معركة السيادة الجوية الروسية على سماء أوكرانيا

https://rasanah-iiis.org/?p=28393

المقدمة

في الحروب المعاصرة أصبحَ ضروريًا على الدولة المهاجمة الحصول على السيادة الجوية (Air supremacy) أو على الأقل على السيطرة الجوية (Air control) على مسرح الحرب مبكرًا قَبل بدء الحملة العسكرية البرية، على غرار ما فعلهُ التحالف الدولي خلال حرب تحرير الكويت (1990-1991م) ضدَّ الدفاع الجوي العراقي. بمعنى أنه يجب أنْ تمتلكَ القوات الجوية المهاجمة نظامًا قتاليًا جويًا متكاملًا من حيث كفاءة الطيارين وتنوّع الطائرات وتوفّر محطات الرادار المحمولة جوًا، لتوفير القيادة والسيطرة، ولحماية ومراقبة الأجواء، وتزويد الطائرات بالوقود جوًا، وتوفِّر ذلك طائراتُ الاستطلاع وجمع المعلومات والتصوير الجوي، وطائراتُ الحرب الإلكترونية للتشويش على رادارات الدفاعات الجوية للعدو وإعمائها، ومجموعةٌ من الطائرات الهجومية لضرب الأنساق القتالية للعدو ولتحديد مراكز ثِقل العدو ونقاطه الحاسمة وتدميرها. وللحصول على هذه السيادة يجب الانتصار من أحد الأطراف فيما يسمّى بالمعركة البر-جوية (Air land Battle).

مثَّل مفهومُ الحرب البرية الجوية المشتركة الإطارَ العام الذي شكَّل الأساس لعقيدة الحرب للجيش الأمريكي في أوروبا ضدَّ ما كان يعرفُ بحلف وارسو من عام 1982م إلى أواخر التسعينات. تشمل قوى تنفيذ الحرب البرية الجوية ووسائلها جميعَ عناصر القوة القتالية البرية والجوية لخدمة الإستراتيجية العسكرية الشاملة لمسرح الحرب.

تهدفُ المعركة البرية الجوية إلى التنسيق المشترك للمهام القتالية بين القوات الجوية والبرية لتحقيق الأهداف العملياتية. يعيُّن قائد العمليات المشتركة عدَّة مهام جوية لصالح القوات البرية أهمها: أولًا: مهام الحظر الجوي Air interdiction (AI) والذي يستلزم معلومات استخبارية مفصَّلة عن الأهداف في عمق منطقة العمليات لتوليد التأثيرات العملياتية التي تحقّق أهدافَ القوة المشتركة، ومنها تدمير احتياطات العدو ونقاطه الحاسمة ومراكز الثقل وأنساقه القتالية الخلفية. ثانيًا: هناك مهام الدعم الجوي القريب close air support (CAS). يتم توفيرها عادةً من قِبل القوات الجوية إلى وحدةٍ أرضية أو عملية معينة من أجل تسهيل مهمة التقدم والمناورة للقوات البرية دون مقاومة برية من العدو. من هنا تتَّضح أهمية أنْ تتوفَّر لدى المُدافع، أمام هذه العمليات الجوية للعدو، قواتٌ جويةٌ تلتحمُ مع القوات الجوية المهاجمة وتنتصرُ عليها في المعركة الجوية، إضافةً إلى وجوب توفِّر أنظمة دفاع جوي (أرض-جو) للتَّصدي للطائرات والصواريخ المهاجمة وإسقاطها من أجل حماية تقدم وحداتها البرية.

والسؤال الكبير هو، كيف تمَّ هذا العمل المشترك، وكيف كان أداءُ القوات الجوية الروسية من بداية الحرب في أوكرانيا وحتى كتابة هذه الدراسة، وهل حقَّقت فعليًا السيادةَ الجوية على سماء المسرح الأوكراني، وكيف كان ردُّ فعلِ القوات الجوية الأوكرانية وأنظمتها الدفاعية (أرض-جو)، وماذا قدَّمت لنا الحربُ الأوكرانية من دروسٍ للمستقبل في مجال المعركةِ البرية الجوية؟

أولًا: أداء القوات الجوية الروسية في الحرب الأوكرانية

امتلكت روسيا خبرات جيدة في قصف الأهداف خلال حروبها في الشيشان وجورجيا وسوريا. شكَّلت سوريا ساحةَ تدريبٍ للجيوش الروسية وأسلحتها من الجيل الجديد وتجريب قوَّتها القصوى، وخاصةً الأسلحة الجوية. عمِلَ الروس أثناءَ القتال في سوريا على أنْ يتناوبَ العددُ الأقصى من جنرالاتهم وهيئة الأركان العامة لتطوير مهاراتهم القيادية، والتعلُّم من القتال الحقيقي حولَ كيفية التعامل مع عدوٍ لا يعدو كونهُ مقاومةً متفرقة وغير موحَّدة تخوضُ معارك وفق نمطِ الحرب غير المتماثلة. بمجرد اختبار تسليحهِم وجاهزيتهم في سوريا، وكذلك كوادرهم القيادية لقيادة العمليات والفوز بالحرب، اعتقدت روسيا أنَّ جاهزيتها القتالية كانت مكتملةً لغزو أوكرانيا، وأنَّ قوّاتها الجوية وصواريخها البالستية متبوعةً بتقدُّمٍ لفرقِها البرية سينتجُ عنه احتلالُ كبرى المدن وخاصةً العاصمة كييف، وفرضُ أمرٍ واقع يُجبرُ الحكومةَ الأوكرانية على الاستسلام أو مغادرة البلاد، ويُصبح من السهولة على الكرملين أنْ يُنصِّبَ حكومةً مواليةً له لا تتبعُ للغرب، ويُعلنَ وقفَ إطلاق النار، وانتهاءَ الحرب وأنه نجحَ في اجتثاث ما تصفهُ روسيا بـ “النازية الأوكرانية”.

هكذا كان السيناريو الأمثل المتخيَّل الذي كانت روسيا تطمحُ لتحقيقِه وفي وقتٍ قياسي. يبدو أنَّ كبار القادة الروس غابَ عن تفكيرهِم الإستراتيجي، أنه من السهل أنْ نبدأ حربًا، لكن من الصعب التحكُّم في تداعياتها ومدَّتها ومنعِ الأطراف الخارجية من الدخول طرفًا فيها.

في الحرب ضدَّ جورجيا عام 2008م، خرج الروسُ بدروس، منها: أهمية تعطيل أنظمة الدفاع الجوي المعادية قَبل بدء المعركة. من جانبها، دَخلت جورجيا هذه الحرب بأنظمة الدفاع الجوي التي ورثتها تبليسي عن الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك صواريخ سام متوسطة المدى الثابتة S-125M، ونظام “بوك إم-1” المتنقل، وصواريخ “سام” قصيرة المدى، و”أوسا – آكا” المتنقلة، وصواريخ ستريلا-2 التي تُطلق من على الكتف.

وبحسب الخبراء الأوكرانيين، فإنَّ طواقم صواريخ “بوك إم-1″ و”أوسا – آكا” تم نشرها على شكل كمائن، وكانت تستلمُ الإنذارَ المبكر عن قدوم الطائرات الروسية من خلال الرادارات الجورجية “كولشو غا-إم”، وكانت بطاريات الصواريخ المضادَّة تنتظرُ حتى اللحظة الأخيرة لتفعيل راداراتها قصيرة المدى النشطة، حتى لا تتأثَّر بإجراءات الحرب الإلكترونية للطائرات الروسية. حصلت خسائر في الأطقُم الدفاعية الجورجية لكنَّهم تمكَّنوا من إحداث بعض الفوضى في القوات الجوية الروسية. وفقًا لتقارير غير رسمية، أسقطت صواريخُ “بوك” أربعَ طائرات روسية -ثلاث طائرات هجومية من طراز “سو-25” وطائرة قاذفة “توبولوف”- في اليوم الأول من القتال في 08 أغسطس 2008م. وخلال 11 أغسطس، وردَ أنَّ “أوسا – آكا ” الجورجية أسقَطت قاذفةَ “سو- 24 إم” وطائرةَ استطلاع “سو- 24 إم آر”، ممّا أسفرَ عن مقتل أحد أفراد الطاقم من الأخيرة، وكانت قاذفات ستريلا-2 المحمولة على الكتف مسؤولةً عن إلحاق أضرارٍ بثلاث طائرات “سو -25 إس” أخرى[1].

 ساهمت التكتيكات الجورجية، وانضباط أطقمها الصاروخية، بشكلٍ واضحٍ أيضًا في النجاحات النسبية للدفاع الجوي الجورجي، وقد أثارَ الضررُ الذي ألحقتهُ القذائفُ الصاروخية بالأسراب الروسية، المخططين في موسكو، وساهمَ في قرار الكرملين بإطلاق برنامجٍ إصلاحيٍ واسعِ النطاق للقوات الجوية.

تفتخرُ روسيا بأنها تمتلك ثاني أكبر قوة جوية في العالم بعد الولايات المتحدة، وهي قوةٌ متقدمةٌ للغاية مع 1511 طائرة مقاتلة تقريبًا مقابل 125 في أوكرانيا. وفقًا لدليل Flight Global 2022 World Air Force، فإنَّ لجيشَ الروسي يمتلك أسطولًا جويًا، بينه: 789 مقاتلةً، و742 طائرةً هجومية، كما يمتلك الجيش الروسي 1540 مروحيةً عسكرية منها 538 مروحيةً هجومية[2].

تتطلع الطائرات الروسية التي تطير ليلًا ونهارًا في جميع الأحوال الجوية ، إلى تدمير محطات الرادار الأوكرانية وأنظمة الدفاع الجوي بصواريخ موجهة عالية الدقة. من هذه الطائرات على سبيل المثال، تمتلك روسيا طائرةً متقدمة من طراز “سو-35إس” التي تتضمن أفضل مميزات الجيل الرابع من الطائرات. تحمل هذه الطائرة مدفعًا عيار 30 ملم، ويمكنها اكتشاف الأهداف على مسافة تزيد عن 400 كيلومتر، بينما يمكن لرادارها تتبع ما يصل إلى 30 هدفًا في وقت واحد. يصل مدى المقاتلة إلى ما يزيد عن 3500 كيلومتر دون التزود بالوقود[3].

قالت وزارة الدفاع الروسية إنّ أطقم طائرات “سو-35إس” المقاتلة بالتعاون مع طائرات “سو-34” من المنطقة العسكرية الغربية للقوات المسلحة الروسية تواصل ضرب منشآتِ البنية التحتية العسكرية الأوكرانية بأسلحة دقيقة التوجيه، وأنها دمرت “البنية التحتية العسكرية للقوات المسلحة الأوكرانية خلال “العملية العسكرية الخاصة”. وقالت وزارة الدفاع الروسية أيضًا إنها أسقطت طائرتين أوكرانيتين من طراز “سو-25” في منطقتي دونيتسك أوبلاست وخيرسون أوبلاست في يوم واحد[4].

(شكل 1): الطائرة المقاتلة سوخوي “سو-35إس”

Resourse: События, связанные с этим, https://rostec.ru/news/4514936

أيضًا، تمتلك روسيا طائرات من الجيل الخامس تتمثل في طائرة “سو-57” وهي طائرة متعددة المهام، تتميز بقدرتها على تدمير جميع الأهداف الأرضية والجوية. يطلق عليها اسم “قاتلة الرادارات” لقدرتها الفائقة على التخفي عن أجهزة الرادار؛ بسبب طلائها القادر على امتصاص الموجات الكهرومغنطيسية، ما يجعلها من ضمن الأفضل في العالم. كما أنها قادرة على شنّ حرب إلكترونية ضد الرادارات الجوية والأرضية. سرعتها تفوق سرعة الصوت ويمكنها التحليق لفترات طويلة وفي أيّ ظروف جوية. وقد أعلنت القوات الروسية استخدام الطائرة في أوكرانيا في تدمير شبكةٍ للدفاع الجوي في أوكرانيا. ورغم عدم الكشف عن أداء الصاروخ الجديد المحمل عليها Izdeliye 810، لكن النسخة الأصلية R-37M يمكن أن تصيب أهدافًا من مدى 200 كيلومتر.

تم تصميم: “سو-35إس” لاكتساب التفوق الجوي من خلال تدمير المركبات الجوية المأهولة وغير المأهولة بصواريخ موجهة على مسافاتٍ طويلة ومتوسطة وقصيرة، أثناء إجراء مناورات قتالية طويلة المدى وقصيرة المدى.

(شكل 2): الطائرة المقاتلة الشبحية سوخوي “سو-57”

Resource: INSIDER, https://bit.ly/3bkUC8T

ستكون طائرات الجيل الخامس العمود الفقري لحروب المستقبل، وستشكل مهدّدًا جويًا خطيرًا أمام الطائرات الاعتراضية وأمام أنظمة الدفاع الجوي الأرضية؛ بسبب امتلاكها لتقنية التخفي، وصغر مقطع رادارها كي يساعدها في التخفي وعدم رصدها، ولقدراتها الإلكترونية، وسرعتها الأعلى من الصوت، إضافةً لقدرتها على الهجوم بصواريخ جو-جو  وصواريخ جو-أرض في آنٍ واحد.

 قالت روسيا في الأيام الأولى للحرب إنها وجَّهت ضربات مدمِّرة للقوات الجوية والدفاعات الجوية الأوكرانية وأخمدتها، وهذا بالفعل ما كان يتوقعُه العديدُ من الخبراء بأنَّ القوات الجوية الروسية القوية ستلعب دورًا رئيسيًا في تأمين نصرٍ سريعٍ لروسيا، ولكن ذلك لم يحدث تمامًا، فمسار الحرب أربكَ هذه التوقعات فيما يتعلق بأداء القوات الجوية الروسية، التي بدا المسؤولون الروس حذرين في توظيفها، لدرجة أنَّ كثيرًا من المحللين العسكريين لا يستطيعون تفسيرَ دوافع سلوك روسيا الذي كانَ يتجنَّب المخاطرة.

بالتأكيد لا تزال روسيا تقصف لكن من مسافات بعيدة وتُحدِث دمارًا كبيرًا. لكن هذا ليس بنفس الدقة أو الفعالية مثل وجود طائرات مباشرة فوقَ ساحة المعركة لفتراتٍ طويلة. في العاصمة كييف، كانت القوات الروسية على بُعد 10 أميال من المدينة خلال الأسابيع الأولى من الحرب، وكانت الغارات الجوية تحدُثُ بشكلٍ منتظم. الآن عادت الحياة في العاصمة إلى طبيعتها من نواحٍ كثيرة، المتاجر مفتوحة والناس في الشوارع والاختناقات المرورية أصبحت شائعة، بخلاف الوضع في شرق أوكرانيا.

ربما حصلت روسيا مع بداية الحرب على السيطرة الجوية على أجزاءٍ من أجواءِ أوكرانيا، لكنها لم تنجح في فرض سيادةٍ جوية على كامل أوكرانيا، ومع تطوّر الحرب تزايدت خسارة روسيا لطائراتها؛ نتيجةَ ما تبقَّى من أسلحة أوكرانيا المضادَّة للطائرات، وكذلك بعد تزويدها من قِبل أمريكا وبريطانيا بصواريخ أرض-جو قصيرة المدى. وبالرغم من اكتساب القوات الروسية خبرةً قتالية في سوريا، وأظهرت بعضَ القدرة على مزامنة المناورات البرية مع الهجمات الجوية والطائرات المسيرة، إلا أنَّ روسيا لم تكن تواجَه بطائراتٍ اعتراضية أو أنظمةِ دفاعٍ جوي تمتلكها فصائلُ المقاومة السورية.

ترى بعض التقارير الغربية أنَّ أسبابَ الإخفاق الروسي النسبي، في أوكرانيا، تعود إلى أنَّ أسطولَ الطائرات الروسي الكبير لم تتم صيانته بشكلٍ جيد، ولا يبدو أيضًا أنَّ لديهم الدعمَ اللوجستي والوقود وقِطعَ الغيار الكافية للحفاظ على طيران طائراتهم لوقتٍ أكبر على أجواء مسرح الحرب. كذلك، فإنَّ إحدى المشكلات الرئيسية لروسيا هي المساحة الجغرافية الهائلة لأوكرانيا، مما يجعلها مكانًا غيرَ سهل وعميقًا للاستهداف من الجو. يضاف إلى ذلك مشاكل تتعلق بضعف التدريب لدى الروس على الدعم الجوي للأنساق القتالية للقوات البرية في حرب الأسلحة المشتركة التي تتطلَّب درجةً عالية من اللامركزية وإتاحة حرية اتخاذ القرار للقادة الميدانيين، وهو أمرٌ مخالفٌ للطبيعة المركزية التي ورثها الجيشُ الروسي عن سلفه السوفيتي. فمثلًا تم إرسال العديد من طوابير القوات الروسية إلى الأمام باتجاه كييف دونَ تعزيزها بدعمٍ جويٍ قريب. كما يقال إنَّ الطيارين الروس ليست لديهم خبرةٌ كبيرة في استخدام القنابل الموجَّهة، باستثناء نخبة الطيارين؛ ولذلك يعتمدون على القنابل غير الموجَّهة بشكلٍ كبير، إضافةً إلى أنَّ قدرات الروس في مجال التشويش والرصد والإجراءات المضادَّة للصواريخ الأرض-جوية أقل من الغرب[5].

أمامَ هذه الادعاءات الغربية يقال في المقابل إنَّ القوات الروسية ليست بهذا السوء، وإنها لم تكن مستعدةً بالضرورة للمخاطرة بطائراتها وطيّاريها، وأنَّ الروس يدَّخرون طائراتهم الأفضل لأيّ مواجهةٍ محتملة مع دول الناتو.[6] لذلك يلاحَظُ أنَّ روسيا تعتمدُ على الصواريخ والمدفعية أكثر من قواتها الجوية واكتفت الطائرات الروسية المشاركة في الغزو بطلعات محدودة ومدروسة بعناية، وغالبًا ما تكون على ارتفاعاتٍ منخفضة، وغالبًا في الليل من أجل تجنُّب الرادارات الأوكرانية والصواريخ المحمولة على الكتف التي وصلت لأوكرانيا من الولايات المتحدة ولاتفيا وليتوانيا.

يبقى أنَّ البنتاغون ومن خلال التصاريح الإعلامية، غالبًا ما يهوّنُ من قُدرات الجيش الروسي والقُدرات الجوية الروسية بشكلٍ خاص، والتي يعتقد أنها جزءٌ من الحرب المعلوماتية التي تمارسها واشنطن ضدَّ روسيا؛ ولهذا ظهر ما يشكّك في تقييم البنتاغون من بعض المشرّعين والمحللين الأمريكيين أنفسهم. ففي خطابٍ أرسلتهُ مجموعةٌ منهم إلى الرئيس بايدن بداية شهر مارس، كتبوا أنَّ روسيا قد أثبتت بالفعل تفوّقًا جويًا حتى الآن، وقالوا إنه إذا لم تتلقَ أوكرانيا مساعدةً عسكرية تتضمَّن مضادات دفاع جوي إضافية، فإنَّ هذا التفوقَ الجوي الروسي يمكن أنْ يتطوَّر قريبًا إلى سيادة جوية[7]. وبالفعل فمنذ شهر أبريل عزَّز سلاح الجو الروسي من طلعاته الجوية بنسبة 50% وخاصةً في مناطق شرق أوكرانيا التي يعتبرها أولويةً إستراتيجية في المرحلة الحالية.

والحقيقة أنه لو أراد الروس تدميرَ أوكرانيا تمامًا من خلال القوات الجوية فإنه يمكنهم ذلك، رغم بعض الخسائر التي قد تحدُث في أُسطولهم الجوي، لكن ربما لأنَّ الروس لا يريدون نقلَ الحرب من “عمليات عسكرية محدودة” إلى حربٍ شاملة، وتوسيعَ نطاق الأزمة الأوكرانية إلى أبعد من الأهداف التي حدَّدها الروس لهذه الحرب، وربما لأنَّ بوتين لا يُريد كسبَ عداءِ السُّكان الأوكرانيين بإيقاع خسائر كبيرة في صفوفِهم، سواءً لتسهيل ضمّ أجزاءٍ من أوكرانيا إلى روسيا لاحقًا، أو لتنصيب حكومةٍ مواليةٍ لموسكو لا تتبعُ لحلف “الناتو” بعد إسقاط النظام الحالي في كييف.

ثانيًا: القوات الجوية الأوكرانية ودفاعاتها الجوية تتعرَّض لضربة إخماد روسية

خلال حملتها الجوية القصيرة ضدَّ الانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس في عامي 2014 و2015م، أفادت التقارير أنَّ القوات الجوية الأوكرانية فقَدت العديدَ من طائراتها. في الحرب الحالية بدأت القواتُ الجوية الأوكرانية الحربَ بحوالي 125 طائرةً حربيةً ثابتةَ الجناحين تقريبًا، بما في ذلك حوالي ثلاثين طائرةً اعتراضية من طراز Su-27، و50 مقاتلةً من طراز MiG-29 أو نحو ذلك، وربما 30 طائرةً هجومية من طراز Su-25 وحوالي 12 قاذفةَ قنابل Su-24. في بداية الهجوم الروسي وبعد قصف المطارات الأوكرانية والطائرات الموجودة عليها بالطائرات والصواريخ لم تستطع القوةُ الجوية الأوكرانية ولا الدفاعات الجوية القيامَ بأيِّ ردٍّ فوريٍ ملموس[8].

ورغم ملاحظة أنَّ الأوكرانيين لم يكن لديهم القدرات التقنية الكافية لصد الهجوم، إلَّا أنهم لم يتفاجأوا بالهجوم الجوي الروسي تمامًا، وكانوا يعرفون إلى حدٍ كبير وقتَ الهجوم الروسي بسبب الدعم الاستخباراتي الأمريكي المسبق على الأقل على المستوى الإستراتيجي. كان من شأن ذلك أنْ يسمحَ لهم بتفريق وإخفاء بعض معدَّاتهم ومخزوناتهم اللوجستية لاستخدامها لاحقًا في دعم المقاومة، ومن أجل استنزاف القوات الروسية. مع ذلك ومن واقع حجمِ الخسائر في القوات الجوية والدفاعات الأرضية الأوكرانية؛ يمكن القول إنَّ الجيشَ الروسي حيَّدَ إلى حدٍّ بعيد القدرات الجوية والدفاعية الأوكرانية، وحقَّق مبدأ الصدمة لكن دونَ أنْ تكون ضربةً إجهاضيةً كاملة؛ ويمكن مقارنة ذلك بما حصلَ خلالَ الضربة الجوية الإجهاضية الإسرائيلية ضدَّ المطارات المصرية والعربية في صباح يوم 05 يونيو 1967م، والتي حقَّقت بَعدَها القواتُ الجوية الإسرائيلية سيادةً جويةً تامة فوقَ جميع الجبهات، بعدَ أنْ أصبحَ ثلاثة أرباع الأُسطول الجوي المصري خارجَ الخدمة.

فحسب الرواية الروسية، فإنه وبنهاية شهر يونيو كانت حصيلة ما تم تدميرُه منذ بداية ما تُسميه روسيا بـ”العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا 190 طائرة، و129 مروحية، و1127 طائرة دون طيار، و330 منظومة صواريخ مضادَّة للطائرات، و3424 دبابة ومدرعة أخرى، و473 راجمة صواريخ، و1795 قطعةً من المدفعية الميدانية ومدافع الهاون و3446 مركبة عسكرية خاصة [9]. وإنْ صَدَقت هذه الأرقام فهي تعكسُ حجمَ الخسائر التي مُنيت بها أوكرانيا، والقوةَ الهائلة للقدرات التدميرية الجوية والصاروخية لروسيا.

مع ذلك، يُعتقدُ أنَّ هذه الأرقام الروسية لا تخلو من بعض المبالغة لأنه لم يتم تأكيدها من قِبل تقارير دولية. فلو عدنا إلى عدد الطائرات التي يمتلكها الأُسطول الأوكراني فإنها لا تتجاوز 125 طائرةً في أفضل التقديرات، فكيف تدَّعي روسيا أنها دمَّرت 190 طائرة!؟ وخاصةً عندما نعلم أنه لم يتمَّ تزويدُ أوكرانيا حتى اللحظة بطائراتٍ إضافية من قِبل الدول الأعضاء في حلف الناتو. فدولٌ مثل سلوفاكيا وبولندا وبلغاريا ما تزالُ تدرسُ تزويدَ أوكرانيا بطائراتٍ مقاتلة سوفيتية الصُنع، “ميغ 29″، لكن تخشى هذه الدولُ من أنَّ تلكَ الخطط محفوفةٌ بمخاطر منها زيادةُ التوتر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ويمكن أنْ تستهدفَ روسيا هذه الدول بردودٍ عسكريةٍ قاسية، في وقتٍ يبدو أنَّ هذه الدول غيرُ مستعدةٍ لحماية مجالها الجوي من الصواريخ البالستية الروسية المتطورة، وأيضًا لأنَّ عتادَ ما بعدَ الاتحاد السوفيتي ليسَ مستدامًا دونَ الإمدادات الروسية.

نحنُ إذًا أمامَ قدراتٍ جوية أوكرانية محدودة. أحدثُ طائرةٍ لديها هي “سوخوي 27″، ذات المقعد الواحد. ينتمي طياروها الأكثرُ خبرةً إلى لواءٍ واحدٍ مكونٍ من سربين. يقعُ مقرّه في ميرغورود وسط أوكرانيا، شرق نهر دنيبر. إنَّ “سوخوي 27” أسرع من الصوت، ومجهزةٌ بصواريخ جو-جو، على عكس “سوخوي 25″، وهي مخصَّصة للدعم الجوي القريب للقوات البرية. ولو افترضنا أنَّ دولَ أوروبا الشرقية عزَّزت أوكرانيا ببعضٍ من طائراتها السوفيتية كَـ “ميغ 27” أو “ميغ 29” تبقى المشكلة أنَّ محطات الرادار في أوكرانيا لم تعد تعمل[10]، وحالَ إصلاح بعضها ستُواجَهُ بتدميرٍ فوريٍ روسي؛ وهكذا ستطير الطائرات الأوكرانية دون أيّ غطاء أو توجيه راداري، في سماءٍ معادية تمامًا، مع فرصةٍ ضئيلة للنجاح في دعمِ تقدُّم المقاومةِ الأوكرانية، أو أنْ تصلَ الطائرات لوجهتها النهائية، دون اعتراضٍ جويٍ روسي. بمعنى أنَّ ميزان القوى الجوي مع موسكو لن يصل تمامًا إلى حالة التوازن.

لكن مع هذا الشُّح في عدد الطائرات لدى أوكرانيا، وفي رادارات توجيه الطائرات، فإنه ومنذ بداية شهر مايو، يمكن القول بأنه أصبح سلاح الجو الأوكراني الصغير المتقادم في وضعٍ أفضلَ مما كان عليه في بداية الحرب. حيثُ لوحظت المقاتلات الأوكرانية وهي تنفِّذ بعضَ الهجمات الجوية على المناطق الحدودية بالقُرب من خط المواجهة في منطقة دونباس شرق أوكرانيا. ربما ساعدَ تدفقُ قطع الغيار من حلفاء أوكرانيا القواتَ الجوية على إصلاح عددٍ من الطائرات. نتيجةً لذلك؛ كان الذراع الجوي الأوكراني يمتلكُ بالفعل عددًا من الطائرات القابلة للطيران. يقوم الطيارون الأوكرانيون باستخدام بعض التكتيكات لحماية أنفسهم من المقاتلات الروسية والدفاعات الجوية مثل الطيران على ارتفاعٍ منخفضٍ جدًا. فمثلًا، في نهاية شهر مارس، ودونَ أنْ تكشفها الرادارات الروسية، نفَّذت مروحيتان أوكرانيتان ضربةً على منشأة لتخزين الوقود، في بلدة بيلغورود الحدودية غربَ روسيا مسبِّبةً اشتعالَ 8 مستودعات وقود. هذا يعني أنَّ أوكرانيا امتصَّت الصدمةَ الأولى من الحملة العسكرية الروسية وبدأت تنهضُ ببطء. هذا يُعدُ مؤشرًا إيجابيًا لأوكرانيا ستحرصُ على تعزيزه من خلال الدعم الغربي المستمر.

مع كلّ هذا فليس هناك مقارنةٌ بين القوات الجوية الروسية والأوكرانية، ومن الصعب على عددٍ محدود من المقاتلات الأوكرانية اعتراض المقاتلات الروسية أو الدخول للعمق الروسي المغطّى بشبكةٍ قوية من أنظمة الدفاع الجوي الروسية، مالم يتدخَّل الناتو مباشرةً لقلب موازين القوى. فحتى الآن يُعتقَدُ أنَّ روسيا تقومُ بنحو 200 طلعة جوية يوميًا، بينما تطيرُ من أوكرانيا 5 إلى 10 طلعاتٍ فقط.

ثالثًا: توفُّر أنظمة دفاعٍ جوي متعدِّد الطبقات ضروريٌ في الحروب المعاصرة

1- فاعليةٌ محدودة لأنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية:

تحمي أنظمةُ الدفاع الجوي الأرضية القواعدَ العسكرية بأنواعها، والمرافقَ الحيوية للدولة، والتجمعاتِ السكنية، وتؤمِّن تحرُّك ومناورة القوات البرية ضدَّ التهديدات الجوية، مثل الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر الهجومية والمركبات الجوية دونَ طيار والصواريخ البالستية.

خلال الحرب الأوكرانية، لم نشهد هذه الحماية الكاملة من قِبل الدفاعات الجوية لأوكرانيا. كانت فاعليتها محدودةً ضد التهديد الجوي والصاروخي الروسي. لم تقُم بكل هذه المهام السابقة، بما يعَدُ فشلًا لها. وهو درس من الضروري التنبّه له في حروب اليوم التي أضحت فيها الطائرات المقاتلة من الجيل الرابع والجيل الخامس والطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية فائقة السرعة، مهدداتٍ جوية يستلزم مواكبتها بأنظمة دفاعية متطورة.

اتَّضح أنَّ قوات الدفاع الجوية الأوكرانية لم تكُن مستعدةً للدخول في مواجهةٍ جوية مع أسلحة الجو الروسية، وأنها تواجه مشاكل عدَّة في طائراتها الهجومية والاعتراضية، وكذلك في منظومة دفاعاتها الأرض-جوية. من أهم المشاكل، التقادُم التقني للمعدَّات وتدنّي كفاءة العاملين عليها؛ بسبب عدم وجود قطع الغيار وتآكلها، وقِلَّة الأنظمة الدفاعية خاصةً أنَّ أوكرانيا بلدٌ شاسع يحتاجُ إلى الكثير من هذه الأنظمة لحماية مُدُنه وقواعِده. ورثت القوات المسلحة الأوكرانية في حقيقة الأمر من الجيش السوفيتي كمياتٍ كبيرة من منظومات الدفاع الجوي التي اُعتبرت حديثةً في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، ولكن بعد مرور 30 عامًا أصبحَ من الواضح أنها لم تكُن تواكبُ التطورَ الحاصل في الجانب الهجومي الجوي الروسي. 

تمتلكُ قوات الدفاع الجوي الأوكرانية، حسب تقارير رسمية، 100 بطارية من منظومة الدفاع الجوي إس-300 الروسية الصُنع التي ترجعُ إلى فترة الحرب الباردة، والتي يمكنُها التصدّي للقدرات الصاروخية البالستية، إلا أنَّ 40 منها تم تدميرها من قِبل الجيش الروسي منذ بداية هجومه في 24 فبراير وحتى نهاية شهر مايو. دخلت هذه المنظومة في واقع الأمر الخدمةَ في الجيش السوفيتي عام 1978م وعام 1982م، وانتهى تقريبًا العمرُ الافتراضي لها وتدنَّت فاعليتها القتالية. حاولت مرافق قطاع الصناعات الحربية الأوكرانية تحديثها وتطويرها لكن مستوى التطوير كان غيرَ مقنع، بدليل ضعف الأداء لمنظومات إس – 300 وعدم جاهزيتها القتالية ضدَّ الهجمات الجوية والصاروخية الروسية، خاصةً مع بدايات الأزمة. وكانت منظومات الدفاع الجوي الميداني مثل ” بوك إم-1″ و”أوسا – آكا إم” و”سترير- 10″ تواجهُ كذلك مشاكل تقنية ملموسة. حاولت القيادة العسكرية الأوكرانية استخدامَ منظومات “كوب” و”إس – 125″ القديمة وحتى منظومة “إس – 200” بعيدة المدى، لكن كلَّ محاولاتها -في الغالب- باءت بالفشل[11]. أغلبُ هذه المنظومات متوفرةٌ لدى روسيا ويعرفون أسرارها التقنية جيدًا؛ ممّا يعني أنَّ باستطاعتهم، إلى حدٍّ بعيد، استخدامَ وسائل الحرب الإلكترونية ضدَّها لإبطال فاعليتها في الرصد والاعتراض.

رغم تصريح الرئيس فولوديمير زيلينسكي في الأسبوع الأول من شهر مايو الماضي بأنَّ الجيش الأوكراني أسقطَ 200 طائرة روسية حتى ذلك التاريخ، إلَّا أنه لا يمكن التحقُّق من هذا الرقم بشكلٍ مستقل[12]. ورغمَ خسارة روسيا لبعض طائراتها إلَّا أنَّ هذا لا ينفي أنَّ الروس كسبوا عنصرَ المفاجأة الإستراتيجية ونجحوا في تحقيق الصدمة الأولى وإخماد المضادات الجوية الأوكرانية رغمَ محاولة إعادة بنائها من جديد واستخدام مالم يدمَّر منها، وهي ليست بتلك الأعداد الكبيرة. ومع ذلك، فإنه يُشير إلى أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في الحرب وهو أنَّ الطيارين الروس أصبحوا الآن أكثرَ من ذي قَبل معرَّضون للخطر لدرجة أنهم بدأوا يُحجِمونَ عن دخول المجال الجوي الأوكراني.

أدركَ حلف الناتو هذا الخلل في موازين القوى الجوية، وقامت كلٌّ من أمريكا وألمانيا بتزويد الجيش الأوكراني بعدد 1300 صاروخ من طراز “ستينغر” في الشهر الثالث من بداية الحرب، وهي صواريخ مضادَّة للطائرات محمولةٌ على الكتف تستخدِمُ الأشعةَ فوق البنفسجية ويصل مداها إلى خمسة كيلومترات بارتفاع 4,800 متر، ويبلغ وزن الرأس الحربي للصاروخ ثلاثة كيلوغرامات، وهو مزوّدٌ بصمامٍ تقاربي، أما سرعته فتفوق سرعة الصوت[13].

أجبرت هذه الصواريخ -إلى حدٍّ ما- الروسَ على الحدِّ من الهجمات الجوية بواسطة المروحيات والطائرات الهجومية التي تُحلّق على علوٍ منخفض وذات الأجنحة الثابتة، ولكنَّها عوَّضت ذلك بالقصف الصاروخي والمدفعي وبالطائرات السريعة التي تقصفُ من مرتفعاتٍ بعيدة وآمنة عن مدى صواريخ “ستينغر”. الجديرُ بالذكر أنَّ هذه الصواريخ سبقَ وأنْ زوَّدت أمريكا بها الثوارَ الأفغان خلالَ الغزو الروسي لأفغانستان ولعبت دورًا مهمًا في إسقاط مئات الطائرات السوفيتية.

أيضًا، زوَّدت بريطانيا أوكرانيا بعددٍ غير محدَّد من صواريخ “ستارستريك” المضادَّة للطائرات. ويُعد “ستارستريك” أحدَ أكثر أنظمة الصواريخ المضادَّة للطائرات تطورًا في العالم؛ وهو عبارةٌ عن نظامِ دفاعٍ جوي قصيرِ المدى وعالي الدقة يصلُ مداه إلى 7 كيلومترات، وتبلُغ سرعته 3 أضعاف سرعة الصوت، ممّا يجعلها أسرعَ صواريخ أرض-جو قصيرة المدى في العالم، وهي مزودةٌ برأسٍ حربي يمكنُه اختراق الهدف والانفجار داخله لضمان تدميره بشكلٍ كامل، كما يتميز بتزويده بمعالج لكشف الأهداف مع نظام توجيه دقيق. أظهرت لقطات فيديو صاروخَ “ستارستريك” يصيب طائرةَ هليكوبتر هجومية روسية من طراز Mi-28N. يُعتقد أنَّ الضربةَ حدثت في منطقة لوهانسك الشرقية شرق أوكرانيا[14].

مع ذلك، تبقى هذه الصواريخ قصيرة المدى مخصَّصةً للطائرات المروحية والمقاتلات التي تُحلِّق على ارتفاعاتٍ منخفضة، لكنها غير مجدية أمامَ الصواريخ البالستية الروسية والطائرات الحديثة التي تُحّلق على ارتفاعاتٍ عالية. يُضاف إلى ذلك أنَّ أعدادَ أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية لاتزالُ محدودةَ العدد ولا يُمكن أنْ تُغطي كاملَ أوكرانيا، ويتم نشرها فقط في عددٍ قليل من المواقع، بما في ذلك العاصمة كييف، وخاركيف ثاني أكبر مدينة. وقد تركَ ذلك روسيا أكثرَ حريةً في تنفيذ عددٍ متزايد من الضربات الجوية حولَ مدينة ماريوبول الساحلية الجنوبية، مما جعلنا لم نرى الكثيرَ من الطائرات الروسية تُسقَطُ حول ماريوبول.

تُدرك أوكرانيا أنها لن تستطيعَ استهدافَ كلّ طائرةٍ روسية، ولذلك فهي تُريد استخدامَ ما لديها بذكاء لضمان -على الأقل- قلق الطيارين الروس من احتمال استهدافهم في أيّ مكان، مما يُجبرهم على التصرُّف بشكلٍ دفاعيٍ أكثر والحدِّ من فاعليتهم الجوية، ومن دقَّة الإصابة الأرضية.

كذلك تبذُل كييف مساعيَّ من أجل أنْ تتلقى المزيدَ من “صواريخ إس -300” التي تظل فعَّالةً جدًا في إصابة أهداف جوية بعيدة المدى. الأوكرانيون لايزال لديهم عددٌ محدودٌ منها، وهم يعرفون بالفعل كيفية استخدامها. هي معداتٌ متنقلة يسهُل إخفاؤها من الضربات الجوية الروسية ويمكن نشرُها بسرعة حسب الحاجة. تبذل كييف جهودًا من أجل وصول هذا النظام الصاروخي من دولٍ كانت تعتمدُ على الاتحاد السوفيتي السابق التي لايزال لديهم مخزوناتٍ منها مثل بولندا وسلوفاكيا والمجر[15].

أمام هذا الوضع، وعَدت الإدارة الأمريكية بمساعدة أوكرانيا في الحصول على أنظمة دفاع جوي مداها أطول من صواريخ “ستينغر” المحمولة على الكتف، ومن صواريخ “ستارستريك”، لكن الحديث عن تسليم هذه البطاريات القوية المضادَّة للصواريخ التي يحتاج إليها الجيش الأوكراني بسرعة، يبدو أسهلَ من تنفيذ ذلك عمليًا. رغم أنَّ البطاريات المتنقلة المضادة للطائرات مثاليةٌ لهذا الغرض، مثل الثاد أو الباتريوت الذي أثبت فعاليته بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة في المملكة العربية السعودية ضدَّ الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة التي أطلقتها الجماعة الحوثية ضدَّ الأعيان المدنية في المملكة. لكن العسكريين الأوكرانيين ليسوا مدرَّبين على استخدام هذا السلاح الأمريكي المتطور، ويحتاج الأمر إلى عدَّة أشهر لميدنة هذه الأنظمة، إضافةً إلى أنَّ عددها محدود، ومن الصعوبة أنْ تتنازلَ عنها الدولُ الموجودة فيها ويتم إرسالها إلى أوكرانيا.

من أجل تعزيز الحماية الجوية ضدَّ الطائرات الروسية والصواريخ، يطمحُ الرئيسُ الأوكراني من الدول الغربية مشاركةَ بلدِه صورَ الأقمار الصناعية أو بيانات الرادار الخاصة بها مع كييف. يمكن للدول الغربية التي لديها رادارات بعيدة المدى جدًا تزويد الجيش الأوكراني بصورٍ جوية في الوقت الفعلي؛ كي تُعطي إنذارًا مبكرًا عن اقتراب الصواريخ والطائرات الروسية من أجل استخدام الدفاع الجوي بشكلٍ أفضل وبردِّ فعلٍ قصير. لكن واشنطن تمانع. تخشى من أنْ تعترضَ روسيا الاتصالات وليس لدى البنتاغون رغبة في أنْ تكتشف موسكو مصادر صورِ الأقمار الصناعية لديها وإمكاناتها في هذا المجال. كذلك طالبَ الرئيس الأوكراني بمنطقة حضر طيران لكن الغرب يرفض، حتى الآن؛ لاستحالتها من الناحية الجيو-سياسية. تعني منطقة حظر الطيران هذه السماحَ لمقاتلي الناتو بتدمير الطائرات الروسية لفرض منطقة الحظر، بينما لن يتردَّد الروس في تدميرها، بما قد يفتح الباب أمام حربٍ عالميةٍ ثالثة لا يتمنَّاها الغرب.

2-منظومات الدفاع الجوي الروسية قويةٌ لكنها لم تُختَبر:

استثمرت روسيا من جانبها، بكثافة في أنظمة الدفاع الجوي. نتيجةً لذلك؛ تمتلكُ روسيا الآن بعضًا من أكثر أنظمة الدفاع الجوي والصاروخية تقدمًا في العالم. تتبعُ عقيدةُ الدفاع الجوي الروسية الحالية أنظمةَ دفاعٍ جويٍ متعدِّد الطبقات (مستويات). تسمحُ هذه العقيدة القتالية لقوات الدفاع الجوي الروسية بإنشاء مناطق منع الوصول (AD /A2) التي يصعُب اختراقها.

يستخدمُ المستوى الأعلى من هذه الشبكات الدفاعية أنظمةً بعيدةَ المدى مثل “إس-200″ و”إس-300” و”إس-400″، مما يوفِّر دوائر دفاع جوي يصل قطرها إلى 800 كيلومتر. يتم زيادة هذه المناطق عادةً من خلال المستوى الثاني الذي يتضمَّن أنظمةً متوسطةَ المدى مثل نظام “سام 11” واسمه الرسمي (37 Buk-M1  9) ومتحوّلاته . تهدفُ هذه الطبقة متوسطة المدى إلى زيادة تغطية الرادار داخل منطقة الدفاع الجوي وزيادة المخزونات المحدودة لصواريخ الاعتراض متوسطة المدى. تستخدمُ الطبقةُ الثالثة أنظمةً متنقلةً قصيرةَ المدى مثل “9 كي33 أوسا” و “إس-125 نيفا” لتوفير حماية إضافية للمناطق الرئيسية مثل القواعد العسكرية أو لمواكبة تحرُّك القوات البرية. غالبًا ما ترتبط هذه الأنظمة، جنبًا إلى جنب مع الأنظمة المتحركة مثل “سام 11” بتشكيلات القوات البرية في الميدان لتقديم الحماية الجوية لها؛ نظرًا لقابليتها للتأثُّر بتهديدات الطيران المنخفض مثل صواريخ كروز، غالبًا ما يتم حراسة دفاعات الطبقة الأولى والثانية بواسطة أنظمة دفاع نقطية مثل Tor أو Pantsyr-S1.1 [16].

لم يتَّضح، حتى الآن، أنَّ أنظمة الدفاع الجوي الروسية خضعت لاختبار حقيقي خلال الحروب الأخيرة ولم تستخدمها روسيا والدول التي اشترتها في معارك جوية. كذلك في الحرب الأوكرانية لم يحدث حتى الآن أنْ دخلت القوات الجوية الأوكرانية داخلَ العمق الروسي أو أطلقت صواريخ بالستية، حتى نحكُم على صلابة منظومة الدفاع الجوي الروسية. يبقى أنه خلال حرب أكتوبر 1973م أثبت “سام -6” الذي كانت تستخدمُه قواتُ الدفاع الجوي المصرية أنه فعَّال ضدَّ الطائرات الإسرائيلية وأسقطَ بمفرده ما يزيدُ عن 50 طائرةً إسرائيلية.

يرجِّح الكثير من الخبراء في التقنيات العسكرية وفي الأسلحة أنَّ روسيا لديها فعلًا أقوى دفاعٍ جوي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وربما تسبقها في بعض الأنواع الجديدة خاصةً فيما يتعلَّق بصواريخ “إس-400″  و”إس-500” التي يصل مداها  إلى أكثر من  1000 ميل، ويمكنها اعتراضُ جميع المنصات الطائرة من صواريخ وطائرات ومسيرات. هذه الصواريخ الروسية يرجِّحُ بعض المتخصّصين أنها ربما تملك من القدرات ما يفوق صواريخ الثاد والباتريوت الأمريكية.

الخلاصة

كشَفت هذه الحرب أنَّ تأمينَ دفاعٍ جويٍ متعدِّد الطبقات ضدَّ التهديدات الجوية الآخذةِ في التطوَّر أصبحَ ضروريًا في الحرب الحديثة؛ لحماية مرافق الدولة وقوّتها العسكرية وبُنيتها التحتية وسُّكانها من أيّ تهديدٍ جوي. فاجأ الروسُ العالمَ باستخدامِ صواريخ فائقة السرعة، ولها قدرةٌ على المناورة، ولا يمكن اكتشافُها بسهولة، ممّا صعَّبَ على منظومة الدفاع الجوي الأوكرانية التعامُلَ معها بأنظمةِ دفاعٍ جويٍ تقليدية ومتهالِكة. هذا أعطى الروس مزيدًا من حريةِ العمل الجوي وأكسبَهُم تفوقًا جويًا على مسرح القتال.

مع ذلك، وبرغم التفوّق الجوي الروسي، إلَّا أنه لا يمكنُ الجزمُ بأنَّ روسيا حقَّقت سيادةً جويةً كاملة أثناءَ غزوها لأوكرانيا. وبغضِّ النظر عن الأسباب، سواءً من قصورٍ فنيٍ وبشريٍ في أدائها الجوي، أو رغبةً في عدمِ استنزاف قوَّاتها الجوية تحسُّبًا لإطالة أمدِ الحرب وتوسُّع مسرحِ المواجهة، فإنَّ روسيا لم تستطع القضاءَ تمامًا على كاملِ الوحدات العسكرية البرية الأوكرانية، أو استهدافَ كاملِ الأهداف العسكرية والمواقع القتالية للأوكرانيين، أو تعطيلَ حركةِ وعملِ المقاومةِ الأوكرانية.

 ستكون هذه الحرب محفِّزًا للدول الكبرى كأمريكا وروسيا والصين على تطويرِ أنظمةِ دفاعٍ جوي يمكنُها التعاملُ مع هذا النوع المتقدِّم في وسائل التهديدِ الجوي من صواريخ بالستية، وأمامَ الطائرات من الجيل الجديد، والمسيرات. ربما تكون أسلحةُ الليزر هي إحدى الوسائط التي سيتم تطويرها. بدأت بالفعل بعضُ الدول كالصين وروسيا في تطويرِ أسلحةٍ ليزريةٍ مضادَّة للتهديدات الجويةِ المختلفة. زعَمت روسيا أنَّ لديها أسلحةَ دفاعٍ جويٍ ليزرية ضدَّ المسيرات والطائرات، ويمكنُها أيضًا اعتراضُ الأقمار الصناعية، مثلَ نظام “بيريسيفت”. عرضَ الجيشُ الروسي مقاطع فيديو توضِّح كيفَ استطاعَ هذا السلاح أنْ يدمِّر طائرات “البيرقدار” الأوكرانية المسيَّرة خلالَ خمسِ ثوانٍ من إطلاق أشعةِ الليزر ضدَّها.

من جانِبها فشركة “بولي تكنولوجيز” الصينية أنتَجت نظامَ دفاعٍ جوي يعملُ بالليزر ضدَّ المسيرات يُسمى Silent hunter. تم عرضُ هذا النظام في معرضِ الدفاع العالمي الذي أُقيم في الرياض شهر مارس الماضي. ذكرَ لي أحدُ المسوِّقين لهذا النظام أنه يتميزُ بتكلفتِه القليلة ولا يستهلكُ ذخيرة، ولديه قدراتٌ عالية في ضرب الطائرات المسيرة باستخدام الليزر مهما كان عددُها وتحليقها المنخفض، وتعملُ الشركة على تطويره ليعمَلَ ضدَّ الصواريخ البالستية. فالمنظومةُ تمتلكُ ليزرًا متفوقًا وقدرةً عالية لتسديد الضربات وتأمين المنشآت الحيوية بشكلٍ كامل من المسيرات .كانت السعودية أولَ الموّقعين مع الشركة للاستحواذ على عددٍ من النُّسخِ الخاصة من هذا النظام. تم إدراجُه وإدماجُه ضمنَ منظومةِ الدفاع الجوي السعودي بسرعة واستُخدِمَ ميدانيًا ضدَّ المسيرات التي كان الحوثي يُطلقها على المملكة. حسَبَ المستخدمين، فإنه كان فعَّالًا وساهمَ في إسقاط عددٍ كبير من المسيرات لكنَّه ما زالَ في مرحلةِ التجربة والميدنة والربطِ بباقي المنظومة، وإضافة طواقم جديدة منه.

أخيرًا، يجبُ أنْ يؤخَذَ في الحسبان في الحروب القادمة أنه مالم يكُن هناك قوةٌ جويةٌ قادرة على فرضِ سيادةٍ جوية على سماء مسرحِ الحرب قَبل بداية العمليات البرية، والمحافظة عليها طوالَ زمن الحرب، وفي جميعِ الظروف، وحماية تقدُّم ومناورة أرتالِ القوات البرية، فإنَّ الحربَ يمكنُ أنْ تأخُذَ مسارَ الاستنزاف وستطول، ويمكن للمُدافع أنْ يُعيد تنظيمَ قوَّاته البرية والتزوَّدَ بأسلحةِ دفاعٍ جويٍ مضادَّة، ويتمُّ التعزيزُ بطائراتٍ مقاتلة أو مسيرة، بحيث يمتلك حدًّا أدنى من الغطاء الجوي لوحداته البرية؛ ما يضمنُ حريةَ المناورةِ البرية، وإحداثَ تغييرٍ تدريجي في موازين القوى العسكري. فهل في حال استمرَّت الحرب لوقتٍ أطول، ستفعلُها أوكرانيا بالفعل، وتُعيدُ بناءَ وتطويرَ منظومتها الدفاعية الجوية، وبدعمٍ أمريكي وأوروبي؟


[1] Forbes, David Axe  ,War With No Air Power? Eastern Ukraine Could Be Too Dangerous For Russian And Ukrainian Planes, 8 December 2021, Accessed:13 June 2022, https://bit.ly/3xKpLeG

[2] The Pilot Survey 2022, https://bit.ly/3Mg7fzZ

[3] События, связанные с этим(موقع روسي) , Sukhoi Su-35S: Capabilities Out of This World,  Accessed: 22 June 2022, https://bit.ly/3QDRUvy

[4] Newsweek,  Russian Su-35 Fighter Jets Reportedly Bomb Ukrainian Targets,  23 may 2022, Accessed: 22 June 2022, https://www.newsweek.com/russian-su-35-fighter-jets-reportedly-bomb-ukrainian-targets-1709352

[5] JON JACKSON, News times,  Putin’s Superior Air Force Is Failing Him in Ukraine , 12 May2022 , Accessed:13 may2022, https://bit.ly/3Pkf35B

[6]  عربي بوست، سر الأداء المرتبك لسلاح الجو الروسي في الحرب على أوكرانيا، (12 أبريل 2022م)، تاريخ الاطلاع: 13 مايو 2022م،https://bit.ly/3MjGKJV

[7] The Washington Post, Dan Lamothe, Russian air force action increases despite flood of antiaircraft missiles into Ukraine, 22 march 2022, Accessed: 13 June 2022, https://wapo.st/3zDVcZA

[8] FORBES, Ukraine’s Air Force Is Back! But Who Knows For How Long, 7 may 2022, Accessed:12 May 2022,  https://bit.ly/3sxNyvv

[9]  روسيا اليوم، الدفاع الروسية تعلن حصيلة العملية الخاصة في أوكرانيا خلال يوم، (06 يونيو 2022م)، تاريخ الاطلاع: 12 يونيو 2022م، https://bit.ly/3NMC1AW

[10] FRANCINFO, Frédéric BeniadaL, a bataille du ciel ukrainien : le combat de David contre Goliath ?, 13 March 2022, Accessed : 14 juin 2022, https://bit.ly/3xuts6W

[11]  آر تي، تبديد أسطورة فاعلية الدفاعات الجوية الأوكرانية، (25 فبراير 2022م)، تاريخ الاطلاع: 11 أبريل 2022م، https://bit.ly/3yrk9Ha

[12] WUSF, Greg Myre, Ukraine says it’s downed 200 aircraft, a mark of Russian failures in the sky, 16 May 2022, https://bit.ly/3O5zGBf

[13] أخبار، بينها طائرات مسيرة وصواريخ متقدمة.. ما هي أسلحة أوكرانيا بمواجهة روسيا؟، (18 مارس 2022م)، تاريخ الاطلاع: 12 مايو 2022م، https://bit.ly/3wlXUzM

[14] INSIDER, Jack Buckby Starstreak, the fastest surface-to-air missile ever made, is bringing down Russian helicopters in Ukraine, 11 may 2022,Accessed 14 June 2022, https://bit.ly/3tyhnfO

[15] FRANCE 24, Sébastian SEIBT, La bataille du ciel ukrainien ne passe pas forcément par une “no-fly zone”, 17 Mars 2022, Accessed :15 june 2022, https://bit.ly/3tCPKT2  

[16]Missile Threat,  Russian Air and Missile Defense, 3 August 2021, Accessed: 11 April 2022,  https://bit.ly/3wl9o6v

د. أحمد بن ضيف الله القرني
د. أحمد بن ضيف الله القرني
نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية