلين الأجانب، إذ قالت وزارة الدفاع إنّ 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط مستعدون للانضمام إلى قوّاتها.

1. خصائص ظاهرة تجنيد المقاتلين الأجانب في الأزمة الراهنة:

في ضوء المعلومات المتوفرة عن المقاتلين الأجانب في أوكرانيا، يمكن القول إنّ هناك جملة من السمات والخصائص التي تتميز بها هذه الظاهرة، ويمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:

أ. ضخامة الأعداد: لا يزال من المبكر تقدير العدد الفعلي حول أعداد المقاتلين الأجانب، الذين سعوا للانخراط في الأزمة الدولية الراهنة، لكن ذلك لا ينفي ضخامة أعدادهم، في ضوء التصريحات الرسمية الصادرة عن طرفي الأزمة. فبينما أعلنت أوكرانيا عن وصول نحو 20 ألف متطوِّع إلى أراضيها للانضمام إلى قوّاتها، في المقابل أكدت وزارة الدفاع الروسية عن أن نحو 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط جاهزون للقتال في أوكرانيا بجانب القوّات الروسية. ويمكن القول عمومًا إنّ هذه الأعداد مرشحة للزيادة مع استمرار الأزمة، وبالتالي تشير تلك المعطيات إلى حجم التحدي المحتمل الذي تنطوي عليه الظاهرة.

ب. التنوُّع الجغرافي والأيديولوجي: لفت عديد من التقارير إلى تجنيد روسيا وأوكرانيا لعديد من المقاتلين الأجانب، الذين ينتمون إلى مناطق جغرافية مختلفة، فمنهم من ينتمي إلى دول أوروبا بجناحيها الغربي والشرقي، وكذلك هناك أعداد تنتمي إلى الولايات المتحدة وبريطانيا والمكسيك وغيرها من الدول، ناهيك بانتماء بعضهم إلى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ما يسهم في تعقّد الظاهرة، وتعدّد جوانبها، وتداخل أبعادها، وضبابية مستقبلها، بعد انتهاء الأزمة الراهنة.

ج. ثنائية التوظيف: سعى طرفا الأزمة لعمليات تحشيد متبادل للمقاتلين الأجانب، إذ دعا الرئيس الأوكراني لتشكيل «فيلق دولي» للدفاع عن أوكرانيا، فيما أعلن الرئيس الروسي في المقابل عن توجهه لإرسال مقاتلين من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا، وهو الأمر الذي يؤكد أن ساحة الحرب الحالية في أوكرانيا سوف تشهد عمليات توظيف متبادل للميليشيات الأجنبية لحروب بالوكالة من قِبل طرفي الأزمة. بعبارة أخرى، تراجَع الاعتماد على الجيوش الوطنية في مقابل الزجّ بالميليشيات المسلحة، بما يحمله من مخاطر وتحديات مستقبلية لن تقتصر على حدود الدول الأوروبية، بل قد تتجاوزها لتشمل الدول العربية.

د. موقف تضامني من عديد من الدول الأوروبية لعملية التجنيد: لقد شجع بعض الدول الأوروبية المواطنين على المشاركة في الحرب الأوكرانية، وجاء على رأس هذه الدول الدنمارك، فقد أعلنت رئيسة وزراء الدنمارك ميتي فريديريكسن أن بلادها ستسمح للمتطوعين بالانضمام إلى الفيلق الدولي الُمشكَّل من قِبَل الحكومة الأوكرانية، وتبِع ذلك موقف مماثل من حكومة لاتفيا، إذ أعلن وزير خارجيتها إيدغارس رينكيفيتش عن موافقة دولته على تشريع يسمح للمتطوعين بالقتال في أوكرانيا، فيما حذّر بعض الدول المواطنين من الانخراط في القتال في أوكرانيا، إذ دعا رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون المواطنين إلى عدم السفر إلى أوكرانيا للمشاركة في الحرب. أمّا الموقف البريطاني فيوجد خلاف داخل الحكومة بهذا الشأن، فبينما أيَّدَت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس دعوات كييف للراغبين في المشاركة مع صفوفها، هدد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الجنود البريطانيين الذين يسافرون إلى أوكرانيا للقتال بتوقُّع محاكمتهم لدى عودتهم، كما حذَّر المدنيين أيضًا بتجنب الذهاب إلى أوكرانيا للمشاركة في عمليات القتال.

هـ. تباين الدوافع: خَلْفَ انضمام المقاتلين الأجانب إلى الصراع في أوكرانيا دوافع متباينة، فبينما استند عديد من المقاتلين الأجانب المشاركين في الأزمة إلى دوافع قومية قائمة على الدفاع عن سيادة حدود الدولة الأوكرانية، وتمثلت هنا في مشاركة حاملي الجنسية المزدوجة من أصول أوكرانية، أو بدوافع تتعلق باعتبارات تاريخية في العداء ضد التدخّل الروسي، والرغبة في تمثيل القوى الغربية ومبادئها في القتال الحالي، ويأتي هنا المشاركون من جنسيات دول كانت سابقًا تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي، وكذلك مشاركة أجانب قادمين من الدول الأوروبية والولايات المتحدة.. فإنّ الدوافع الاقتصادية لم تَغِب هنا أيضًا، وتمثلت في مشاركة الشركات العسكرية الخاصة، كمجموعة «فاغنر»، إلى جانب الروس في صراعها داخل أوكرانيا، أو عبر مشاركة عناصر قتالية من دول تشهد أزمات سياسية واقتصادية بفعل الصراعات الداخلية وتنافس القوى الدولية.

2. أبعاد التوظيف:

يُعَدّ هذا المشهد شديد التعقيد والتشابك في ضوء سعي طرفي الأزمة لاستقدام المقاتلين الأجانب، ومحاولة إضفاء الطابع الشرعي على نشاطهم، ما يطرح جملةً من التساؤلات حول أبعاد التوظيف الحقيقية لكلتا الدولتين وبقية القوى الغربية، وهو ما يتجلى في التالي:

أ. استنزاف وضغط متبادل: بجانب الصعوبات الميدانية التي تواجهها القوّات الرسمية للدولتين، فضلًا عن محاولتهما لتقليص الخسائر البشرية قدر الممكن، تسعى كل من موسكو وكييف في الواقع إلى استغلال ورقة المقاتلين الأجانب بهدف استنزاف الأخرى، وممارسة ضغوط إضافية ترفع تكلفة الحرب وتزيد حجم مخاطرها. فمن جهةٍ تدرك الحكومة الأوكرانية أنها لن تتمكن من صد الهجوم الروسي تقليديًّا، خصوصًا مع رفض دول حلف الأطلسي (الناتو) إرسال قوّات عسكرية إليها، ما حفَّزها لموازنة التقدم الروسي عبر استنزاف القوّات الروسية بتكتيكات هجينة غير نمطية، تهدف على المدى الطويل إلى إجهاد روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا.

من جانبها، تسعى روسيا إلى إبراز مدى قدرتها على تهديد الأمن العالمي والأوروبي على وجه التحديد، في حال عدم الاستماع إلى مطالبها، عبر التلويح باستقدام عناصر من الشرق الأوسط للقتال في أوروبا، وتشكيل ورقة ضغط على دول الاتحاد الأوروبي، بناءً على تخوُّفات عديد من الدول الأوروبية من التداعيات الأمنية والسياسية جرّاء الاستعانة بهؤلاء المقاتلين.

في المقابل، تراهن القوى الغربية على هذه الورقة بهدف إنهاك الجيش الروسي بحرب استنزاف طويلة، تطبيقًا للتجربة الأفغانية، عبر إحداث حالة من التهديدات والقلق الجيوسياسي ضد روسيا من ورقة المقاتلين الأجانب في شكلها الإرهابي، وبالتالي تحقيق مصلحة إستراتيجية كبرى للولايات المتحدة الأمريكية، عبر استبعاد روسيا عن المنافسة الدولية، والتفرُّغ لاحقًا لمنافستها مع القطب الآخر والأهمّ، وهي الصين.

ب. الاستعداد لمراحل الحسم: أسابيع عدة مضت منذ اندلاع هذه الأزمة، سعت خلالها موسكو لتنفيذ عديد من الإستراتيجيات العسكرية، بدءًا من توجيه ضربات تدميرية إلى البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، ومحاولة السيطرة على المحطات النووية الأوكرانية، ولاحقًا تطويق ومحاصرة المدن المتوسطة والكبيرة من دون دخولها، وعلى ما يبدو فإن الأزمة باتت الآن في أهمّ مراحلها الإستراتيجية، وهي السعي للدخول إلى قلب المدن الكبيرة، ويتطلب ذلك اللجوء إلى المواجهة المباشرة بين قوّات الجانبين، لذا يمكن إدراج عمليات التجنيد الواسعة للمقاتلين كاستعداد لهذه المرحلة الحاسمة.

ج. مأسسة انخراط المقاتلين الأجانب في الحرب: تتجاوز دعوة الرئيس الأوكراني حدود استدعاء المقاتلين الأجانب لتدعيم جبهته العسكرية، إذ ترقى إلى مأسسة وتقنين الأنشطة والأدوار التي ستلعبها تلك العناصر في المعارك المقبلة، فتدشين «الفيلق الدولي» وإصدار التشريعات المنظمة لما سمته الحكومة الأوكرانية بـ«المقاومة الوطنية» يمثِّلان محاولة لشرعنة تلك التحركات، وتلافيًا للإشكاليات القانونية التي ستنتجها مشاركتهم بصراع خارجي، أي نفي كونهم «مرتزقة» أو مقاتلين أجانب عابرين للحدود الوطنية، وتحويلهم إلى جنود عاملين بالقوّات الأوكرانية، عبر إبرام عقود تطوُّع معهم، وهو ما يهدف أيضًا إلى رفع الحرج الداخلي عن الحكومات الغربية، التي يحمل تلك العناصر جنسياتها في حال مقتلهم أو اعتقالهم خلال العمليات العسكرية الجارية.

ثانيًا: ممارسات روسية متشابهة في سوريا وليبيا

تتقاطع الأزمة الروسية-الأوكرانية والأزمة السورية في كثير من الأمور، وتتشابه في عديد من الأوجه، ومن بينها خيار استخدام روسيا للتشكيلات العسكرية الرديفة في هذه الحرب، انعكاسًا لتجربتها في سوريا وإفريقيا. ففي سوريا شكَّلت موسكو خلال السنوات الماضية وحدات عسكرية متعددة، بهدف الانتشار في المناطق والمساحات المفتوحة بين المدن، أو لسدّ الثغرات بين وحدات الجيش، أو إسنادًا لوجيستيًّا في الخطوط الخلفية في سوريا، وفي جبهات أخرى. وتُعَدّ المجموعات العراقية والسورية من ضمن أبرز المجموعات التي يُتوقع أن تدخل في دائرة القتال تحت قيادة الجيش الروسي في أوكرانيا خلال الفترة المقبلة، لا سيّما في ظل الحديث عن بدء الحكومة السورية في تحشيد الآلاف من المقاتلين لصالح روسيا، فيما تواترت معلومات عن محاولات لتجنيد عراقيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل المشاركة في الحرب الأوكرانية.

وفي هذا السياق لا يُستبعَد أن تكون الميليشيات الإيرانية أحد الخيارات المحتملة للروس مستقبلًا، وذلك بحثًا عن نصر سريع في أوكرانيا، فالإعلان الروسي الرسمي عن فتح الباب لمشاركة مقاتلين من الشرق الأوسط قد يكون رسالة غير مباشرة أُريدت بها طهران لاعتبارات عدة، يأتي من ضمنها التنسيق المتبع بين الطرفين في عديد من الملفات الإقليمية، ومنها الملف السوري. وعلى الرغم من ذلك يبقى مستوى التجاوب الفعلي لطهران مع تلك المطالبات الروسية محكومًا بالملف النووي، ومحاولة إبقاء مساحة للمناورة بين طرفي الصراع الأوكراني، فمن جهةٍ لن تجازف طهران بإرسال قوّاتها إلى ساحة الصراع الأوكرانية للقتال إلى جانب القوّات الروسية، للحيلولة دون اتهامها بمؤازرة روسيا، وكذلك للحيلولة دون تأثير هذا الملف في المفاوضات النووية التي وصلت إلى مراحل متقدمة. ومن جهة أخرى، قد تلجأ طهران إلى إرسال الميليشيات المنضوية تحت لوائها لمساندة الروس، وقد ظهر ذلك جليًّا في إبداء عديد من الأطراف التابعة لما يُسمَّى بـ«محور المقاومة»، الذي تديره إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، انحيازًا واضحًا لروسيا. وبدأ عديد منها بمغادرة عدد من المناطق السورية والعراقية، تزامنًا مع اجتماع جرى في مطار «التيفور» العسكري السوري، بين وفد عسكريّ روسيّ ووفد إيرانيّ بجانب «حزب الله» اللبناني. في المقابل، أشارت تقارير إلى تلقِّي مقاتلين من ميليشيات عراقية، ومنها ميليشيا «عصائب أهل الحق»، عروضًا مالية مقابل مشاركتهم مع القوّات الروسية في أوكرانيا.

وبجانب سوريا، تسعى روسيا إلى حشد الدعم من ليبيا، إذ تمتلك عديدًا من المقاتلين المنتمين إلى مجموعة «فاغنر» الروسية، أو إلى ميليشيات متنوعة، الذين باتوا ينظرون إلى المسرح الأوكراني باعتباره ساحة عمل أفضل لجني عديد من المكاسب الاقتصادية. وعلى الرغم من الحاجة الروسية إلى مجنديها في ليبيا، فإنه من غير المتوقع أن تلجأ موسكو إلى سحب جميع عناصرها من هذه المنطقة، فالوجود الروسي في ليبيا يظل إستراتيجيًّا للغاية بالنسبة إلى موسكو، من حيث تمكينها من متابعة إستراتيجيتها المتمثلة في الضغط على أوروبا، خصوصًا في مجال الطاقة. لذا، وبناءً على ذلك، لن تخاطر الحكومة الروسية في خضمّ أزمتها المتصاعدة مع أوروبا بخسارة مثل هذه الورقة.

ثالثًا: انعكاسات وتداعيات التوظيف

تحمل عملية التحشيد والتعبئة المتبادلة للمقاتلين الأجانب من كلا طرفي الأزمة، وتوافدهم إلى ساحة الصراع الحالية، كثيرًا من الدلالات والانعكاسات، ومن أبرزها الآتي:

1. إطالة أمد النزاع الحالي: بينما تهدف عمليات توسيع نطاق التطوع والتجنيد والاستعانة بمقاتلين بكفاءات وخبرات مختلفة، والبعض منهم آتٍ من قوّات النخبة العسكرية، إلى تحويل الأراضي الأوكرانية إلى مستنقع حرب عصابات، بُغية استنزاف كل طرف للطرف الآخر.. فإنها على المدى الطويل ستؤدي إلى إطالة أمد الصراع وتعقُّد مسارات حلّه. كما ستؤدي إلى فقدان السيطرة على مفاعيله، لا سيّما في حال التسلُّل والتغلغل داخل المجتمع الأوكراني، وتكوين شبكات مصالح وأجندة مستقلة عن السبب الأصلي للصراع، ما سيصعِّب تفكيكها عندما تضع الحرب أوزارها، حتى لو رغبت أطراف الصراع بإنهائها. والشواهد على ذلك كثيرة، ففي العراق وليبيا ومالي تواجه حكومات هذه الدول معضلات كبيرة في إدارة هذه المجموعات وتحجيم مخاطرها الأمنية والسياسية.

2. خلق إشكاليات أمنية مزمنة: يمثِّل التسابق نحو تجنيد مقاتلين أجانب ومأسسة وشرعنة ذلك في الصراعات المسلحة، والسعي إلى تشكيل كيانات متطرفة وتفعيل ما يعرف بالحرب بالوكالة تحت رعاية أطراف دولية داعمة لأحد أطراف الصراع مقابل الآخر، توظيفًا ملغومًا وعاملًا مقوِّضًا للأمن والسلم الدوليين، ما سيضع المجتمع الدولي أمام تهديدات غير نمطية متصاعدة الخطورة، وربما جولة أكثر وطأة من العنف والتطرف الأيديولوجي والسياسي، ولن يكون من اليسير التصدي لمثل هذه التهديدات الناشئة من اتجاه كهذا. وهنا يتخوف بعض الأطراف الأوروبية من مخاطر أمنية مصاحبة لعمليات التحشيد الدولي للمقاتلين الأجانب في هذه الأزمة، وما يمثله تمكين بعض مناصري «اليمين المتطرف»، واكتسابهم خبرة المعارك والقتال، ومِن ثَمّ قد يصبح لهذا التيار خبرة قتالية يوظفها في تفعيل دعاياته القومية والعنصرية، وفرضها بالقوة على المجتمعات الغربية.

3. توظيف البُعد الديني في الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا: منذ اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية السابقة في 2014م، جرى توظيف الدين (المسيحي والإسلامي) في الصراع بين الطرفين، واصطفّ رجال الدين في كل دولة ضد نظرائهم في الدين نفسه في الدولة الأخرى، وبدا ذلك جليًّا في ظهور الرئيس الأوكراني في إطلالاته التليفزيونية لعدة أيام بقميص يحمل صليبًا، في توظيف للصراع القائم بين الدولتين على الأرثوذكسية نفسها، وبالتالي على المجال الحيوي الديني لسكان أوروبا الشرقية واليونان والقوقاز، إضافةً إلى أقليات في بلدان شرق المتوسط.

هذا التوظيف العسكري للمسيحية لا يقل عن محاولات توظيف الإسلام في الحرب الدائرة بعد إعلان «مجلس الإفتاء الروسي» أن العملية الروسية الخاصة التي ينفذها الجيش الروسي في أوكرانيا «تستند إلى أحكام القرآن الكريم». ولم يكتفِ المجلس بهذا التصريح، لكنه دعا أيضًا «مسلمي روسيا والعالم إلى التوحُّد من أجل الدفاع عن روسيا». وتبدو هذه الدعوات ردًّا على دخول عديد من المؤسسات الإسلامية الأوكرانية على خط الحرب الدائرة، ومنها التحاق المفتي الأوكراني سعيد إسماعيلوف بقوّات «الفيلق الدولي» للمشاركة في المواجهة العسكرية الأوكرانية ضد روسيا.

4. إشكالية مستقبل المقاتلين بعد انتهاء الأزمة: تباينت القراءات حول مستقبل المقاتلين الأجانب بعد انتهاء الأزمة الراهنة، فذهبت القراءة الأولى نحو أن عمليات التجنيد المتبادلة بين طرفي النزاع ستسهم بتحويل أوكرانيا وما جاورها إلى بؤرة جديدة للإرهاب الدولي. ويستند مؤيدو هذه القراءة إلى أن مناطق الصراعات والحروب التي شهدها العالم شكَّلت بطبيعتها بيئات حاضنة للمجموعات المسلحة والمتطرفة، ومن هنا فإنّ الصراع المسلح الحالي في أوكرانيا لا يشذّ عن هذه القاعدة، إذ إن تحويل الساحة الأوكرانية إلى بؤرة لاستقطاب أشكال وأنواع مختلفة من الجماعات المتطرفة والإرهابية، ذات المشارب والأيديولوجيات القومية والدينية، سيسهم في إعادة بناء هياكل هذه التنظيمات، وسيعزِّز تمدّدها ونفوذها بحثًا عن ثغرات تمكِّنها من إعادة النفاذ إلى باقي الدول، فضلًا عمَّا توفره هذه الأزمة من سياق مناسب في تطوير هذه المنظمات لأجندة أيديولوجية خاصة بها، وتفريخ تنظيمات جديدة.

أمّا القراءة الثانية فقد مالت نحو أن انشغال القوى الكبرى بالجبهة الأوكرانية سيعزِّز فرص إعادة صعود التنظيمات والجماعات المسلحة في معاقلها الأساسية، تحديدًا في سوريا والعراق، بعيدًا عن الانحياز لأحد الطرفين في الأزمة الراهنة، استغلالًا لحالة انشغال القوى الدولية بالحرب في أوكرانيا، سواء من ناحية توسيع دائرة الاستقطاب الخاصة بالتنظيم، أو من ناحية السعي لاستغلال هذه الأزمة في تنفيذ عمليات الاستهدافات الأمنية. ويُعَدّ الهجوم الذي شنَّه تنظيم داعش خلال الأسابيع الماضية في بادية تدمر بريف حمص الشرقي في سوريا، الأكبر من نوعه خلال الشهور الأخيرة، وبدا واضحًا أن الهجوم استغلّ غياب غارات الطائرات الروسية التي كانت تكثِّف ضرباتها قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية. كما أنّ دعوة التنظيم للمسلمين في روسيا وأوكرانيا إلى عدم القتال ضمن الجيشين المتصارعين على الأراضي الأوكرانية، واستنفاره عناصره للمجيء إلى ما يُسمَّى «أرض الخلافة الموعودة»، يمثِّلان مسعى واضحًا في استغلال الحرب وحالة عدم الاستقرار والرخاوة الأمنية الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكرانية، لاستقطاب مقاتلين أجانب جدد إلى معاقله، وتوسيع شبكة خلاياه النشطة.

بالمجمل، فإنّ القراءتين تتفقان في أن هذه الأزمة تمثل ملمحًا خطيرًا وبوابة محتملة لعودة التنظيمات الإرهابية للمشهد الدولي، في وقت لا يزال يعاني فيه عديد من الدول من معضلة التعامل مع بضع مئات من الذين انخرطوا في صفوف «داعش» بالعراق وسوريا، ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المعضلة في ظل الحديث عن تدفُّق عشرات الآلاف الذي يتطوعون حاليًّا للقتال في أوكرانيا.

5. تناقض الموقف الدولي من ظاهرة التجنيد: تشير عمليات التجنيد الجارية بين جانبي الأزمة الروسية-الأوكرانية، والقبول الضمني بسفر المقاتلين الأجانب من بعض الدول، والتأييد الصريح من بعضها الآخر، وتسويق موضوع سفر مواطنيها لأوكرانيا كحالة تضامن مع الشعب الأوكراني، إلى عدم اكتراث لافت للقانون الدولي، رغم معارضته الصريحة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2178 الصادر عام 2014م، الذي يتضمَّن منع وتجريم تجنيد أو نقل المقاتلين الأجانب، وكذلك منع وقمع تمويل أو سفر هؤلاء الأفراد.

والمفارقة هنا أيضًا أن انتهاك القانون الدولي في هذا الشأن لم يقتصر على دولة واحدة أو طرف معيَّن، بل توسَّع وشمل دولًا عدة في دعمها لظاهرة التجنيد وتسويقها ظاهريًّا ضمن إطار التطوُّع، رغم اقتران التطوُّع المُشار إليه بوعود مالية علنية، بما ينافي المفهوم التعريفي لكلمة «التطوُّع». وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن هناك اتفاقية دولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، وقد عرَّفت الاتفاقية كلمة «المرتزق» بأنه «أيّ شخص جُنِّدَ خصيصًا للقتال في نزاع مسلَّح، بدافع الحصول على مغنم شخصي ومدفوع الأجر»، ولأن الاتفاقية ربطت مفهوم «المرتزق» بالاستفادة المادية، فإنّ ما يجري حاليًّا يأتي في معظمه تحت اسم «التطوُّع» لتفادي الاصطدام بهذا القانون.

كما يشير هذا إلى ازدواجية حادّة في المعايير والتعامل مع الخطر الإرهابي، وكأنه أحاديّ المصدر فقط، فكما أن الأيديولوجيا التكفيرية شديدة الخطورة، فكذلك الرغبة في استخدام السلاح والانخراط في صراع مسلح هو أمر شديد الخطورة أيضًا. ومهما كانت تسمية الاستعانة بهؤلاء -سواء كانوا مقاتلين أجانب، أو مرتزقة مدفوعي الأجر، أو إرهابيين جهاديين- فإنه في كل الحالات السابقة يعتبر تهديدًا إرهابيًّا متزايدًا عابرًا للحدود الوطنية، ولا بد من تتبُّعه ورصده، تجنُّبًا لتداعياته الأمنية والفكرية، وتهديده للاستقرار والسِلْم، سواء في البلد الذي يشهد صراعًا أو في مجتمعاتهم الأصلية بعد عودتهم.

6. أزمة مضاعفة للدول العربية: دخلت الأزمة القائمة بين روسيا وأوكرانيا في قلب أحداث دول المنطقة، سواء من خلال الاستقطاب السياسي أو من زاوية أزمة الطاقة العالمية. لكن مؤشرات انشغال المنطقة بالحرب في أوكرانيا باتت اليوم تتجاوز ذلك إلى انخراط إقليمي محتمل، عبر إشراك عناصر قتالية تابعة لعديد من دول المنطقة في أوكرانيا، ما يُعيد إلى الذاكرة العربية هواجس الأزمة الأفغانية والاستقطاب الأيديولوجي من قطبَي الأزمة، وما صاحبه من عمليات إرهابية ارتكبها العائدون من أفغانستان في دول عربية عمَّمت الخراب والدمار فيها. ويبدو أن العالم في هذه اللحظة يحاول استنهاض هذه الفكرة، عبر إعادة الدولتين الروسية والأوكرانية ممارسة ذات السياسة بفتحهما باب استقدام مقاتلين بأيديولوجيات وخلفيات مختلفة، من بينهم عسكريون سابقون ذوو خبرة، ومرتزقة، ومتحمسون، بجانب عمليات التجنيد التي تجري داخل سوريا بأعداد كبيرة، وقد يلحق بهم أعضاء من الميليشيات المؤيدة لإيران، الذين لن يلبثوا كثيرًا حتى يُعاد تصديرهم إلى دول المنطقة، ليزداد العنف فيها، وتتوسّع دائرة المواجهات أكثر، لذا تُعتبر هذه المرحلة دقيقة وحساسة، وبحاجة إلى أقصى درجات التنبُّه واليقظة.

خاتمة

تمثِّل الأزمة الروسية-الأوكرانية نقطة تحوُّل في السياسة الدولية والأمن الدولي، وستكون تداعياتها أبعد مدى وأعمق أثرًا مما تكشف. ويبدو أن المنحنى الجديد، الذي اتخذته الدولتان في تنامي الاعتماد على المقاتلين الأجانب، بات يعكس رؤيةً ضيقةً للمصالح لا تأخذ بالاعتبار توابع هذه العناصر ولا تداعيات هذا التوظيف في مرحلة ما بعد الصراع، التي سيطال أثرها عديدًا من دول العالم، في ظل فوضى السلاح والمقاتلين الأجانب المحتملة، وما سيترتب على ذلك من إطالة لأمد الحرب، فضلًا عن الخطر الأكبر، المتعلق بمصير هؤلاء المقاتلين بعد انتهاء هذه الأزمة الدولية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير