التيّار الصرخي: الخلاف الشيعي- الشيعي وانعكاساته السياسيّة في العراق

https://rasanah-iiis.org/?p=27988

المقدمة

تمتلئ الساحة العراقية بالمذاهب والتيارات والملل والنحل، وإذا كان ثمّة خلافات سياسية داخل البيت الشيعي العراقي، فإنّ خلافًا أعمق يدور داخله، حول القراءة الدينية للمذهب، فالنماذج المتنازعة تريد تطبيق قراءتها في الواقع، فينعكسُ ذلك النزاع على المشهد السياسي والديني، تأثيرًا وتوظيفًا.  

وهناك خلاف قديم، بين التيار الصرخي، وسائر التيارات الشيعية، لكنّه تجلى في الآونة الأخيرة بقوة وعنف، عندما طالب خطيبٌ صرخيٌّ من على منبر الجمعة (وذلك في خطبة الجمعة 08 أبريل 2022م)، طالب بهدم المقابر مستدلًا بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم للإمام عليّ بن أبي طالب بهدم القبور وتسطيحها، وعدم البناء عليها. فكان الردّ الشيعيّ عنيفًا هذه المرة ضد التيار، على المستوى الشعبي، والحوزوي، والحكوميّ، مع ما لذلك من أبعاد وانعكاسات على المشهد السياسي والديني في العراق، ولاسيّما وأنّ التيار الصرخي له أتباعٌ أيضًا بالآلاف يتمركزون في محافظات مختلفة، مثل الديوانية والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة، ويصل عددهم وَفقًا لبعض التقديرات إلى ما يقرب من 30 ألف شخص، بينهم عناصر «جيش الحسين».

وسيتناول التقرير ذلك الخلاف الشيعي-الشيعي، من أربعة محاور: أوّلًا: التيار الصرخي.. معالمُ السياسة والمذهب، ثانيًا: الخلاف الكامن وأسباب الانفجار، ثالثًا: التسقيط المذهبي.. التشكيك في شيعيّة التيار، ورابعًا: إشكال التيار الصرخي

أوّلًا: التيار الصرخي.. معالمُ السياسة والمذهب

يُنسب التيار الصرخي للمرجع الديني آية الله محمود الصرخي، الذي وُلد بمدينة الكاظمية في بغداد عام 1964م، ودرس في مسقط رأسه، وتخرج من كلية الهندسة في جامعة بغداد عام 1987م، والتحق بالحوزة العلمية في النجف عام 1994م.       

1. أصل المدسة وجذورها: يُرجِع الصرخي مدرسته ومقولاته إلى الصدرين [محمد باقر الصدر (أُعدم سنة 1980م)، ومحمد محمد الصدر (اغتيل سنة 1999م)]، لكن هذا الانتساب إلى الصدرين يُقلق كثيرًا من التيارات الشيعية الأخرى التي تنتسب هي الأخرى إلى الصدر، وتقرؤه قراءةً مغايرة، كالتيار الصدري، وحزب الدعوة، وبعض الميليشيات. وإذا كان الصدران، ولاسيّما الصدر الثاني، قد دخل في اشتباك مع ما سمّاه «الحوزة الصامتة» (ويقصدُ بها المرجعية التي تنأى بنفسها عن الشأن العام)، وجعل نفسَهُ مُمثّلًا للحوزة «الناطقة» (المرجعية التي تتدخل في الشأن العام)، إلّا أنّ السياق مختلف من حيث الزمن، والتطورات، والفاعلين، مِمّا يجعل وقوف الصرخي عند ثنائية «الحوزة الناطقة/ الحوزة الصامتة» موضعَ ضعفٍ في مشروعه، وشرعيّته داخل الجماعة الشيعية، ولأنّ ثمّة ممثلون للتيار الصدري أكثر قربًا وولاءً منه، لا في نفس الأمر فقط والذي قد يُنازَع فيه، وإنما من حيث الظاهر للجماعة الشيعية التي تحترم المراجع وأبناءهم وعوائلهم، ولا يخفى دور العوائل في تمتين الشرعية الحوزوية، وحقّ الأبناء والأقارب في إرث وتمثيل الآباء والأجداد.           

2. الصرخي وشكل الدولة: يقول الصرخي إنه يؤمن بدولة: «يعيش فيها الجميع بغضّ النظر عن مذهبه أو ديانته أو قوميته». ويبدو أنه تأثر بالأجواء الطائفية التي برزت في العراق بعد الغزو الأمريكي لبغداد 2003م؛ ولذا حذر من الحرب الشيعية-السنية، ودعا للحوار، واتخذ موقفًا شديدًا ومناهضًا لولاية الفقيه الإيرانية.      

ويؤمنُ في نفس الوقت بولاية الفقيه، لكنّه يجعل الولاية للأعلم من الفقهاء؛ فيرى أنه يجب على المسلمين أن يعرفوا في كُل زمان الإمام الحقّ ويتبعوه، وهذا الإمام هو القائد الذي يستطيع أن يوصل المجتمع إلى الرُقي والعدل، ويجب أن يكون في كُل مرحلة إمام واحد يقود زمام الأمور، ويكون أعلم من البقية، ويرفض مشاركة عامة الناس في اختيار الإمام أو انتخابه، واختيار الناس محالٌ في نظره؛ لأنهم لا يتفقون على شخص واحد، فكلّ مجموعة ستختار قائدًا لها، وهذا سيولّد تعدد الأئمة وتنافسهم على السلطة، مِمّا يؤدي إلى ضرب القوانين الإلهية، وتعُم الفوضى وينتشر الفساد. ثُم يُقرر أنّ طاعة الفقيه مثل طاعة الإمام المعصوم؛ لأنّ الرسول قد عيّن أئمة المسلمين من بعده، وأوجب طاعتهم (يقصد الأئمة الاثني عشر). ويجعل طاعة أُولي الأمر واجب في زمن الغيبة الصغرى والكبرى، وبعد زمن نيابة السفراء الأربعة انتقلت ولاية الأمر إلى الفقهاء العدول الجامعين للشرائط، وأهم شرائط الإمامة هي الأعلمية؛ لأنّ الإمام والقائد يجب أن يكون أعلم الناس. ثُم يجعل لنفسه الأعلمية على غيره من فقهاء معاصرين له. ومِن أخطر مقولاته إنّ الوليّ الفقيه: «يتساوى مع الإمام المعصوم في الولاية التشريعية». فهو لا يؤمنُ بولاية فقيه منحصرةٍ ومقيّدة، بل يؤمنُ بولاية فقيه مطلقة، فيحقّ للفقيه أن يُشرّع، ويقنّن، وتكون أحكامه من قبيل الحكم الأوليّ لا الثانوي.

وهو في نفس الوقت، ينتقد ولاية الفقيه الإيرانية، انتقادا لاذعًا، ويراها نظرية للتمدد الإيراني، فيقول منتقدًا التمدد الإيراني: «أصحاب المشاريع الإمبراطورية لا يقفون عند حدّ ما دامت الدول والشعوب مستكينة وخاضعة ولا تملك العزم والقوة والقرار للوقوف بوجه الغزو والتمدد القادم والفتك بهم». ويقول منتقدًا لولاية الفقيه: «الضيم والظلم والمرض والفقر والجوع..، الذي مرّ ويمر على شيعة العراق جَعَلَهم يترحّمون على أيام صدام حسين والذي جعلهم ينفرون ويفرّون من ولاية الفقيه.. ولم يرتبط بولاية الفقيه إلّا الميليشيات القاتلة المتعطشة لسفك الدماء». وفي حوار قديمٍ له مع صحيفة الشرق الأوسط، قال مُعارضًا ولاية الفقيه الإيرانية: «كُل ما حصل ويحصل وسيحصل هو بسبب ما توصلنا إليه بالدليل العلمي الشرعي القاطع، الذي أعلنّاه وصرّحنا به ولم ولن نتردد في طرحه، وهو الولاية العامة للفقيه وإنها تنعقِدُ للأعلم أينما وُجد؟ ولا علاقة لها بالتصدي لمنصب أو سلطة أو حكومة أو رئاسة أو شهرة إعلامية أو غيرها، فلا تنعقِدُ الولاية العامة بقوة السيف والبطش والقمع والإرهاب والرشا والإعلام الزائف والمكر والخداع». وهو هنا يُصرّح تصريحًا لا لُبس فيه بتبنّيه لولاية الفقيه العامة، بيد أنه يقول إنها لا تثبت بالسلاح والبطش كما هو الحال في ولاية الفقيه الإيرانية، بل تثبت بالأعلمية!. لكنه لم يُبيّن ماذا عند التنازع في الأعلمية كما هو حاصلٌ معه، إذ ينفي خصومه أعلميّته، وماذا عن الولاية الشاملة والمطلقة، فهل تشمل غيره من فقهاء مجتهدين أم لا، وهل تشمل من هُم خارج الحدود أم لا؟ فهناك ثغرات في نظريته تحتاج إلى إيضاح وتبيين.

إذن هو قائل بولاية الفقيه، لكنه يجعل لنفسِه «بوصفه الأعلم» الولايةَ لا لغيره من الفقهاء المعاصرين من أقرانه، وهنا يُمكن فهم التنافس بينه وبين غيره من مراجع، وإن كانت الغلبة لغيره من حيث عدد المقلدين والموارد المالية.  

الصرخي والمرجعية: انتقد الصرخيّ المرجعية العليا في النجف؛ بسبب موقفها من الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م، ثُم بسبب فتوى الجهاد ضد تنظيم الدولة 2014م، مِمّا تسبب في هجوم البعض على مكاتبه، إضافةً إلى قيام حكومة المالكي بقصف مقراته بالصواريخ بسبب انتقاده لحكومة المالكي وتعاملها مع القضية السنية، حسب قوله.

كذلك انتقد الصرخي فتوى السيستاني بالجهاد في سوريا،  لكنّ الخلاف أعمق، على ما يبدو، فإنّ الصرخي اتهم المرجع السيستاني بالتسبّب في اعتقاله ثلاث مرات من قِبل السلطة العراقية في عهد صدام حسين، باتصالات مباشرة مع ضباط الحرس الخاص،  والتهمة: «هي نفس التهمة التي سُجّلت على الشهيد الصدر الثاني، رحمه الله، وتسبّبت في اغتياله.. وهي إزعاج المرجع السيستاني بادعاء الصدر وادّعاءَيْ الاجتهاد والأعلمية وإصدار البحوث الأصولية والفقهية إلى الساحة العلمية والأسواق، وهذا يربك ويزعج المرجعية».  

لم يستطِع الصرخي فتح قنوات اتصال مع المرجعية، ليُمْكنه تعزيز شرعيته داخل الجماعة الشيعية؛ لأنه يرى أنه «المرجع الأعلى» أي إنه لا يؤمنُ بأعلمية السيستاني، أو لا يؤمنُ بأنه المرجع الأعلى، وبالتالي فهو يرى نفسَه مُنافسًا للسيستاني وأحقّ منه بالمرجعية العليا، وهو ما أفقده لا شكّ القبول الشيعي؛ لأنّ أستاذه الصدر نفسَه لم يكُن في درجة الخوئي ثُم السبزواري، ثُم السيستاني، في الشارع الشيعي.

عروبة التيار: يعلن الصرخي مرارًا وتكرارًا عروبة تياره، في وجه المدّ الإيراني/ الفارسي كما يُسميه، وفي لقاءٍ له مع صحيفة الوطن المصرية في فبراير 2015م، أعلن أنّه: «لا يوجد خطاب ديني مذهبي شيعي عراقي، فالخطاب الديني في العراق هو خطاب إيراني خالصٌ وبامتياز لا علاقة له بالمذهب الشيعي إلّا بالمقدار الذي يخدمُ فيه سياسة السلطة الإيرانية الحاكمة وأمنها القومي التسلطي». وكأنه بهذا الطرح يُريد أن يستقطب الشيعة العرب والعراقيين، وتفكيك صلتهم بالإيرانيين. لكن في المقابل، فإنّ هذا الخطاب غير مسلَّم عراقيًا، فالعراقيون الشيعة لا يؤمنون بقومية المراجع، وقد قلّدوا قديمًا وحديثًا مراجع غير عرب. وثمّة فاعلون آخرون من داخل الحوزة، أصولهم عربية، فليست البيئة العربية إذن خالصةً للصرخي دون غيره.

ثانيًا: الخلاف الكامن وأسباب الانفجار

هناك أسباب مباشرة أدت إلى انفجار الخلاف الأخير بين الطرفين،  وهناك أسباب خفيّة، تتعلق بما هو ديني، وسياسي، واقتصادي/ مصلحيّ.     

أمّا السبب المباشر، فهو ما جاء في خطبة الجمعة (08 أبريل 2022م) التي ألقاها خطيب مسجد الفتح المبين بمحافظة بابل، علي المسعودي، والتي دعا خلالها إلى عدم بناء الأضرحة والمساجد على القبور وعدّ ذلك شركًا ومنافيًا للعقيدة الإسلامية. فألقت قوات الأمن العراقي القبض على المسعودي بتهمة «الإساءة إلى الرموز والطقوس الدينية وكذلك الدعوة إلى هدم المراقد الدينية».  

وهناك جانب خفيّ (إضافةً إلى ما سبق ذكره من خلاف بينه وبين خصومه على قراءة المذهب)، وهو دعوته ودعوة أنصاره إلى التعايش بين المسلمين، وترضّيهم على أبي بكر وعمر، وعائشة وسائر الصحابة. ولا شكّ أنّ تلك اللغة تُقلق أجنحةً تقليدية محافظة، وأخرى متطرفة، سواءً محسوبة على الساسة أو رجال الدين، حتى انتقدهم ياسر الحبيب (أحد مشايخ المدرسة الشيعية الشيرازية، المتطرفين)، بسبب: «تبرئتهم لعمر بن الخطاب»، ووصف التيار بأنه يتلاعب بأصول التشيّع!.

 فكانت الفرصة إذن، مواتيةً لتلك التيارات بالعمل ضد التيار الصرخي بوصفه صاحب «انحرافات وضلالات».  وجاء كذلك الموقف السريع من التيار الصدري، وعلى لسان زعيمه مقتدى الصدر، والذي هدّد فيه، بعد الخطبة بيوميْن، المرجع الصرخي، قائلًا: «بعض مَن ينتمون بالتقليد إلى الصرخي مِمّن يحاولون إدخال بعض العقائد المنحرفة إلى المذهب، وآخرها ما صدر عن إمام جمعةٍ لهُم في محافظة بابل وذلك بالمطالبة بهدم القبور للأولياء والمعصومين». ثُم أمهل الصرخيَّ ثلاثة أيام للتبرؤ من إمام الجمعة، وإلّا، كما قال، :«فإنني أجد نفسي ملزمًا بالتعامل معهم ومع أمثالهم بما يمليه عليّ ضميري وديني، ومذهبي..». وانتقد كذلك الإطار التنسيقي للتيار الصرخي، ودعوة خطيبه إلى هدم المراقد.

ثالثًا: التسقيط المذهبي.. التشكيك في شيعيّة التيار

ليست هذه المرة الأولى التي استُهدف فيها التيار الصرخي، بل تمّ استهدافه في العام 2012م، وهُدمت بعض مساجده، واعتُقل بعض عناصره، وقُتل عدد من أفراده.  وكذلك في العام 2014م، ثُم أخيرًا في العام 2022م.

لكن هذه المرة تختلف كثيرًا عن المرات الفائتة، فالمسألة ليست مجرد خلاف ديني أو شخصي بينه وبين المرجعيات الدينية التقليدية والإصلاحية، في العراق وخارجه، بل بينه وبين الجماعة الشيعية برمتها، والتي ترى أنّ المراقد أصلٌ من أصول المذهب، وسببٌ من أسباب بقائه واستمراريته ومداخيله.

ولذا؛ سرعان ما غضبت التيارات الدينية والسياسية من الخطيب الصرخي، الذي طالب بهدم المقابر، وبدأت الأمور باحتجاجاتٍ محدودة، ثُم تطورت إلى اعتقالات مُمنهجة ضد أبناء التيار، في معظم محافظات العراق، من قِبل وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية في وزارة الداخلية.

أمّا جماهيريًا، فقد قامت مجموعاتٌ بهدم مساجد ومقرات وحوزات تابعة للتيار الصرخي، بالجرافات، أهمها: مسجد الفتح المبين في بابل.

أمّا مقتدى الصدر فقد استنكر، ولو ظاهريًا، هدم المساجد، فقال في تغريدة (بتاريخ 13 أبريل 2022م): «ما حدث من رد فعل شعبيّ ضد المحسوبين على المذهب المطالبين بهدم المراقد لأمرٌ مستحسَن، فهو دفاع عن الدين والمذهب، وعشق للمعصومين..، لكن عليهم التورع عن هدم المساجد وحرقها، وتخريبها، فضلًا عن تفجيرها، والاكتفاء بغلقها ومنع أصحاب الفتنة من إقامة شعائرهم المشبوهة فيها، فهدم المساجد لا يقلُ خطورةً عن هدم المراقد».  

وإذا كان هدم المساجد لا يقلُ خطورةً عن هدم المراقد، فإنّ المفارقة أنّ من هدموا المساجد وُصفوا بالأبطال، ومَن طالبوا بهدم القبور مع عدم الفعل، وبقاء الكلام بعيدًا عن التطبيق العملي، اعتُقلوا وأُغلقت مقراتهم، وهُدّمت مساجدهم، بفعلٍ شعبيّ بعيدًا عن المؤسّسات القانونية والدستورية في الدولة!.

ورغم أنّ الخطوات الأمنية والجماهيرية لم تبدأ بعد جمعة الثامن من أبريل مباشرةً، إلّا أنها تسارعت وتصاعدت لاحقًا بدخول التيارات السياسية على خط الأزمة، توظيفًا واستغلالًا، حتى رفعت مجموعاتٌ تابعة للحشد الشعبي أعلام الحشد واتهموا حركة الصرخي بأنها: «تابعةٌ لإسرائيل وأمريكا» مُهدّدين «بدفن» أعضاء هذه الحركة إذا ما تجاوزوا على المراقد الدينية في العراق. وفي مسارٍ مواز، قامت وزارة الداخلية بإغلاق كافة مقرات المرجع الصرخي في العراق.

على المستوى المذهبي، قال الشيخ جميل الربيعي، أحد أساتذة الحوزة: «إنّ حركة الصرخي ليست شيعية، وهو ليس عالمًا». واتّهم التيار الصرخي بالعمالة: «هؤلاء ليسوا شيعة وليسوا سنة وليسوا عربًا وليسوا كُوْردًا، بل هؤلاء أدوات بيد عملاء الصهيونية، والصرخي ليس من العلماء، ولا يعرف من العلم شيئًا بل أجهل من الجاهل، وهو بعثيٌ من أعداء الشعب العراقي، والمساجد التي هُدمت ليست مساجد الإسلام بل مساجد النفاق والكفر والشرك».

وجديرٌ بالذكر أنّ بعض المحسوبين على التيار الإصلاحي الشيعي عمومًا، انتقدوا خطاب الحركة الصرخية (أبرزهم الشيخ ياسر عودة)، وأوّلوا مسألة هدم القبور في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا بارتفاع الكراهة في مسألة قبور الأولياء والمعصومين، وقالوا إنّ الذهاب إلى قبور الأولياء للتعبّد هناك من أعظم القربات، ولا توجد رواية واحدة تحرم بناء مقام على قبور الأولياء، وفي نفس الوقت طالبوا بإزالة الشركيات!.

ويرى الصرخي أنّ ما تتعرض له حركته يرجعُ إلى الخوف من مرجعيته، فيقول: «وأكتفي في المقام بالتساؤل عن سبب كُل ما وقع ويقع علينا وتضاعفه وتصاعده هذه الأيام، فهل يرجع إلى إرادة إفراغ الساحة من كُل منافس محتمَل لمرجعيةٍ بديلة يراد التأسيس لها وتثبيتها في العراق بعد أن صار اعتقاد الجهات المتسلطة وقناعتها أنه قد انتهت ورقة مَن موجود مِن مرجعيات يرادُ تصفيتها الآن، وقبل التصفية يراد إفراغ الساحة أوّلًا من كل ما يُحتمَل أن يكون مُنافسًا أو بديلًا في الساحة بعد تصفية الآخرين فنكون أول من صُب ويُصب عليه هذا العداء؟».

لكن السؤال المهم في هذا السياق: هل الصرخي شيعي يؤمنُ بانفرادات الشيعة عن بقية المذاهب الإسلامية؟! والجواب، نعم، فإنّه يقول بالخمس، وبزواج المتعة، وبالمهدي، والإمامة، واللطم والتطبير، وغيرها من مقولات شيعية. وهو في الحقيقةِ لم يخرُج عن ركن من أركان المذهب، لكن الخلاف في جوهره، هو خلاف شخصي وسياسيّ، فالصرخي ينتقد مدرسة الخوئي لصالح مدرسة باقر الصدر وأصالتها، وانتقد تلميذه السيستاني الذي يُعَد الوريث الأبرز للخوئي. أيضًا، فإنّ تبنّيه لمدرسة الصدرين ألّبت عليه المنافسين الآخرين الذي يتبنّون الصَّدْرَيْن، ويريدون احتكار المدرسة الصدرية. واشتبك معه حلفاء إيران كذلك لمناهضته لولاية الفقيه وانتقاده للسياسة الإيرانيّة. فالخلاف ليس علميًا فقط، بقدر ما هو خلاف مصلحيّ وشخصيّ، وتاريخيّ بين مدارس شيعية داخل الجماعة الإمامية الاثني عشرية متنافسةً ومتخاصمةً على النموذج الذي يمثّلُ المذهب، وعلى الخمس، وعلى حواضن التقليد.   

رابعًا: إشكال التيار الصرخي

تبدو هذه أهم معركة مع التيار الصرخي؛ لأنّ هذه المرة ليست معركة الحوزة، ولا معركة الحكومة العراقية فقط، كما كان عليه الأمر سنة 2014م، لكن عموم الشعب العراقي، رفض دعوة التيار لهدم المراقد أو المقابر. والعراقيون الشيعة يتوجسون من أيّ خطابّ يمسّ المقابر أو مراقد الأئمة، حتى غير المتديّنين أو غير المحسوبين على «الإسلاميين»؛ وذلك بسبب الخطاب الديني الذي ربط بين طرح تلك الفكرة والإرهاب والتشدد، وليس الإصلاح الداخلي للمذهب، أو حتى مجرد رأي واجتهاد في أمرٍ بعيد عن ركنيات المذهب وثوابته. وبسبب أيضًا ما حصل إبان الغزو الأمريكي للعراق من تفجيرات لمراقد الأئمة، فباتت المسألة لا تقبل النقاش في المخيال الشيعي، مِمّا ينبغي على الآخرين إدراكه وفهمه، وهو ما لم تحسنهُ الحركة الصرخية.

في الوقت نفسه، فإنّ التيار الصرخي دخل معارك كبيرة مع الحوزة النجفية، ومع الإيرانيين، ومع كافة التيارات الدينية والسياسية في العراق، مِمّا جعله منبوذًا، وذلك مهما ردد تميُّز خطابه بالاعتدال أو الوسطية.

فغياب البراجماتية في مقارباته كلّفته وكلفت تياره الكثير، وهو يظن في ذلك النهج، أنه على درب الصدريْن: محمد باقر الصدر، ومحمد محمد الصدر، لكنّ السياق غير السياق، فالحكومة العراقية اليوم محسوبةٌ على الأطراف الشيعية، وبات الشيعة رجال حكمٍ ودولة، وباتت الحوزة ناطقة غير صامتة، وبالتالي، فإنّ الاضطهاد الذي تعرضَ له الصدر الأول والصدر الثاني من حكومة غير محسوبة على الشيعة، لم يعُد موجودًا، بل إنّ الحركة الصرخية تتعرض لاضطهاد من داخل الجماعة الشيعية، وانعكس هذا على قلة الأتباع وقلة الموالين، بخلاف ما إذا كان الاضطهاد من قِبل أطرافٍ من خارج المذهب.

هناك أمرٌ آخر لا يخلو من دلالة، فكثيرٌ من مشايخ وأتباع الحركة الصرخية لا يلتزمون بالعمامة ولباس رجال الدين، مِمّا يُضعف رمزيتهم الدينية بين العامّة، وبالتالي، سهولة استهدافهم دينيًا وسياسيًا. إضافةً إلى عدم فاعلية الحركة الصرخية سياسيًّا؛ مِمّا حرمها ظهيرًا تشريعيًا كان يُمكن أن ترتكز إليه وقت أزماتها، كسائر التيارات الشيعية الفاعلة.      

في المجمل، أظهرت الاشتباكات بين التيار الصرخي وغيره من تياراتٍ داخل الجماعة الشيعية عدّة مفارقات، أبرزها: انتفاء استقلالية العلماء ونبذ الاجتهاد الحرّ، فالاجتهاد منحصرٌ فيما يتوافق مع الفاعلين الحوزويّين والنافذين في الشأن العام، وإلّا تعرض المجتهد للتنكيل والاضطهاد، حتى ولو كان قائلًا بجُلّ مقولات التشيّع الإمامي الاثني عشري، وذلك بغضّ النظر عن صوابية الاجتهاد من عدمه.

كذلك تشير تلك الخلافات «الشيعية- الشيعية» إلى غياب نموذج دولة القانون: الدولة المدنية الدستورية، على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسّسات، فالعقاب الجماهيري الذي لحق بالحركة الصرخية ومساجدها وأفرادها بدأ في معزل عن القانون والمؤسّسات، وقَبُول من قِبل أجهزة الحُكم التي غضّت الطرف عن التجاوزات الفردية بحقّ الصرخية.

الخاتمة

تبدو تلك الاشتباكات الشيعية-الشيعية الأخيرة مهمة في هذه المرحلة الفارقة، فقد تُعجِّل بإعادة المرجعية لخطبة الجمعة (المعطَّلة منذ بدايات أزمة كورونا)، في محاولةٍ لضبط وإعادة التوازن للخطاب الشيعي، وكبح الخطاب المضاد الذي لا يتماشى مع معتمد المذهب بالقراءة الرسمية، علاوةً على الأزمة السياسية التي قد تعجّل بعودة صلاة الجمعة.  

الملاحظ أيضًا أنّ المسألة اتخذت بُعدًا سياسيًا، فبعضهم حاول تطييف المسألة، وتضخيمها، وتوظيفها بغية كسب الجماهير، وتعزيز الشرعية السياسية والمذهبية ولاسيّما وأنّ ثمّة اشتباك شيعي-شيعي على المستوى السياسيّ، يعرقل تشكيل الحكومة العراقية، وبالتالي، فقد كان كُل طرف حريصًا على إبراز ولائه المذهبي، ودفاعه عن «شعائره» و «معالمه».     وحاصل القول، إنه لا يبدو في المدى القريب أنْ تندمج الحركة الصرخية في الدولة العراقية، أو أن تجريَ مفاوضاتٌ ومعاهدات مع خصومها تكفلُ للجميع العيش المشترك، والمشاركة في البناء السياسي والمذهبي؛ ذلك لأنّ خصوم الصرخيين يرونها مارقة عن المذهب بالكلية، والمتترّس بالمذهب أشد خطرًا عليهم من الآخر غير المذهبي، وَفق التصورات الكلاسيكية. وفي الوقت نفسه، يرى الصرخيون أنهم الأحقّ بإرث وميراث الصدريْن: محمد باقر الصدر ومحمد محمد الصدر، وأنهم يمثلون التشيّع العربي العراقي في وجه التشيّع الإيراني «الفارسي»، ويراهنون على ذلك في استقطاب فاعلين محليّين وإقليميّين، وربما دوليّين، لكن هذا المسعى لم يكلَّل بالنجاح حتى اليوم، وباتت الحركة شبه معزولة مذهبيًا وسياسيًا، ولاسيّما بعد دعواتها الأخيرة بهدم المراقد.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير