على الرغم من أن تحريف التليفزيون الإيراني قبل أيام لترجمة تصريحات اللاعب البرتغالي الشهير كريستيانو رونالدو، لإظهاره شخصًا معاديًا لإسرائيل -في حين أن تلك التصريحات تعود إلى عام ٢٠١٦م وتحوي رسالة دعم للأطفال السوريين- قد أثار كثيرًا من ردود الأفعال على شبكات التواصل الاجتماعي، فإنه بدا طبيعيًّا للمسؤولين في هيئة الإذاعة والتليفزيون الإيراني، بل وكبار المسؤولين في إيران إلى درجة أننا لم نرَ أيَّ تعليقٍ أو ردِّ فعلٍ جادٍّ بهذا الشأن.
بالتزامن مع هذه الحادثة، أجْرَت إحدى قنوات التليفزيون الإيراني حوارًا سياسيًّا باللغة الإنجليزية مع ضيفٍ وصفتْه بأنه خبير هنديّ، ليتضح خلال المقابلة -ونتيجة خلل في الصوت- أن الضيف المذكور يتحدث الفارسية بطلاقة. وبدا واضحًا أن القناة تحاول خداع جمهورها وضخّ المعلومات التي تريدها على لسان ضيف أجنبيّ وبلغة إنجليزية، كي يكون تأثيره أقوى في أذهانهم. قبل مدة أيضًا، وصفَتْ قناة «خبر» الإيرانية الفنانَ والموسيقيَّ البريطانيَّ المعروفَ روجر ووتزر بأنه محلل سياسيّ، وبثَّت مقتطفات من تصريحاته في انتقاد الرئيس الأمريكي جو بايدن.
والحقُّ أن هذه السلوكيات ليست مُستغرَبة من التليفزيون الإيراني، فقد بثَّ في العام الماضي وفي أثناء ذروة جائحة كورونا، وحين كان يسقط نحو ٤٥٠ إيرانيًّا يوميًّا نتيجة الإصابة بالوباء، تقريرًا يُظهِر عشرات المواطنين الهنود يسقطون على الأرض في الشوارع بعد فقدانهم الوعي، واصفًا المشهد بأنه نتيجة لتفشي كورونا في الهند، فيما اتضح لاحقًا أن الصور تعود إلى حادثة تسرُّب غازٍ سامٍّ من مصنعٍ هنديّ، وقعَت قبل أكثر من عام. وكان الهدف من ذلك على ما يبدو إظهار أن هناك دولًا وضعها أسوأ من إيران في تفشي الوباء.
والجميع يستذكر قصة «بائع الذُّرَة» الذي أجرى معه التليفزيون الإيراني حوارًا بعد سماع صوت انفجار في إحدى مناطق طهران، ليقول خلال هذا الحوار إنه كان في المكان ولم يسمع أيّ صوت. بعد ذلك بأسبوع، عرض التليفزيون مقابلة للشخص نفسه مُدْمَى الوجه، إذ زعم أنه كان في طائرة «ماهان» -التي يستخدمها الحرس الثوري لنقل الأسلحة إلى سوريا- التي اقتربت منها مقاتلة أمريكية في أثناء توجُّهِها من دمشق إلى طهران، وأن هذا الأمر أدى إلى إصابته بجروح. قبل مدة من هذين الحدثين، بثَّ التليفزيون في أثناء الاحتجاجات على ارتفاع أسعار البنزين عام ٢٠١٩م مقابلة مع الشخص نفسه وهو يبكي ويزعم أن «مثيري الشغب» قد أحرقوا جهاز ابنته التي يُفترض أن تتزوج بعد مدة قصيرة.
ورغم أن هذه المواقف وما شابهها أثارت ولا تزال تثير ردود فعل واسعة من قِبل روَّاد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اتَّهموا هيئة الإذاعة والتليفزيون العملاقة التي يُشرِف عليها مكتب المرشد مباشرة، ويُعيَّن مديرها بمرسوم من المرشد نفسه، وتُخصَّص لها ميزانية تفُوق ميزانيات كثير من الوزارات، ويبلغ عدد العاملين فيها نحو ٥٠ ألف شخص، باعتياد قلب الحقائق وتزييفها وبث الأكاذيب ومحاولة خداع الجمهور واستحمارهم، فإنها أصبحت مواقف عادية وغير مُستغرَبة ولا تستدعي -من وجهة نظر المسؤولين- تقديم اعتذارات أو توضيحات أو بيانات.
عمل النظام الإيراني طَوال العقود الماضية وفي حقبة الخطاب الواحد والتليفزيونات الرسمية، وفي ظل عدم وجود منافس وأطباق هوائية وقنوات فضائية وانتشار الإنترنت ودخول شبكات التواصل الاجتماعي، على استخدام التليفزيون أداة للبروباغندا وغسل الأدمغة والترويج لسياساته وتقديم الأحداث بصورة مغلوطة أو منقوصة أو مشوَّهة، دون أدنى قلق أو خوف من كشف ممارساته. واعتاد التليفزيون الإيراني استخدام الأكاذيب والخداع لتلميع صورة النظام، وتجميل أفعاله وسياساته، وتحريف وتشويه التصريحات التي لا تناسب النظام أو تنتقده هو أو أحد حلفائه، أو تمتدح خصومه أو أعداءه.
وعلى الرغم من اعتراف المرشد بضعف العمل الإعلامي داخل إيران، واعتراف المسؤولين بتراجع جمهور التليفزيون الإيراني، فإنهم يرفضون الإذعان بأن الأكاذيب وتزييف الحقائق وتقديم صور مغلوطة كانت السبب الرئيسي في الانصراف عنه.
في الحقيقة، أدَّت هذه الممارسات، إلى جانب الضعف في الأداء وصناعة محتوى غير جذاب وبعيد عن أذواق الجمهور، إلى انفضاض شرائح واسعة من الإيرانيين عن التليفزيون الرسمي، والانتقال إلى القنوات التي تبث من خارج إيران، في ظل عدم وجود إعلام خاصّ ومستقلّ داخل البلاد. وباتت غالبية الإيرانيين لا ترجع إلى وسائل الإعلام الرسمية لمتابعة الأخبار والأحداث، بل تسعى للتعرف على الحقيقة من وسائل الإعلام التي تبث من خارج إيران، والتي نزعت الاحتكار من الإعلام الرسمي، فضلًا عن شبكات التواصل الاجتماعي.
أظهر استطلاع فريد للرأي نشرته مؤسسة «غمان» -ومقرها هولندا- في أواخر مارس من العام الماضي أن معدل الثقة بالقنوات التي تبثّ من خارج إيران يفوق بأضعافٍ الثقة بما يبثه التليفزيون الرسمي، فقد أظهر الاستطلاع أن نحو ٥٣% من العيِّنة المستطلَعة آراؤها -أكثر من ٢٠ ألفًا- تثق بأخبار ومعلومات قناة «إيران إنترناشيونال» حديثة النشأة، تلتها قناة «من وتو» بنسبة ٥٠%، في حين لم تتجاوز نسبة من يثق بالتليفزيون الرسمي ١٤,٣%، وأعرب نحو ٧٤% أنهم لا يثقون مطلقًا بالتليفزيون الرسمي. وهذا ما يفسّر غضبَ النظام الإيراني من القنوات التي تبثّ من الخارج، وكَيْلَهُ التهمَ ضدَّها، واتهامَها بتهويل المشكلات الموجودة في إيران وبث الأكاذيب والسعي لخلق أزمات والتسبب باليأس والإحباط لدى الإيرانيين وإثارة الاضطرابات والفوضى الأمنية و…
فضلًا عن ذلك، تجلى غضب الإيرانيين من ممارسات التليفزيون بوضوح خلال الاحتجاجات في السنوات القليلة الماضية، فإلى جانب الهتافات التي استهدفت النظام برمّته وعلى رأسه المرشد والرئيس الحالي، كان للتليفزيون نصيب من هذه الهتافات، إذ شهدنا المحتجّين يهتفون مرارًا: «الإذاعة، التليفزيون، عار علينا».
ووصل انعدام الثقة بالتليفزيون الرسمي والاستياء منه إلى درجة أن مجرد الظهور على شاشاته أصبح يُعَدّ مذمَّة وعملًا شائنًا، فقد اعترف أستاذ علم الاجتماع حسن محدثي غيلوائي بأنه كلما ظهر على شاشة التليفزيون تعرَّض لانتقادات من طلابه وزملائه بسبب مشاركته في برامج «مؤسسة لا تنتمي إلى الشعب ويبدو أن رسالتها خلق الأكاذيب»، مؤكدًا: «أعتقد أن هيئة الإذاعة والتليفزيون، لا سيّما في المجال السياسي، تبثُّ الأكاذيب بشكل ممنهج». وأضاف: «حين تبدِّل المؤسسة التقارير المتعلقة بالأحداث السياسية إلى بروباغندا سياسية، فإن البروباغندا بطبيعتها مصحوبة ومليئة بالأكاذيب».
لكن لماذا لا يزال القائمون على التليفزيون الإيراني يواصلون هذا النهج رغم أن الوصول إلى المعلومة الصحيحة لم يَعُد بعيدَ المنال لمن ينشد الحقيقة؟ هم يدركون أن أكاذيبهم لم تعُد تنطلي على غالبية الإيرانيين، لكنهم يواصلون امتهان الكذب للحفاظ على الكتلة التي لا تزال تؤمن بأهداف النظام وتصدِّق شعاراته. وأخيرًا، ليس من المبالغة القول إنّ خشية النظام الإيراني من تدفق المعلومات والانفتاح وشبكات التواصل الاجتماعي قد تفوق الخطر المزعوم الذي تمثله إسرائيل ضده.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد