مفارقات السياسة الداخلية الإسرائيلية

https://rasanah-iiis.org/?p=28413

مقدمة

 طوال سنةٍ مضت، ظلَّ الائتلاف الحاكم في إسرائيل بقيادة نفتالي بينت ورئيس الحكومة البديل يائير لابيد يحارب للحفاظ على تماسكه وثباته أمام ضربات المعارضة بزعامة بنيامين نتنياهو، وأمام مطالب وابتزاز بعض الأطراف اليمينية في الائتلاف نفسه، وفي حزب رئيس الحكومة نفتالي بينت «يمينا».

 لكن يبدو أنَّ الضربات التي تلقَّاها الائتلاف من الداخل بالذات، والمتمثِّلة في انشقاقات بعض الأعضاء المهمّين في حزب «يمينا» كانت هي السبب الأهم الذي دفع بينت ولابيد للإعلان عن حلِّ الكنيست والذهاب لانتخاباتٍ هي الخامسة خلال ثلاث سنوات. لكن ما جرى مساء الاثنين 27 يونيو 2022م -تاريخ طرح مشروع حلِّ الكنيست للتصويت- كان مفاجئًا، إذ كان الجميع يتوقع تأييدًا فوريًّا للغالبية لصالح القرار والذهاب لانتخابات. فما جرى هو أنَّ أعضاء المعارضة الأشرس في تاريخ إسرائيل، والذين كانوا ينادون صباحَ مساء بضرورة حلِّ الكنيست وإسقاط الائتلاف، أصبحوا فجأةً متسامحين وهادئين، وطلبوا تأجيلَ التصويت على حلِّ الكنيست إلى الأسبوع القادم. والسبب في مطلبهم هذا أملُهم في تشكيل حكومة يمينية بديلة واسعة قدرَ الإمكان تحلِّ محلَّ الائتلاف الحالي دون الحاجة للذهاب إلى انتخابات؛ وسبب إصرار الائتلاف على حلِّ الكنيست هو قطع الطريق مؤقتًا على نتنياهو، من خلال تولي يائير لابيد حكومةً انتقالية بالوضع الحالي بحسب اتفاق التناوب مع بينت قبلَ سنة، والذهاب للانتخابات في وقتٍ يُحدَّد لاحقًا.

أولًا: بداية أزمة «ائتلاف بينت»

يمكن القول إنَّ أزمةَ «ائتلاف بينت» الحالي -غير المتجانس في مكوناته- بدأت في السادس من أبريل الماضي. ففي صباح ذلك اليوم أعلنت عضوة الكنيست عيديت سيلمان من حزب «يمينا»، عزمَها الاستقالة من الائتلاف الحكومي، الأمر الذي أفقدَ حكومة نفتالي بينت الأغلبيةَ في الكنيست، وأصبحت قاعدتها البرلمانية متساويةً مع المعارضة المكونة من أحزاب اليمين المتطرِّف والمتدينين، وأجمعت وسائل الإعلام الإسرائيلية حينها على وصف الانسحاب المفاجئ بأنه صدمةٌ وتطورٌ دراماتيكي، وأنَّ احتمالات إمكانية إجراء انتخابات مبكرة باتت تلوحُ بالأُفق.

 وجاء هذا التطور بعد خلاف عيديت سيلمان مع وزير الصحة زعيم تحالف «ميرتس» اليساري بشأن السماح بإدخال مأكولات تحوي الخميرة إلى المستشفيات خلال عيد الفصح اليهودي الذي حلَّ منتصف أبريل الماضي، وهو ما تحظره الديانة اليهودية.

 وازدادَ موقف الائتلاف الحاكم سوءًا، مع إعلان «القائمة العربية الموحدة» آنذاك أيضًا تعليق عضويتها في الائتلاف بعد أنْ خسِرَ أغلبيته الضئيلة في الكنيست، للنظر في هذه المسألة. غير أنَّ القائمة أعلنت بعد فترة قصيرة عودتها مبرَّرةً ذلك بأنها «تريد منح الائتلاف فرصةً ثانية». هذا الموقف دفعَ المتطرف القومي أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» لإطلاق تصريح غير معهود منه حول «قانون القومية»، وقال إنه يؤيد إعادة النظر في هذا القانون ليشملَ الأقليات في إسرائيل على حدِّ قوله. وعُرفت عن ليبرمان دائمًا مواقفه المتطرفة ضدَّ المكون العربي، باعتباره داعمًا للإرهاب، كما عُرف أيضًا بعدائه للأحزاب الدينية اليهودية الساعية لفرض تعاليم الشريعة اليهودية على المجتمع والدولة. وقبل سنة تردَّد كثيرًا للانضمام للائتلاف الحاكم بسبب وجود القائمة العربية الموحدة فيه، لكنه قبِلَ مضطرًا ونكايةً في نتنياهو وحلفائه من المتدينين.

 الضربة الثانية للائتلاف جاءت أيضًا من حزب رئيسه «يمينا»، إذ يبدو أنَّ أعضاء هذا الحزب لم يستطيعوا التغلب على نزعتهم اليمينية والتماهي مع شركائهم من بقية الأطياف الأخرى. ففي 13 يونيو 2022م، أعلن عضو الكنيست نير أورباخ (يمينا) انسحابه من الائتلاف مما أدَّى مرةً أخرى إلى تراجع مقاعده إلى 59 مقعدًا. واتهم أورباخ في بيان له «عناصر متطرفة ومعادية للصهيونية» مثل النائبين العربيين مازن غنايم (القائمة العربية الموحدة) وغيداء ريناوي زعبي (ميرتس)، بسحب التحالف «إلى اتجاهات إشكالية» و«احتجازه رهينة». وقال أورباخ: إنَّ الائتلاف فشِلَ في مهمته الرئيسية المتمثلة في «رفع الروح المعنوية للإسرائيليين»، وتعهَّد بالعمل على تشكيل ائتلاف بديل «بروح وطنية» في الكنيست الحالي رغم صعوبة ذلك ورفض الكثير من النواب الانضمامَ إلى ائتلاف مع رئيس المعارضة نتنياهو. وسبب انسحاب النائب اليميني أورباخ هو فشل الائتلاف مؤخرًا في تمرير تشريعٍ لتمديد تطبيق القوانين الإسرائيلية على المستوطنين في الضفة الغربية، كما صوَّت زميلُه في الحزب عميحاي شيكلي ضدَّ القانون إلى جانب المعارضة؛ ونتيجةً لمواقفهم هذه تسرَّبت أنباءٌ عن أنَّ هؤلاء النوّاب الثلاثة عيديت سيلمان، ونير أورباخ، وعميحاي شيكلي، قد يكونون هدفًا لمحاولات نتنياهو لضمِّهم إلى الليكود وكسب مقاعدهم لصالحه.

ثانيًا: بوادر تصدُّع كتلة اليمين الديني المتماسكة

لسنوات طويلة كان تكتُّل اليمين خلف الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو هو الأقل والأكثر تماسكًا وثباتًا، وخير دليل على ذلك هو بقاء نتنياهو في رئاسة الحكومة لمدة 12 عامًا. لكن اليمين في إسرائيل ينقسم إلى قسمين يمينٌ ديني، ويمينٌ قومي. وكان اليمين في العموم كتلةً واحدة حتى بدأت الخلافات تظهر بين مكوناته الدينية والقومية حول العديد من القوانين منها إصرار الجناح الديني على إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة في الجيش، ومطالبتهم أيضًا بإغلاق جميع المحال التجارية ووسائل المواصلات العامة في يوم السبت وغيرها. هذه الأمور وجدت رفضًا حادًا من الجناح القومي في اليمين وعلى رأسه حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان المناهض الشرس للمتدينين في الكتلة. وكان خروج ليبرمان من الحكومة قبل سنوات بسبب هذه المشاكل بداية الدوامة الحالية المستمرة حتى اليوم، وبقى الليكود على تحالفه مع الأحزاب الدينية، وهي «يهدوت هاتوراه»، وحزب «شاس»، و«الصهيونية الدينية»؛ وسبب بقاء هذه الأحزاب الأربعة متكتلةً هو ميلُ نتنياهو لدعم مطالبهم دائمًا، خاصةً فيما يتعلق بتوسيع الاستيطان، وطريقة التعامل مع الفلسطينيين. مقابل أنْ يبقى هؤلاء بمقاعدهم في الكنيست معه موفِّرين له بذلك عددًا كبيرًا من المقاعد ولو أنه غير حاسم، وبذلك كان هؤلاء بالنسبة لنتنياهو بمثابة الحصن المنيع ضدَّ خصومه، وضدَّ القضاء الذي يلاحقُه بتهمِ الفساد. لكن يبدو أنَّ الانسدادَ السياسي في إسرائيل وصلَ مرحلةً لا يمكن تجاوزها إلا بتغييرٍ مهم في هذا التكتل الذي يُعدُّ المسؤولَ الأول عن الشلل السياسي الذي تعيشُه إسرائيل.

وظهرت إرهاصات هذا التحول الكبير في تكتل الأحزاب الدينية مساء الأحد 26 يونيو 2022م، إذ نقلت القناة الثانية عن قياديين في حزبي «يهدوت هاتوراه» و«شاس» أنه إذا لم يتمكن نتنياهو من تحقيق 61 مقعدًا في الانتخابات البرلمانية المقبلة فسيقترحون تشكيل حكومة بالتناوب مع حزب «أزرق أبيض» يتولى رئاستها أولًا بيني غانتس. وأعرب قياديو حريديم (متدينون) عن ثقتهم بأن الليكود سيوافق على هذا الاقتراح.

ويهدف الحريديم (المتدينون) من هذه الخطوة وضعَ نتنياهو أمام الأمر الواقع في ظل ضعف احتمالات تشكيل حكومة بديلة مع الوضع الحالي في الكنيست. ويقولون إنهم لن يبقوا في المعارضة في الوقت الذي لا يهتم فيه أحد ما إذا جلسوا في حكومة مع لابيد أو ليبرمان. وأكَّد هؤلاء أنه إذا لم يتمكن نتنياهو من تحقيق 61 مقعدًا فسيذهبون إلى بيني غانتس ويقترحون عليه ترأس حكومة مع كتلة اليمين وقد يُستثنى من هذه الكتلة بِن غفير، ويكون نتنياهو رئيس الحكومة البديل باتفاق تناوب أو بدونه؛ وبهذا يضمن المتدينون عودتهم إلى الائتلاف الحاكم وإرسال خصومهم إلى المعارضة، مع الإبقاء على الجسور مع اليمين القومي.

ويكشف هذا الموقف من جانب أحزاب المتدينين عدمَ ثقتِهم في قُدرة نتنياهو على تحقيق شيء في الجولة الحالية، وعجزه عن تجاوز خصومه في «اليسار» و«وسط اليسار» و«اليمين القومي»، ومؤشر تصدع في تحالف قوي شلَّ إسرائيل سياسيًا.

ولم يتأخر ردُّ «الليكود» على موقف «الحلفاء» هذا، إذ هاجم عضو الكنيست ميكي زوهار الإثنين 27 يونيو 2022م، بشدة المسؤولين الحريديم، مؤكدًا بأن الليكود هو الوحيد الذي يمكنه الحصول على مقاعد كافية لتحالفٍ مستقبلي، وقال زوهار في حديث إذاعي: «الحريديم يرتكبون خطًأ فادحًا عبر بيانهم حول غانتس».

وأضاف: «إنهم يضرّون بفرصِهم في أنْ يكونوا في الائتلاف المقبل، الحريديم المتطرفون لديهم سقفٌ زجاجي من 16 مقعدًا، فقط الليكود يستطيع رفع المقاعد لإكمال الائتلاف إلى 61».

وقال زوهار: «إنهم يمنعوننا من القيام بذلك من خلال إعلانهم أنَّ غانتس سيكون رئيسًا للوزراء، وأقول لكم إنَّ بيني غانتس لن يكون رئيسًا للوزراء وسأقول أيضًا ما سيفعله الحريديم المتطرفون، سيجلسون مثل الأطفال الجيدين في التحالف معنا».

ويبدو أيضًا أنَّ نتنياهو وعناده أصبح عبئًا حتى على حزبه «الليكود»، وأبرز مؤشر على ذلك ما نقلته صحيفة «إسرائيل اليوم» (صوت الليكود)، الثلاثاء 27 يونيو 2022م عن قياديين في الحزب قولهم بأنَّ «الانتخابات القادمة ستكون الفرصة الأخيرة لنتنياهو»، وقال هؤلاء إنه إذا لم يتمكن نتنياهو من جمع 61 مقعدًا في الكنيست فسيعتبرون أنفسهم خارج «بلوك» اليمين. كما أشاروا إلى أنه حتى أولئك الذين يؤيدونه حاليًا يقولون في الغرف المغلقة أنهم لن يذهبوا معه إلى انتخابات سادسة، وسيضطرونه للمغادرة.

وتُشير هذه التطورات إلى تراجع احتمال تشكل حكومة يمينية صِرفة في إسرائيل، خاصةً بعد وصول الصدعِ إلى التكتل القوي المعطل، والذي بدأ أعضاؤه يقرِّون بأنَّ بعضَ التنازلات قد تكون ضروريةً لوضعِ حدٍّ لهذه الأزمة اللانهائية.

خلاصة

من المعطيات السابقة يتَّضح أنَّ كلا الكُتلتين المتنافستين على الحصول على الأغلبية في الكنيست الإسرائيلي تعانيان من تصدعات داخلهما، وبالنسبة للائتلاف الحاكم سنجد أنه مكونٌ من خليطٍ يصلُ حدَّ التناقض، ففيه أحزابٌ يمينية مثل «يمينا» بزعامة نفتالي بينت الذي يغلِبُ عليه الطابعُ الديني، و«إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغدور ليبرمان، و«أمل جديد» المنشق عن «الليكود» ويتزعَّمُه غدعون ساعار، وهؤلاء كانوا حلفاءً تقليديين لنتنياهو سابقًا قبلَ أنْ ينفصلوا عنه أملًا في حلحلةِ الوضع المتأزم، ويجلس معهم في الائتلاف أحزابٌ محسوبةٌ على «وسط اليسار» وهي «يش عاتيد» الذي يرأسه يائير لابيد، و«أزرق أبيض» بزعامة وزير الدفاع بيني غانتس، و«العمل» بزعامة النائبة ميراف ميخائيلي، ومعهم أيضًا الحزب اليساري «ميرتس» برئاسة نيتسان هوروفيتش، والقائمة العربية الموحَّدة (إخوان) برئاسة النائب منصور عباس.

وهؤلاء ذوي أيديولوجياتٍ متناقضة، ولا تجمعُهم رؤيةٌ شاملةٌ موحَّدة لمختلف القضايا التي يناقشونها، ولا يجمعُهم سوى شعارٌ واحد، وهو فقط «لا لنتنياهو». هذا هو سببُ عدم استقرار الائتلاف الحاكم منذ تشكيله، وإخفاقاته المتكرِّرة في الحسم في القضايا الحساسة بسبب خلافهم شبه الدائم حولها، والشاهد على ذلك الجدلُ الكبير حول مشروع تمديد فرض القانون الإسرائيلي في الضفة الغربية الذي طُرح مؤخرًا، والذي تسبَّب في انسحاب نير أورباخ اليميني من الائتلاف، ومعارضة نواب «يمينا» له، وتماهيهِم مع موقف المعارضة منه بسبب خلفيتهم اليمينية، وهذا يؤكِّد انحيازَ النوَّاب دائمًا للأيديولوجياتِ والإعراضِ عن التزاماتِهم مع بقيةِ الشركاء في الائتلاف.

أما تكتلُ اليمين الذي بقِي صلبًا طوال السنوات الماضية فبدأنا نرى مؤشرات تملمُلِهِم من نتنياهو لفشله المتكرِّر في تحقيق أغلبيةٍ مريحة لليمين في الكنيست، ووصل هذا التملمُل حتى حزبه «الليكود»، وقد يكون هذا مؤشرًا على قناعة هؤلاء بأنَّ وجودَ نتنياهو باتَ عقبةً أمام أيِّ تقدُّمٍ نحوَ تشكيلِ حكومةٍ مستقرة تقودُ البلاد بشكلٍ فعَّال. وخروج نتنياهو إذا ما تحقَّق، قد يُعيد الأحزابَ اليمينية وخاصةً «يمينا» و«أمل جديد» إلى كتلة اليمين مجددًا. أما حزب «إسرائيل بيتنا» فنظرًا لكونه قوميًا قد يبقى خارجَ المعسكريْن ليعودَ للعبِ دورِ «رمانة الميزان» بين كتلتين.

أما الحزبان العربيان فموقفهُما متباينٌ أيضًا، إذ مِن المتوقَّع أنْ تميلَ «القائمةُ العربية المشتركة» ذات التوجه اليساري بقيادة أيمن عودة للبقاء مع أحزاب اليسار مثل «ميرتس» و«العمل» بسبب التقارب بينهم. أما القائمة العربية الموحَّدة (الإسلامية) بقيادة منصور عباس فأثبتت خلال الفترة الماضية براغماتيتها وأنها مستعدةٌ للمضي مع أيّ كتلةٍ تُلبي مطالبها. لكن هذه البراغماتية لم تجعل أحزابَ اليمين تعتبرها شريكًا موثوقًا بلّ شريكَ ضرورةٍ لا يُعتمد عليه، وقال هذا من قَبل رئيسُ الائتلاف نفسه نفتالي بينت.

وبقى أنْ نرى ما إذا كان مشروع قرار حلِّ الكنيست سيُقَرُّ نهائيًا أم لا، وفي حال إقراره قد نشهدُ تحولاتٍ كُبرى بناءً على ما سبق مثلَ أنْ يُعيدَ اليمينُ تنظيمَ صفوفه، وتسويةَ مشاكله، حتى لو كان الثمن إبعادَ نتنياهو، والدخول مع أحزاب «وسط اليسار» خاصةً تلك التي يرأسها عسكريون في ائتلافٍ مستقر يملكُ أغلبيةً مريحة في الكنيست، تُخرِجُ إسرائيل من هذا النفق الطويل.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير