الأبعاد الاقتصادية والديمغرافية لأوكرانيا في المنظور الإستراتيجي الروسي

https://rasanah-iiis.org/?p=27796

المقدمة

بعد تنصيب حكومة أوكرانية جديدة في عام 2014م، توترت عَلاقات روسيا بجمهورية أوكرانيا التي تحتلّ موقعًا جغرافيًّا مميزًا على البحر الأسود، يسمح بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو أمر بالغ الأهمية للتجارة الروسية ولمرور الطاقة إلى جميع أنحاء المنطقة. استدعى ذلك من روسيا ضم شبه جزيرة القرم في العام نفسه، لتعزيز مكانتها في التنافسية الدولية، وها هي الآن تغزو ما تبقى من أوكرانيا للحصول على مزايا جيوسياسية، وأمنية، واقتصادية أيضًا.

وبالإضافة إلى ما تتمتع به جمهورية أوكرانيا السوفييتية السابقة من موقع فريد عسكريًّا وجغرافيًّا واقتصاديًّا، فهي مركز بحري تجاري مهمّ لروسيا، وتشغل مساحة تبلغ نحو 603.5 ألف كيلومتر مربع، كثاني أكبر دولة في أوروبا، وبعدد سكان يصل إلى 44 مليون نسمة.

يُعَدّ اقتصاد أوكرانيا لاعبًا عالميًّا مهمًّا، أكثر مما قد يتخيله البعض، ويؤكد ذلك إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزوها. وتتمثل قوة أوكرانيا فضلًا عن موقعها الإستراتيجي في مواردها الطبيعية المتمثلة في القطاعَين الزراعي والتعديني، إضافة إلى بعض القوة الصناعية الموروثة من الاتحاد السوفييتي السابق. وفي حين يضفي بوتين طابعًا رومانسيًّا على الثقافة والتراث المشتركَين للبلدَين، وعلى الأصول السلافية المشتركة، فإنه قليل الكلام من الناحية الإستراتيجية بشأن الجاذبية الاقتصادية الواضحة والمغرية لأوكرانيا.

وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، فتحت مئات الشركات الأجنبية متاجر في جميع أنحاء أوكرانيا (معظمها في مناطقها الغربية التي تحدّ الاتحاد الأوروبي)، وكان أكبر المستثمرين هم قطاع تكنولوجيا المعلومات وشركات السيارات الألمانية، حتى أصبحت أوكرانيا جزءًا مهمًّا من سلسلة توريد مكونات السيارات في الاتحاد الأوروبي، وسط غياب للاستثمارات الروسية. وقد يجعل تزايد الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا منها نموذجًا اقتصاديًّا ليبراليًّا غربيًّا ناجحًا، وهو ما يلقى معارضة من السلطات في الكرملين، التي تريد من أوكرانيا أن تكون معززة لازدهارها الاقتصادي، وألا تكون في صف الأعداء.

هذه الدراسة تحلِّل الأهمية الاقتصادية لأوكرانيا، وكيف يطمح الروس من خلال غزوهم لها إلى جعلها رافعة اقتصادية تسهم في تنوع وتكامل اقتصادهم المعتمد إلى حد كبير حتى الآن على عوائد الطاقة، وأخيرًا تناقش طبيعة البعد الديمغرافي الذي تمثله أوكرانيا بالنسبة للإستراتيجية الروسية الكبرى.

أولًا: تزايد الأهمية الاقتصادية لأوكرانيا

ورثت أوكرانيا «الاقتصاد الموجَّه» عندما أصبحت دولة مستقلة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991م، وفيه يُحدَّد جميع القرارات المتعلقة بالإنتاج والاستثمار والأسعار مركزيًّا من قِبل الحكومة. كانت أوكرانيا مرتبطة بالهوس السوفييتي في ما يتعلق بالصناعات الثقيلة وإنشاء مجمعات صناعية عسكرية ضخمة. بعبارةٍ أخرى، كان الاقتصاد الأوكراني رائدًا في تعدين الخام وبناء صواريخ باليستية عابرة للقارات، ولكنه كان أقل أهمية في صناعة أنواع السلع الاستهلاكية الحيوية للاقتصاد الحديث.

وهكذا انهار الاقتصاد الأوكراني بعد فترة وجيزة من الاستقلال، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 60% في أوائل التسعينيات، وارتفعت نسبة التضخم إلى أكثر من 10,000%. بالنسبة إلى عامة الأوكرانيين، كان هذا الانهيار يعني الفقر المدقع والمعاناة، فما يقرب من 50% من الأُسَر كانت تعيش على أقل من 5.50 دولار في اليوم[1]. كان هذا مدعاة للشروع في الخصخصة الجماعية للمؤسسات المملوكة للدولة من المتاجر الصغيرة إلى المصانع الكبيرة مثل مصانع الصلب العملاقة، لكن في ذات الوقت بقيت الطبقة المعروفة باسم «الأوليغارشية»، المكونة من النخب الشيوعية السابقة وغيرهم ممن لهم صلات مع الحكومة، تسيطر على المصانع الكبرى وغيرها من الأصول الإنتاجية الرئيسية بتكلفة قليلة.

على الرغم من أن «الأوليغارشية» ساعدت في البداية أكبر الشركات في أوكرانيا على استعادة قدرتها الإنتاجية، ودفع عجلة الاقتصاد، فإنها سرعان ما بدأت في استخدام عَلاقاتها لخنق المنافسة والتفرد بالمكاسب. يشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي كان تحت سيطرة هذه القلة «الأوليغارشية». وتحت ظل استشراء الفساد، كان الاقتصاد يكافح من أجل النمو أو التنويع إلى ما بعد إنتاج السلع الأساسية والمعدّات مثل الصلب وخام الحديد ومعدات التعدين. في عام 2006م، على سبيل المثال، شكّلت المعادن الأساسية 43% من الصادرات، تليها المنتجات المعدنية بنسبة 10% والمواد الكيمائية بنسبة 8.8%[2]. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 200 مليار دولار في عام 2021م، واحتياطي نقدي بنحو 31.6 مليار دولار، فيما بلغت الصادرات نحو 68.24 مليار دولار في عام 2020م، وبلغ معدل النمو نحو 3.4%[3].

تحتلّ الزراعة المرتبة الثانية من حيث الأهمية بالنسبة إلى اقتصاد أوكرانيا. وقد وُصفت أوكرانيا سابقًا بـ«سلة غذاء الاتحاد السوفييتي»، وتُعرف الآن بـ«سلة الخبز في أوروبا» أو «سلة غذاء العالم»، إذ إنها قادرة على توفير وضمان الأمن الغذائي لدول أوروبا وغيرها. تمتلك أوكرانيا قدرات زراعية كبرى مهمة على المستوى العالمي في عدد من المنتجات، إذ تمثل صادرات القطاع نحو 45% من إجمالي الصادرات الأوكرانية، فيما تصل مساحة الأراضي الصالحة للزراعة إلى أكثر من 40 مليون هكتار. وتتميز أراضي أوكرانيا بطقسها الملائم للزراعة وبتربتها السوداء شديدة الخصوبة، وهو ما لا يتوفر في روسيا. وتشغل الأراضي الزراعية أكثر من 71% من مساحتها، وتشكل الغابات نحو 15% من مساحة البلاد. بلغ إنتاج الحبوب إجمالًا نحو 50 مليون طن، من بينها 28 مليون طن من القمح، وصادرات بلغت نحو 18.1 مليون طن جعلتها تحتل المركز السادس عالميًّا في صادرات القمح (كان من المتوقع أن تشكل أوكرانيا 12% من صادرات القمح العالمية في عام 2022م)، والرابع في صادرات الذرة، فيما احتلَّت المرتبة الثالثة من حيث كمية الإنتاج، والمركز الثاني عالميًّا في إنتاج الشعير، والرابع في صادراته. كما تحتلّ المركز الأول عالميًّا في صادرات زيت دوَّار الشمس، والثالثة عالميًّا في إنتاج وتصدير العسل بنحو 81 ألف طن سنويًّا، فيما بلغت صادرات الفواكه نحو 55 ألف طن، واللحوم 450 ألف طن، والدواجن 431 ألف طن[4].

وفي قطاع التعدين أنتجت نحو 60 مليون طن من الحديد لتحتلَّ بها المرتبة السادسة عالميًّا، والثانية عالميًّا من حيث الاحتياطي بنحو 30 مليار دولار، كما تحتلَّ المرتبة الثانية أوروبيًّا في الاحتياطي من الزئبق، والأولى في الكبريت، والعاشرة عالميًّا في احتياطيات خام التيتانيوم. وتُعَدّ أكبر دولة في أوروبا في احتياطيات خامات اليورانيوم، كما تحتل المركز الثاني في العالم من حيث الاحتياطيات المُستكشفة من خامات المنغنيز (2.3 مليار طن، أي 12% من احتياطيات العالم).

أمّا صناعيًّا، فتحتلّ أوكرانيا المرتبة الرابعة عالميًّا في تصدير توربينات محطات الطاقة النووية، والمرتبة الثانية عشرة في مجال صادرات السلاح بنحو مليار دولار، إذ ورثت عن الاتحاد السوفييتي السابق نحو 30% من مصانعه، تستوعب نحو 700 ألف موظف[5].

كما تُعَدّ تكنولوجيا المعلومات صناعة رئيسية أخرى للنمو في أوكرانيا، إذ تشكِّل نحو 26% من عائدات أوكرانيا في عام 2021م. ويعود الفضل في ذلك إلى أنها تنتج غاز النيون، وهو غاز خامل ومكوِّن رئيسي لليزر المستخدم في صناعة الرقائق. وكانت خدمات تكنولوجيا المعلومات هي أكبر صادرات أوكرانيا إلى الولايات المتحدة في عام 2021م، إذ إنَّ 90% من أشباه الموصلات المعتمدة على النيون المستخدمة في الولايات المتحدة تأتي من أوكرانيا[6].

منذ عام 2014م، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم وأثارت التمرد في الجزء الشرقي من البلاد، بدأ الاقتصاد الأوكراني في التحوّل بشكل جذريّ إلى الغرب. عجّلت هذه الأحداث إلى حدٍّ كبير رغبة الأوكرانيين في تكوين عَلاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع أوروبا مقابل تراجع التجارة مع روسيا. استأنفت حكومة كييف على الفور المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقية التجارة ووقعتها، مما أدى إلى خفض أو إزالة التعريفات الجمركية على معظم السلع، وأدى إلى أن يصبح الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لها، إذ يستحوذ على نحو 40% من جميع شحنات البلاد إلى الخارج. وبذلك أصبحت أوكرانيا جزءًا حيويًّا من الاقتصاد العالمي بما تلعبه سلعها من أدوار مهمّة في عديد من الأسواق العالمية.

تمتلك أوكرانيا نحو 21 نوعًا على الأقل مما مجموعه 30 نوعًا من المعادن التي يعدّها الاتحاد الأوروبي بالغة الأهمية للمستقبل. وتُعَدّ الإمكانات الوفيرة للبلاد أحد الأسباب التي جعلت منها وجهة رائدة لبنك الاستثمار الأوروبي EIB)) وأكبر متلقٍّ للاستثمار منه. وفي عام 2021م وحده استثمر البنك نحو 554 مليون يورو في البنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء البلاد، ويمثل أكثر من 60% من إقراض البنك في المنطقة. وهكذا بدأ النمو السريع للاقتصاد الأوكراني بحلول عام 2018م، ووصل حجمه إلى ما يقرب من 80% مما كان عليه في عام 2008م[7]. وتحوَّل من اقتصادٍ سوفييتي غير متوازن إلى اقتصاد حديث متنوِّع. وهذا ما جعل بروكسل ترى إمكانات هائلة في توسيع التجارة الثنائية مع كييف على المدى المتوسط ​​والطويل. ومن هنا يتبين أنَّ المحفِّز الاقتصادي من الغزو الروسي لأوكرانيا يقع في قلب الإستراتيجية الروسية، ولا يقل أهميةً عن الدوافع الأمنية والعسكرية.

ثانيًّا: مكانة أوكرانيا في ازدهار الاقتصاد الروسي

لفهم التهديد الاقتصادي الذي شعرت به موسكو جرّاء خسارتها للتبادل الاقتصادي مع كييف، لا بد من فهم طبيعة العَلاقات التجارية بين البلدين، وباستثناء سلعة النفط وتصديره، لا تتمتع روسيا بميزة المرونة الاقتصادية. دفعت المصاعب الاقتصادية في منتصف عام 2010م، جنبًا إلى جنب مع زحف الجهات الغربية الفاعلة على أوكرانيا، روسيا إلى السعي إلى تنمية اقتصادها من خلال ضمّ شبه جزيرة القرم. كانت هذه الخطة منطقية على المدى القصير، لكنها فشلت على المدى الطويل في توفير الاستقرار الاقتصادي اللازم لتعزيز الاقتصاد الروسي، وربما أسهمت في مزيد من التدهور.

في أوائل عام 2014م، بدأت أسعار النفط الخام في الانخفاض، مما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات للحكومة الروسية التي كان النفط أساس صادراتها. بالإضافة إلى ذلك، كان نموّ الناتج المحلي الإجمالي في انخفاض، وكان الركود وشيكًا نتيجة لعوامل مختلفة، من ضمنها الانكماش الاقتصادي[8]. احتاجت روسيا إلى حلّ سريع للحفاظ على اقتصادها وسيطرة النظام. وفي الوقت نفسه، كانت أوكرانيا قد بدأت في التمرد، وهو ما تخشى روسيا أن يكون مقدمة لأن يستحوذ الاتحاد الأوروبي على حصة الأسد من توسيع التجارة مع أوكرانيا، أو قد يدمجها بالكامل في اقتصاده.

لطالما كانت أوكرانيا وروسيا شريكين اقتصاديين، إذ يتدفق أكثر من ثلث صادرات الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب المملوكة لروسيا في أوكرانيا. علاوة على ذلك، كانت الواردات والصادرات من وإلى روسيا تمثل غالبية حجم التجارة في أوكرانيا قبل عام 2013م، مما جعل أوكرانيا تعتمد على التجارة الروسية[9]. في نهاية عام 2013م، استعدّت الحكومة الأوكرانية لتوقيع «اتفاقية الشراكة والتجارة الحرة» مع الاتحاد الأوروبي، التي كان من شأنها أن تفتح الاندماج في مجالات التجارة الأوروبية، مما يقلل من اعتمادها على روسيا. لو انضمت أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي فلن تتمكن من الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي كان اتحادًا تقوده روسيا، مصممًا لمواجهة الاتحاد الأوروبي، وإبراز القوة الروسية، وزيادة تكامل دولة ما بعد الاتحاد السوفييتي[10]. وللحفاظ على سيطرتها الاقتصادية على أوكرانيا، تمكنت روسيا من إقناع المسؤولين الأوكرانيين بعدم التوقيع على الاتفاقية، مما أدى بدوره إلى سقوط إدارة يانوكوفيتش القريب من روسيا.

بعد ذلك، في عام 2014م، مع تولي حكومة أوكرانية موالية للغرب، أصبح من المهم بالنسبة إلى روسيا العمل على حماية مصالحها. وبعد فترة وجيزة من ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وافقت الهيئة التشريعية الروسية على الانسحاب من اتفاقية خاركيف لعام 2010م. كان الاتفاق يتطلب من روسيا تقديم خصومات على تدفق الغاز عبر أوكرانيا مقابل تأجير القاعدة البحرية في البحر الأسود في سيفاستوبول، على أن يجري تمديدها لـ25 عامًا اعتبارًا من عام 2017م[11].

ونظرًا إلى انخفاض أسعار النفط في ذلك الوقت، لم يكن بوسع روسيا إهدار ما يقرب من 4 مليارات دولار سنويًّا على الصفقة، إضافة إلى ذلك، مكَّن ضم شبه جزيرة القرم روسيا من الوصول إلى الموارد الطبيعية الغنية في شرق أوكرانيا. تحتوي المياه المحيطة بشبه جزيرة القرم وحدها، التي تعتبرها روسيا ضمن أراضيها، على مليارات الأمتار المكعبة من احتياطيات النفط والغاز[12]. وبضم شبه جزيرة القرم كانت روسيا قادرة على تعزيز إنتاجها من الطاقة الطبيعية، مع الحد من وصول أوكرانيا إلى الأراضي التي كانت تحت سيطرتها في السابق، إلا أن أوكرانيا قطعت إمدادات المياه عن شبه جزيرة القرم، وأدى ذلك إلى نقص منسوبها، مما أجبر السلطات الروسية على إنفاق أموال إضافية لتزويد سكانها بالمياه.

كانت التحركات الروسية في شبه جزيرة القرم ردًّا على الانكماش الاقتصادي الروسي وبمثابة حلّ تلقائيّ لما يعانيه من تراجع. وربما كانت منطقية في ذلك الوقت، إلا أنه مع تطوّر الصراع لم تؤدِّ إلا إلى تفاقم التدهور الاقتصادي لروسيا، وعزز ذلك العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية عليها.

كان رد الفعل الروسي على هذه العقوبات زيادة محاولاتها لخنق الاقتصاد الأوكراني، ففي عام 2018م بدأت روسيا في محاصرة مضيق كيرتش، الذي يربط الميناء الرئيسي لأوكرانيا في ماريوبول ببقية العالم. أدى هذا الحصار إلى الحدّ بشدة من قدرة أوكرانيا على تصدير المواد، مما أدى إلى خسائر بقيمة 400 مليون دولار لأوكرانيا وأضرّ بنموّها الاقتصادي الإجمالي[13]. كانت روسيا تلعب لعبة محصلتها صفر، فإن لم تستطع المشاركة في تجارة مجدية مع أوكرانيا فلن تتمكن أي دولة أخرى من ذلك.

في عام 2020م بدأت التوقعات الاقتصادية لروسيا تبدو قاتمة مرة أخرى، فعلى مدى السنوات القليلة الماضية تباطأت معدلات النمو الاقتصادي الروسي بشكل كبير. في عام 2019م، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 1.3% فقط مقارنة بـ2.5% في عام 2018م[14]. ومع انخفاض أسعار النفط في أوائل عام 2020م، بدت قدرة روسيا على تلبية أهداف الإنفاق الخاصة بها بعيدة المنال، في ذات الوقت الذي يرى فيه المواطنون الروس أن سيطرتهم على شبه جزيرة القرم والصراع المستمر في شرق أوكرانيا بمثابة تبذير وتراجع أكثر لاقتصادهم[15]. فمنطقة دونباس التي كانت نابضة بالحياة اقتصاديًّا، باتت غارقة في ركود اقتصاديّ، إذ أدى النزاع إلى تقلُّص الإنتاج الصناعي بنسبة 60% في دونيتسك و80% في لوغانسك. وبحلول عام 2017م انخفضت الصادرات من المنطقة إلى 10% من تلك المسجلة في أوكرانيا، في مقابل 25% قبل 3 سنوات. وجرى إغلاق 25 منشأة ومصنعًا و41 منجمَ فحمٍ في الأجزاء التي يسيطر عليها الانفصاليون في المنطقتين، فيما جرى تقليص النشاط الإنتاجي لبعض المنشآت الأخرى. كما تسجّل البطالة في المنطقتين معدلًا أعلى بكثير من المتوسط الوطني، إذ بلغت في عام 2021م نحو 14.5% في دونيتسك و15.2 في لوغانسك، مقارنة بمعدل وطني يبلغ 9.2%. ووصل النازحون من إقليم دونباس إلى 1.4 مليون شخص. كذلك أُغلق مطاران دوليان رئيسيان في دونيتسك ولوغانسك[16].

ومما زاد التكاليف على الحكومة الروسية أنَّ روسيا تموّل مباشرة معاشات التقاعد ورواتب القطاع العام في المنطقتين الانفصاليتين بشرق أوكرانيا، لأن كييف وقفت بعد اندلاع النزاع في عام 2014م دفع أجور القطاع العامّ للأفراد المسجّلين على أنهم يقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة الانفصاليين. كذلك تعطّل كثير من الصناعات الثقيلة التي يعتمد عليها إقليم دونباس في الإيرادات. وتخلّت المنطقتان الانفصاليتان عن عملة الهريفنيا الأوكرانية، واعتمدتا الروبل الروسي عملة رسمية. وتتبع المدارس المحلية الآن المناهج الوطنية الروسية بدلًا من تلك التي تُدرَّس في أوكرانيا. في أواخر عام 2021م، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حكومته برفع القيود المفروضة على الصادرات والواردات بين روسيا وأجزاء من دونيتسك ولوغانسك، في قرار أدرجته موسكو ضمن التعويض عن حصار اقتصاديّ بين المنطقتين وسائر أنحاء أوكرانيا[17].

ونظرًا إلى تنويع أوكرانيا لشركائها التجاريين، فقد أصبحت أقلّ خضوعًا للسيطرة الروسية، وبالتالي باتت أكثر عرضة للتأثير الغربي. خشي بوتين من أن ركود الاقتصاد الروسي يعني انخفاض شعبيته التي يحرص على تقويتها، وما زاد توتره هو نشر أوكرانيا مؤخرًا بيانات تشير إلى أن اعتمادها على الواردات الروسية آخِذ في التناقص بشكل كبير، إذ أصبح أكثر انسجامًا مع الاتحاد الأوروبي، من خلال تنويع الشركاء التجاريين والصادرات. هذا الانتعاش الاقتصادي لأوكرانيا مقابل الركود الاقتصادي لروسيا يرسل رسالة لقائد الكرملين بأن مواطني القرم، الذين يواجهون اقتصادًا راكدًا تحت السيطرة الروسية، قد يرغبون أيضًا في تنويع سلة شراكاتهم التجارية مع الاتحاد الأوروبي وبعيدًا عن روسيا. أمام هذا الوضع الروسي الذي يبدو قاتمًا، كان على الكرملين البحث عن فرص اقتصادية جديدة يعزز من خلالها اقتصاده ويستعيد معها بوتين الثقة الشعبية بشخصه.

تعتقد روسيا أنها بضمها إقليم دونباس شرق أوكرانيا فإنها قد تكون حققت مكاسب اقتصادية كبيرة مما سيُسهِم في ازدهارها اقتصاديًّا على المدى الطويل. طالما كان إقليم دونباس مطمعًا لروسيا نظرًا إلى ما يملكه من إمكانيات اقتصادية وتجارية هائلة. هذا الإقليم يقع جنوب شرق أوكرانيا، على مساحة تُقدَّر بنحو 52.3 ألف كلم مربع. وحتى عام 2014م، كان إقليم دونباس يوصف بـ«سلة الصناعة والغذاء» في أوكرانيا، لما فيه من ثروات طبيعية وصناعات ثقيلة ومساحات زراعية، إضافة إلى ثرائه بمناجم الحديد والفحم المستخدم في المصانع ومحطات توليد الطاقة والتدفئة. مجتمع الإقليم يضم -رسميًّا- نحو 4 ملايين نسمة، 56.8% منهم أوكرانيون، ونحو 38.2% من أصول روسية، لكن اللغة السائدة فيه كانت -ولا تزال- الروسية. ولهذا كان الإقليم بالإضافة إلى القرم عاملًا رئيسيًّا في وصول الموالين لموسكو إلى سُدّة الحكم قبل أحداث 2014م وما تبعها. كان دونباس مهدًا رئيسيًّا لشعبية ورموز «حزب الأقاليم» الموالي لروسيا، الذي حكم أوكرانيا بين عام 2010م ونهاية عام 2013م[18].

ودونباس هي اختصار لكلمتَي «دون» من دونيتسك، و«باس» من باسين بالروسية، أي «حوض دونيتسك»، وجاء اسمها من حوض الفحم الذي اكتُشف في عام 1721م، الذي سُمّي على اسم نهر دونيتس العابر في المنطقة. وبدأ استغلال حوض دونيتسك في أوائل القرن الـ19، وبحلول عام 1913م كان ينتج 87% من الفحم الروسي[19].

ويضم إقليم دونباس منطقتَي دونيتسك ولوهانسك المتاخمتين للحدود مع روسيا، ويقع الإقليمان الانفصاليان المواليان لروسيا التي اعترفت باستقلالهما في حوض دونباس الناطق بالروسية في شرق أوكرانيا، وقد أصبحا منذ 2014م خارجين عن سيطرة كييف. تُعَدّ دونيتسك المدينة الرئيسية في التعدين وأحد المراكز الرئيسية لإنتاج الصلب في أوكرانيا، أما لوغانسك فهي مدينة صناعية، ويحتوي حوض دونباس المتاخم لروسيا على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود على احتياطات ضخمة من الفحم.

دائمًا ما تنظر العين الروسية إلى المواني البحرية بأنها ذات منافع جيوإستراتيجية واقتصادية كبيرة، فإذا نجح الروس في السيطرة على ماريوبول وميناء أوديسا فسيكونون بذلك قد سيطروا على أكثر من 80% من الساحل الأوكراني على البحر الأسود، ما يمكّنهم من قطع نشاط أوكرانيا التجاري البحري، وبالتالي زيادة عزلها عن العالم الخارجي. أمّا ميناء أوديسا التجاري البحري على البحر الأسود الذي يُعَدّ أحد أكبر مواني المياه العميقة على طول ساحل البحر الأسود، وأهمّ مواني العالم ازدحامًا بالسفن، فتبدو السيطرة عليه من روسيا مغريةً لاقتصادها، وفي ذات الوقت مُضعِفةً للاقتصاد الأوكراني، لذلك كانت مدينة أوديسا من بين الأهداف الأولى والرئيسية للحملة العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.

وإضافة إلى أهميتها كميناء فإنَّ أوديسا أيضًا تُعَدّ موطنًا لشركات عديدة في تقنية المعلومات، أهمها شركة إعلامية تسمى «كريون»، تلعب دورًا كبيرًا في الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية. وتصنع الشركة غاز النيون وبعض الغازات الأخرى، لكن غاز النيون يحتلّ أهمية خاصّة في إنتاج الشركة، فهو مادة تُستخدم لتشغيل أشعة الليزر التي تحفر على الرقائق الإلكترونية. وتزوّد الشركة الأوكرانية عديدًا من الاقتصادات الأوروبية بغاز النيون، وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية والصين وتايوان، فهو من بين المواد الأساسية والضرورية في صناعة الرقائق الإلكترونية، لكن العميل الرئيسي للشركة الذي يصدر إليه معظم الإنتاج هو الولايات المتحدة الأمريكية، وتنتج أوكرانيا 90% من أشباه الموصلات النيون المستخدمة في الولايات المتحدة[20].

ثالثًا: العامل الديمغرافي في أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا

إنّ معظم العوامل الكامنة وراء اهتمام روسيا بأوكرانيا معروف جيدًا، لكن التعمق في البحث يكشف عن فكرة أساسية وهي الخوف من أن تبتلع آسيا الوسطى يومًا ما روسيا بما سيتسبب لها في انعدام الأمن الديمغرافي. فمع تقلص عدد سكان روسيا ينمو سكان آسيا الوسطى، وإذا خسرت روسيا أوكرانيا فهذا يعني خسارة الديمغرافيا السلافية لروسيا.

تَعتبِر روسيا أوكرانيا ضمن دائرة نفوذها الطبيعي، إذ كان معظمها لقرون جزءًا من الإمبراطورية الروسية، وجزءًا كبيرًا من الأوكرانيين هم من الناطقين باللغة الروسية، كما كانت البلاد جزءًا من الاتحاد السوفييتي حتى حصولها على الاستقلال في عام 1991م. ويوجد أيضًا عدد كبير من السكان الروس في أوكرانيا، إذ يعيش نحو ثمانية ملايين روسي في أوكرانيا، معظمهم في الجنوب والشرق. وبالإضافة إلى المشاعر الروسية الخاصة بكييف، توجد أيضًا حقيقة سكانية تهمّ موسكو كثيرًا، وهي أنَّ ما لا يقلّ عن ثلث السكان الأوكرانيين، الذين يعيشون في الغالب في الجزء الشرقي من البلاد بالقرب من الحدود الروسية، يتحدثون اللغة الروسية ويشعرون بالانتماء إلى الأمّة الروسية. من ناحية أخرى، يتحدث الأوكرانيون الذين يعيشون في الأجزاء الغربية والشمالية من البلاد اللغة الروسية على نطاق واسع أيضًا.

لدى الكرملين قانون يُلزِم الحكومة حماية «العِرق الروسي»، الذي يُعرَّف بشكل فضفاض للغاية، ويحوي كذلك الأشخاص الذين يتحدثون الروسية ببساطة. ولتبرير دعمها للمناطق المطالبة بالانفصال عن أوكرانيا في جنوب شرق البلاد، استخدمت موسكو حجة حماية مصالح العرق الروسي، وذهبت إلى حد وصف المنطقة بأنها نوفوروسيا أو روسيا الجديدة.

على الجانب الآخر، تقع آسيا الوسطى في قلب المشكلة. كانت المنطقة مكوِّنًا مهمًّا للإمبراطورية والاتحاد السوفييتي، مما سمح لموسكو بتأكيد هيمنتها على فضاء متعدّد الجنسيات والأعراق. وتقوم شرعية روسيا الإمبراطورية بشكل مباشر على الحفاظ على هيمنتها على آسيا الوسطى، إذ تساعدها هذه السيطرة في الحصول على مكانة قوة عظمى، وفي «اللعبة الكبرى» مع القوى الغربية. على الرغم من إظهار روسيا رسميًّا بأنها غير ممانعة من وجود عالمين إسلامي ومسيحي متعايشين في منطقة آسيا الوسطى، فإنّ الرأي العامّ الروسي يعتقد أن المنطقة تختلط باستمرار بمفاهيم الإسلاموية والإرهاب وتراجع الروابط التاريخية والثقافية مع روسيا. ومجرد أن تضيع أوكرانيا من روسيا فهذا يعني أن يتضاءل التأثير السلافي إلى حد كبير مقارنة بسكان آسيا الوسطى والقوقاز ذات الأغلبية الإسلامية، إذ لن يبقى إلا روسيا وبيلاروسيا كدولتين سلافيتين مقابل خمس دول إسلامية في آسيا الوسطى.

من هنا يبدو جليًّا أنَّ روسيا أمام تحدي اتجاهات ديمغرافية متباينة، فمن جانبٍ دول آسيا الوسطى التي تغلب عليها الهوية الإسلامية، ومن جانب آخر أوكرانيا السلافية التي تريد الذهاب غربًا. فدول آسيا الوسطى (طاجيكستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وتركمانستان، وقرغيزستان) يسكنها مجتمعة طبقًا لإحصائيات عام 2011م أكثر من 64 مليون نسمة، يبلغ متوسط المسلمين من بينهم قرابة 78%، أكثرهم في طاجيكستان، التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 90%، وأقلّها في كازاخستان بنحو 47%[21]. من شأن عدم التوازن في النمو السكاني بين الجمهوريات الإسلامية والسلافية أن يتحدى شرعية وسلطة الحكام الروس بسبب أن النمو السكاني في آسيا الوسطى أعلى بكثير مما هو عليه في روسيا، إذ ظلّت الخصوبة مرتفعة نقطتين أو ثلاث نقاط أعلى من روسيا. يضاف إلى ذلك أنَّ عدد المسلمين في روسيا نفسها يتزايد لسببين، أولهما ارتفاع معدل المواليد بين المسلمين، والثاني وصول مسلمين من آسيا الوسطى للعيش في روسيا، إذ يعيش اليوم نحو 25 مليون مسلم روسي هناك.

بلغ عدد سكان روسيا ذروته عند 148 مليون نسمة في عام 1992م، وما فتئ ينخفض ​​منذ ذلك الحين. سجّل التوازن الطبيعي (المواليد/ الوَفَيَات) خسارة غير مسبوقة قدرها مليون نسمة في عام 2021م، وهكذا انخفض عدد السكان الطبيعيين لروسيا بأكثر من 12 مليون نسمة بين عامَي 1992م و2010م ليصل إلى 146 مليون نسمة اليوم، ومن المتوقَّع أن يصبح عدد سكان البلاد نحو 140 مليون نسمة في عام 2035م، و130 مليون نسمة في عام 2050م. وعلى العكس من ذلك من المتوقع أن يزيد عدد السكان في سنّ العمل في أوزبكستان بأكثر من 6 ملايين نسمة بحلول عام 2050م، ويزيد عدد سكان طاجيكستان بنحو 3 ملايين نسمة[22].

أمام هذا الوضع الديمغرافي الصعب للروس وتراجع الأيدي العاملة، اتخذ بوتين نهجًا ذا شقين، كان الجزء الأول هو اعتماد التجنيس. بين عامي 1991م و2016م، مُنحت الجنسية الروسية لـ8.6 مليون شخص، 92% منهم من الاتحاد السوفييتي السابق، بما في ذلك كازاخستان وأوكرانيا. والثاني هو فتح حدود روسيا أمام أعداد كبيرة من المهاجرين، خاصة من آسيا الوسطى. وبالفعل زاد عد سكان روسيا من المهاجرين ليصبحوا في عام 2017م نحو 11.6 مليون نسمة نصفهم من آسيا الوسطى، وكان العدد الأكبر من أوزبكستان وطاجيكستان. قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: «نحن في أمسّ الحاجة إلى هؤلاء المهاجرين لتنفيذ خططنا الطموحة. إن نقص عدد العمال المهاجرين في البناء وحده يتراوح ما بين 1.5 و2 مليون عامل، لا يزال من الصعب للغاية العثور على عمال على الرغم من مضاعفة رواتبهم. إن الزراعة تواجه أيضًا خطر الاضطرار إلى وقف بعض العمل بسبب نقص 38 ألف عامل مهاجر يقومون عادة بوظائف موسمية» وطالب موسكو بفتح الحدود أمامهم[23].

ومع فتح باب الهجرة من آسيا الوسطى، لكنها لم تعد موجهة فقط نحو روسيا، فهي تزداد سرعة باتجاه الاتحاد الأوروبي أيضًا بشكل لم يكن موجودًا قبل 20 عامًا. وأظهرت تجربة الأزمات الاقتصادية السابقة أن انخفاض عدد العمال الأجانب لا يؤدي إلى زيادة متكافئة في التعيينات المحلية في روسيا، فغالبًا ما تكون أماكن العمل التي يشغلها الأجانب غير مطلوبة بين الروس، وحتى في أوقات الأزمات فإن المواطنين الروس العاطلين عن العمل يفضلون الانتظار حتى تمر الأوقات الصعبة، معتمدين على المدفوعات الاجتماعية أو المدخرات، ولن يقبلوا بخفض مكانتهم الاجتماعية من خلال الموافقة على تنظيف الشوارع أو أن يصبحوا عمالًا يدويين.

أمام تراجع السكان الروس، خصوصًا من فئة الشباب، وضعف الإقبال على الهجرة لروسيا، جرَّب الكرملين مناهج جديدة. في المنهج الأول، منحت الحكومة الروسية سكان المناطق المحتلة أو المتنازع عليها (أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وترانسنيستريا، وشبه جزيرة القرم، ودونباس، وناغورني كاراباخ) جوازات سفر، وحاليًّا يحمل نحو 90% من سكان أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية جوازات سفر روسية، ومنذ 2018م حصل ما لا يقل عن 650 ألف مواطن من دونباس على جوازات سفر روسية. أمّا المنهج الثاني فهو تسهيل تجنيس الناطقين بالروسية، فبعد الإصلاح الذي أُجري عام 2014م، هدفت خطة العمل الروسية لعام 2019م إلى منح نحو 5 إلى 10 ملايين شخص الجنسية بحلول عام 2025م، مستهدفة المتحدثين بالروسية في الاتحاد الروسي القديم. في عام 2020م رحبت روسيا بعدد قياسيّ من المواطنين الجدد، نحو 660 ألفًا، من بينهم 410 آلاف من أوكرانيا، و145 ألفًا من آسيا الوسطى[24].

وأخيرًا، أتاح ضمّ شبه جزيرة القرم أن يصبح 2.5 مليون شخص إضافيّ مواطنين روسًا، وفي ذات الوقت تُسارِع روسيا الخطى وبشكل علني لتوزيع جنسيتها على سكان دونيتسك ولوهانسك. ففي يوليو 2021م أعلن ديمتري كوزاك نائب رئيس إدارة الكرملين أن نحو مليون أوكراني حصلوا على الجنسية الروسية بين عامَي 2016م و2020م فقط. يؤكد هذا السياق الديمغرافي الكارثة الجيوسياسية الحقيقية لروسيا في حالة خسارة أوكرانيا كخزّان للسكان السلاف، ويشرح سبب مخاوف الروس من استقلال الأخيرة وذهابها إلى الغرب، وكأنه بتر جزء فعليّ من الجسد الروسي[25].

لذلك يهدف بوتين إلى أن عملية الضم الجديدة لأوكرانيا ستساعد روسيا على حلّ مشكلتها الديمغرافية، لأنه سيسمح لأوكرانيا الخاضعة للسيطرة الروسية بتدفق أكبر بكثير للعمال السلافيين المتجهين إلى الشرق بدلًا من الذهاب إلى الغرب، خصوصًا أن الأوكرانيين مهاجرون مثاليون، وكسلاف شرقيين يُعَدّ من السهل إدماجهم في روسيا، خصوصًا أنهم يجلبون المهارات اللازمة لسوق العمل الروسية. هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن العامل الديمغرافي يقع في قلب إستراتيجية موسكو تجاه أوكرانيا، لكن إهمال هذا البعد، من ناحيةٍ أخرى، يرقى إلى غضّ الطرف عن عنصر تاريخي وثقافي واجتماعي سياسي مهمّ للهوية الوطنية الروسية والرؤية الجيوسياسية للكرملين وللاقتصاد الروسي.

الخلاصة

يمكن القول إنَّ أوكرانيا تمتلك من الموارد الطبيعية الوفيرة والبشرية والقوى العاملة المتعلمة تعليمًا عاليًا وبأسعارٍ تنافسيةٍ ما يجعلها منطقة تنافس اقتصادي كبير بين الغرب الأوروبي وروسيا، ما يعني أن أوكرانيا ستحقق كثيرًا من التنوع الاقتصادي لروسيا، وستُسهِم في ازدهاره الاقتصادي لو نجح في السيطرة على سياساتها الحكومية ومنعها من التوجه نحو الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه الاقتصاد الأوكراني فإنَّه من المحتمل أن تكون هذه المكاسب في خطرٍ حالَ استمرار العمليات العسكرية الروسية. في الأيام الأولى للحرب، قدَّر البنك المركزي الأوكراني أن الناتج الإجمالي انخفض بمقدار النصف، وتقدّر الحكومة الأوكرانية أن روسيا دمرت بالفعل أكثر من 500 مليار دولار من الأصول الاقتصادية. أدت الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمطارات والمواني البحرية والجسور إلى شلّ البنية التحتية للبلاد والقدرة على التجارة مع البلدان الأخرى.

إلى حدٍّ كبير، تحوّلت أوكرانيا مع الغزو الروسي إلى اقتصاد حرب، فعلى سبيل المثال تستخدم إحدى شركات تصنيع الأحذية النسائية الجلود الإيطالية في صناعة الأحذية العسكرية، وجرى تحويل شاحنات تابعة لشركة إنشاءات إلى قاذفات مضادة للطائرات، وتصنع مجموعة من مصانع الصلب والتعدين أسلحة مضادة للدبابات وملاجئ خرسانية. وقد انضم عديد من العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات إلى جيش القراصنة الأوكراني بهدف حماية البنية التحتية من الهجمات الإلكترونية، أو بغرض شن هجوم ضد روسيا. مع ذلك لا يزال عديد من المصانع والشركات يعمل في أوكرانيا، مثل تلك التي تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، كونها مستمرة في العمل من مناطق بعيدة عن خط النار المباشر.

لقد فاجأ هجوم روسيا على أوكرانيا الأسواق المالية، وأخذت عواقبه بالفعل تُحدِث تأثيرًا شديدًا في الطاقة والنقل والخدمات اللوجستية والأسهم والأصول. ومن المحتمل أيضًا أن يكون للصراع تأثير قوي في سلاسل التوريد العالمية وأسواق الطاقة والغذاء وحتى التصنيع وقطاع الأدوية.

هذا يجعلنا نستشرف بأنه مع استمرار الأزمة الروسية-الأوكرانية في التصاعد سيبقى حدوث مزيد من عدم اليقين والتقلب في الأسواق الاقتصادية عنوانًا للمرحلة المقبلة. أمّا مستقبل أوكرانيا ووجهتها القادمة فسيتحدّدان من خلال الحسم العسكري فيها، فإما أن ينجح بوتين في حربه وتُستقطَب أوكرانيا، أو على الأقل شرقها كورقة اقتصادية جديدة تُسهِم في تعزيز القوة الشاملة الروسية، وإما أن يخسر الحرب وتستمر أوكرانيا في شراكتها واندماجها مع الاتحاد الأوروبي.


[1] Yuriy Gorodnichenko, Ukraine’s Economy Went from Soviet Chaos to Oligarch Domination to Vital Global Trader of Wheat and Neon and Now Russian Devastation, The Conversation, (March 21, 2022), Accessed on: March 23, 2022, https://bit.ly/3quMmrF.

[2] المرجع نفسه.

[3] جريدة الأنباء الإلكترونية، أوكرانيا تسرق الأضواء عالميًّا.. حقائق مخفية تجعل منها ثقلًا اقتصاديًّا، 27 فبراير 2022م، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2022م، https://bit.ly/3uf6NtX.

[4] العربي الجديد، اقتصاد أوكرانيا.. إمكانات هائلة وقدرات ضعيفة، 23 فبراير 2022م، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2022م، https://bit.ly/3JyXMCb.

[5] المركز الكردي للدراسات، الحرب في أوكرانيا: الدوافع والسياق ونتائجها المحتملة، 04 مارس 2022م، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2022م، https://bit.ly/3D0Q3KR.

[6] Yuriy Gorodnichenko, Ukraine’s Economy Went from Soviet Chaos to Oligarch Domination to Vital Global Trader of Wheat and Neon and Now Russian Devastation, Ibid.

[7] العربي الجديد، اقتصاد أوكرانيا.. إمكانات هائلة وقدرات ضعيفة.

[8] TRADING ECONOMICS, Russia GDP Growth Rate, 1995-2019 Data, 2020-2022 Forecast, Historical Chart, Accessed: March 22, 2022, https://bit.ly/3IrtCzu.

[9] Pifer, Steven, Heading for (Another) Ukraine-Russia Gas Fight?, (August 30, 2019), Accessed: March 22, 2022, https://brook.gs/3u7vBnm.

[10] Avedissian, Karena, Fact Sheet: What Is the Eurasian Economic Union?, (Nov. 03, 2019), Accessed on: March 22, 2022, https://bit.ly/3ilTHFN.

[11] TASS, Kiev Undermines Opportunities for Improvements in Donbass.. Russian Negotiator, (April 23, 2020), Accessed on: March 21, 2022, https://bit.ly/3wudMC5.

[12] Cohen, Ariel, As Russia Closes In On Crimea’s Energy Resources, What Is Next For Ukraine?, Forbes, (Feb. 28, 2019), Accessed on: April 23, 2020, https://bit.ly/3JAohre.

[13] BBC, Russian Import Ban Fuels Food Price Rises, (August 19, 2014) , Accessed on: March 21, 2022, https://bbc.in/3udPTMi.

[14] The Moscow Times, Russia GDP Growth Almost Halves in 2019, (Feb. 03, 2020), Accessed on: March21 , 2022, https://bit.ly/34YUXeT.

[15] Aslund, Anders, Atlantic Council, Russia Loses Leverage as Ukrainian Exports Go Global, (Feb. 20, 2020), Accessed on: March 21, 2022, https://bit.ly/3Jy5Lzy.

[16] Emerging Europe, Frozen Conflict Brings Economic Stagnation to Ukraine’s Donbas Region, (March 24, 2022), Accessed on: March 24, 2022, https://bit.ly/3IAzuXq.

[17] موقع الشرق، ما منطقة دونباس، مصدر التوتر على حدود روسيا وأوكرانيا؟ 02 ديسمبر 2021م، تاريخ الاطلاع: 24 مارس 2022م، https://bit.ly/3Nx87ku.

[18] الجزيرة نت، لماذا تطمع روسيا بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك بإقليم دونباس شرق أوكرانيا؟ 28 يناير 2022م، تاريخ الاطلاع: 24 مارس 2022م، https://bit.ly/3IFgkPY.

[19] موقع الشرق، ما منطقة دونباس، مصدر التوتر على حدود روسيا وأوكرانيا؟

[20] Yuriy Gorodnichenko, Ukraine’s Economy Went from Soviet Chaos to Oligarch Domination to Vital Global Trader of Wheat and Neon – and Now Russian Devastation, Ibid.

[21] موقع ساس، المسلمون في آسيا الوسطى.. ما الذي تعرفه عنهم؟ 16 يونيو 2016م، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2022م، https://bit.ly/3isMjZ2.

[22] INSTITU MONTAIGN, Pourquoi l’Ukraine est importante pour la Russie: le facteur démographique, (Feb. 11, 2022), Accessed on: March 22, 2022, https://bit.ly/3wP7AVp.

[23] إندبندنت عربية، تراجع العمال المهاجرين من آسيا الوسطى يوجه ضربة إلى روسيا، 14 مايو 2021م، تاريخ الاطلاع: 22 مارس 2022م، https://bit.ly/3Nc9uoI.

[24] INSTITU MONTAIGN, Pourquoi l’Ukraine est importante pour la Russie, Ibid.

[25] موقع الجزيرة، لماذا تطمع روسيا بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك بإقليم دونباس شرق أوكرانيا؟

د. أحمد بن ضيف الله القرني
د. أحمد بن ضيف الله القرني
نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية