احتضنت العاصمة الإيرانية طهران يوم 19 يوليو 2022م قمة جمعت الرئيس الإيراني إلى جانب نظيريه الروسي والتركي. جاء اللقاء الثلاثي في سياق مسار أستانة لحل الأزمة السورية، إذ طرح الأطراف الثلاثة في كلماتهم وتصريحاتهم الصحفية أبرز انشغالاتهم الأمنية والسياسية والاقتصادية. وألقت التطوّرات الدولية والإقليمية المضطربة بظلالها على الحدث، فروسيا منشغلة بحربها على أوكرانيا، ومفاوضات إيران مع القوى الغربية حول ملفها النووي وصلت إلى الانسداد، ويبدو أن تركيا هي الطرف الوحيد الذي ركَّز على الملف السوري، الذي يُفترض أنه سبب اجتماع الأطراف الثلاثة. وتمحور الطرح التركي حول الحملة العسكرية، التي تهدد بشنّها على شمال سوريا منذ أشهر. وقد كانت مخرجات اجتماعات مجالس التعاون الثنائية، الإيراني-التركي والإيراني-الروسي، أكبر من مخرجات القمة الثلاثية حول سوريا، بل على العكس لم يُتوافَق حتى على جزئية صغيرة منها، ممثلة في الحملة العسكرية التركية المحتملة. فبينما أكدت روسيا وإيران رفضهما لها، لم تعلن تركيا في المقابل تخلِّيها عنها.
وتوجد إلى جانب الملف السوري مسائل أمنية أخرى تربط الأطراف الثلاثة لا تقل أهمية، على غرار الهجرة غير الشرعية، والتهريب على الحدود الإيرانية-التركية، والأنشطة الاستخبارية الإيرانية داخل تركيا. وطهران بدورها لديها انشغالاتها الأمنية، على غرار مسألة الأقلية الأذرية، وعَلاقة تركيا بالنزعة القومية والانفصالية التي تزداد فيها، ناهيك بتبايُن السياسات تجاه العراق وأذربيجان. أما روسيا فإنها بوصفها قوة دولية لها دور في جل المسائل الخلافية بين إيران وتركيا، التي تنحاز فيها تارةً إلى جانب إيران وتارةً أخرى إلى جانب تركيا، كما أنها تنظر إلى الحلف الأطلسي -الذي تعتبر تركيا أحد أعضائهـ أكبر تهديد لأمنها القومي، وترفض توسعته، خصوصًا باتجاه حدودها، بينما تستثمر تركيا ذلك لخدمة مصالحها، وفي مقدمتها الملاذات الآمنة التي توفرها الدول الراغبة في عضويته لجماعات تصنفها أنقرة بالإرهابية، كحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله كولن. فضلًا عن كل ذلك، فإن لهذه الدول مجتمعة عَلاقات مع دول أخرى لها أيضًا حساباتها الأمنية، التي تأخذها الدول الثلاث بعين الاعتبار.
إذًا، في ظل هذا التشابك الجيوأمني للاعتبارات الجغرافية، والنزعة التوسعية للأطراف الثلاثة، والتضارب في المصالح والأولويات الأمنية، وانطلاقًا من تجربة التنسيق الثلاثي لحل الأزمة السورية، فإن الإشكالية التي تطرح هي: إلى أي مدى يمكن أن يتبلور تحالف إستراتيجي يجمع بين كل من روسيا وإيران وتركيا؟
ستجري معالجة وتحليل هذه الإشكالية من خلال عدة محاور، أولًا: الأولويات الأمنية التركية في سوريا، وثانيًا: الأولويات الأمنية الروسية، وثالثًا: الأولويات الأمنية الإيرانية. وسيبيِّن التقرير في النهاية، من خلال السيناريوهات المتوقعة، كيف أن هذه الأولويات الروسية والتركية والإيرانية لا تتقاطع إلا في جزئيات محدّدة، ويتوصل إلى أن هذا التقارب الثلاثي هو أقرب لأن يكون تخادمًا، لا تحالفًا إستراتيجيًا مستدامًا.
أوّلًا: الأولويات الإستراتيجية التركية في سوريا
- المصالح التركية في سوريا:
يُعتبر الأمن والاستقرار في شمال سوريا أولوية كبيرة جدًّا بالنسبة إلى تركيا، لأن حزب العدالة والتنمية مقبل على استحقاقات انتخابية، وتمثل مسألة اللاجئين السوريين أحد محاورها الرئيسية. فعلى الرغم من أن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ سنوات لأسباب مختلفة، فإنّ الخطاب الشعبوي عزاها بشكل أساسي وخاص إلى اللاجئين السوريين، الذين تسببوا في بطالة الأتراك. واستغلّت المعارضة التركية هذا الوضع لصالحها، من خلال تحميل حزب العدالة والتنمية، وفي مقدمته الرئيس رجب طيب أردوغان، مسؤولية ما حصل، ووعدت بطرد السوريين إلى بلادهم. وانتشر هذا الطرح بشكل كبير جدًّا داخل المجتمع التركي، ولعل أبرز مؤشراته التحريض الممارس ضد السوريين، وعشرات الاغتيالات التي تحصل انطلاقًا من خلفيات عنصرية.
تبقى مسألة اللاجئين من بين أسباب الأزمة الاقتصادية التركية، وإن كانت ليست بالحجم الذي تطرحه المعارضة التركية، بل على العكس يعتبر وجودهم إيجابيًّا من ناحية تدوير عجلة الاقتصاد التركي. وبغضّ النظر عن هذا الجانب فإنّ من المؤكد أن ورقة اللاجئين من أهمّ الأوراق المُراهَن عليها في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها بعد سنة من الآن (يونيو 2023م). وسيعمل أردوغان بكل الوسائل على سحبها من أيدي منافسيه، لذلك فإنّ من مصلحته في هذه المرحلة توفير مساحة آمنة تشكِّل غطاءً يمكنه من إعادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين إلى بلادهم، لكسب أصوات الرافضين للوجود السوري في تركيا، والتحدي الماثل أمامه في عدم دفعهم إلى ذلك دون ضمانات أمنية، أو من خلال تفاهمات مباشرة مع نظام الأسد، لأنه في الحالتين سيخسر أصوات مؤيديه، وأيضًا أصوات المجنَّسين.
2. الحسابات الإيرانية-الروسية:
ليست لإيران وروسيا مشكلة في تأمين الحدود التركية على الجبهة السورية، لكنهما تريدان أن يكون ذلك من خلال الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد، وهذا ما يقتضي إعادة بسط الأخير سلطته على كامل التراب السوري، واستسلام الجماعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية. وفي هذا السياق تبرز إشكاليتان بالنسبة إلى تركيا، تكمن أولاهما في رفض كثير من اللاجئين العودة إلى سوريا تحت مظلة الأسد، لخشيتهم على حياتهم، وخوفهم من عمليات انتقامية بحقهم. والأمر الثاني يتمثل في عدم قبول بعض الجماعات المسلحة لأي اتفاقية بين الأسد وتركيا ومقاومتها لها، وبالتالي سيبقى شمال سوريا منطقة غير آمنة، ولن يتحقق هدف أردوغان، فضلًا عن خسارته لبعض قواعده الشعبية. لكن مع ذلك يبقى هذا الخيار مطروحًا، وقد يلجأ إليه حزب العدالة والتنمية إذا نفدت منه الحلول الأخرى، وربما هذا ما تحاول إيران وروسيا دفعه نحوه. وقال الرئيس التركي في مؤتمر صحفي مع نظيره الإيراني: «نحن نتوقع من حكومة دمشق أن تشرع في العملية السياسية، والقضية السورية مُدرَجة بشكل خاص على جدول مفاوضات أستانة، ونأمل في التوصل إلى نتائج جيدة بشأنها».
3. أوراق الضغط التركية:
ستعمل تركيا إلى ذلك الحين بكل الوسائل على توفير الحد الأدنى من الشروط، ولو الشكلية، التي تمكِّنها من إعادة اللاجئين السوريين إلى شمال بلادهم. وفي هذا الإطار تمتلك هي الأخرى أوراق تفاوض وضغط ستساوم بها إيران وروسيا في قضايا أمنية تهمهما كثيرًا، لعل أهمها ما يلي:
- توجيه قوى المعارضة السورية المسلحة التي لا تزال تنشط في الميدان، لاستهداف القوّات الروسية والإيرانية، وإعادة تحريك الجبهة السورية لن تخدم روسيا بشكل خاص، المنشغلة بالحرب الأوكرانية، والتي ستجد نفسها غير قادرة على التوفيق بين الجبهتين، علمًا بأن هناك أطرافًا أخرى متضررة من التطوّرات الحالية، التي سيكون من مصلحتها إعادة التوازن بين الأطراف المتصارعة، ودفع نظام الأسد وإيران إلى التنازل في التسوية السياسية، وهنا تتقاطع المصالح التركية مع الأردنية. ففي حوار صحفي بُعيد قمة طهران، ذكر الملك الأردني أن بلاده تواجه هجمات على حدودها وبصورة منتظمة من «ميليشيات لها عَلاقة بإيران»، معبِّرًا عن أمله في «تغيُّر في سلوك» طهران.
- تستطيع تركيا الضغط على روسيا من خلال الحرب الأوكرانية، إذ نشرت وكالة «سبوتنيك» الروسية تقريرًا ورد فيه أن الفصائل التركمانية الخاضعة للجيش التركي افتتحت في مناطق سيطرتها بأرياف محافظات حلب والرقة والحسكة شمال وشمال شرق سوريا مكاتب مخصصة لاستقطاب المسلحين الراغبين في الانتقال للقتال في أوكرانيا بوصفهم مرتزقة ضد القوّات الروسية، وذلك بدعم من الجيش التركي وقوّات «الناتو»، لقاء رواتب مالية كبيرة، على غرار المرتزقة السوريين الذين جرى إرسالهم إلى ليبيا وأذربيجان.
- لا يمكن استبعاد ربط أنقرة بين وساطتها في مسألة تصدير الحبوب الأوكرانية مقابل إفساح المجال لتصدير الحبوب الروسية أيضًا، خصوصًا في ظل العقوبات الدولية المفروضة على موسكو، بالملف السوري، ومطالبتها بأخذ مصالح تركيا بعين الاعتبار، ولو مرحليًّا.
- لتركيا دور محوري في ما يخص انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، بحكم الصلاحيات التي تمنحها المنظمة أعضاءها للموافقة على انضمام أعضاء جدد. واشترطت تركيا على البلدين التوقف عن دعم الإرهاب (حزب العمال الكردستاني وحركة فتح الله كولن)، وتسليم مسؤولين من التنظيمين. ومبدئيًّا، فإن توسُّع الحلف لا يخدم مصلحة روسيا، بل على العكس تعتبره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. تأسيسًا على ذلك، يمكن أن يكون الرفض التركي، ثم الموافقة المشروطة، شكلًا من المساومة والضغط على روسيا، لتقديم تنازلات في الملف السوري.
- تتوجس إيران كثيرًا من عودة اندلاع الصراع الأذربيجاني-الأرميني حول إقليم ناغورنو كاراباخ، وتتخوف من انتقال الحرب إليها، خصوصًا في ظل الانقسام الداخلي حول الموقف من الحرب. ورفض قطاع من الإيرانيين من أصول أذرية دعم بلادهم لأرمينيا، وهناك احتمالات بشأن تطوّر ذلك الأمر إلى نزعة انفصالية. وتركيا ليست بعيدة عن هذا الملف، فهي تدعم بقوة أذربيجان، ويُعتبر البُعد العرقي أحد مداخل هذا الدعم، وهو ما ترفضه إيران، وتعتبره تهديدًا لوحدة أراضيها. ناهيك بربط تركيا بينه وبين الملف السوري من خلال الاتفاقية التي كانت قد أبرمتها مع الطرف الأذري، التي نصت على إنشاء قاعدة عسكرية تركية في إقليم نخجوان الأذري الملاصق للأراضي التركية، والمنفصل جغرافيًّا عن الأراضي الأذربيجانية. علمًا بأن روسيا بدورها أبدت امتعاضها ورفضها للتدخل العسكري التركي المباشر في الحرب حينها، وطالبتها بالمساهمة في التهدئة، وإيجاد حلول لتسوية سلمية، وبالتالي فإن إعادة تحريك جبهة ناغورنو كاراباخ تبقى واردة، أو على الأقل ستكون فرصة لتركيا للثأر من روسيا وإيران. كما أن تركيا وإيران على خلاف في شمال العراق، إذ تتخوف إيران من أن تصبح تركيا معبرًا لغاز إقليم كردستان العراق إلى أوروبا، الأمر الذي يهدد مصالح إيران الاقتصادية.
ثانيًا: الأولويات الإستراتيجية الروسية
- المصالح الروسية في سوريا:
تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في منطقة البحر المتوسط، وقد منحها نظام الأسد فرصة لذلك. ومع تراجع قوة المعارضة المسلحة ضده، فإن من مصلحتها بقاء الأسد في السلطة، وهي تسعى لاستعادة شرعيته الدولية، وتشكل أي اتفاقية بينه وبين تركيا مدخلًا مهمًّا، لأن أي تغيير سياسي قد يربك وجودها في سوريا. كما تهدف إلى تحييد الولايات المتحدة ودفعها للخروج من البلاد، وفي هذا تتقاطع مصالحها مع إيران، فقد دعا المرشد الأعلى علي خامنئي خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والوفد المرافق له في طهران، لطرد الأمريكيين من منطقة شرق الفرات في سوريا.
بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، التي تحشد روسيا للانتصار فيها بمختلف الوسائل، أضافت هذه الحرب هدفًا جديدًا لها في سوريا، إذ أضحت الأخيرة موردًا أيضًا لتعبئة المقاتلين إلى جانب موسكو، فقد أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الضوء الأخضر في 11 مارس 2022م لمشاركة آلاف المقاتلين من الشرق الأوسط في القتال ضد أوكرانيا. وقال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في اجتماع لمجلس الأمن الروسي، إنّ في الشرق الأوسط 16 ألف متطوع «مستعدون للقتال مع القوّات المدعومة من روسيا داخل منطقة دونباس الانفصالية شرقي أوكرانيا». ونقل عن بوتين قوله: «إذا رأيت أن كل هؤلاء الناس يريدون الحضور لمساعدة الناس الذين يعيشون في دونباس، بمحض إراداتهم وليس من أجل المال، فيجب أن نمنحهم ما يريدون، ونساعدهم في الوصول إلى منطقة الصراع». ويبدو أن هذه الخطوة جاءت في سياق رد روسيا على القوى الغربية، التي أرسلت مقاتلين إلى جانب روسيا تحت غطاء «المتطوعين».
دبلوماسيًّا، ظهر التقاطع بين الحرب الأوكرانية والأزمة السورية في قطع العَلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، إثر اعتراف الحكومة السورية باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين المواليتين لروسيا، الأمر الذي دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى اعتبار أن عَلاقات بلاده مع دمشق «انتهت»، لترد حكومة الأسد بالمثل وتقطع عَلاقاتها مع كييف.
2. الحسابات التركية والإيرانية:
ليس من مصلحة إيران التورط إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأن ذلك سيضرّ بها في مفاوضات الملف النووي على الأقل. وإذا ما تحرك الغرب في سوريا واستهدف بطريقةٍ ما روسيا فإن ذلك يخدمها، إذ يمكِّنها من البقاء فاعلًا محوريًّا هناك، ويجعل موسكو في حاجة إليها. أما إذا توسع الاستهداف الغربي ليشمل نظام الأسد فإن ذلك سيضر بطهران التي تتمسك بالأسد للبقاء على رأس النظام، في حين ليس لروسيا مشكلة في تغيير الواجهة.
من جانبها، تعترض تركيا على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى في دعمها للتنظيمات الكردية، لكن ليس من مصلحتها انسحاب أمريكا من سوريا كليةً وإفساح المجال لانفراد روسيا بها، فهذا سيجعلها في موقف ضعف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نقطة التحول في الحرب السورية كانت بعد التدخّل الروسي عام 2015م، لذلك فإن انفراد إيران وروسيا بتركيا في إدارة الملف السوري يمكن اعتباره من الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها أنقرة، والتي كان عليها الاستناد إلى قوة كبرى توازن روسيا في المفاوضات، وربما هذا ما جعلها لا تستطيع فرض تصوّرها لتأمين المنطقة الحدودية مع سوريا كحدٍّ أدنى.
ثالثًا: الأولويات الإستراتيجية الإيرانية
- المصالح الإيرانية في سوريا:
تتقاطع المصالح الإيرانية مع الروسية بخصوص شرعية النظام السوري وسيطرته على كل الأراضي، وأيضًا خروج الولايات المتحدة من هناك، لذلك ستعمل كل ما تستطيع لبقائه في السلطة. وحول هذه الجزئية تحديدًا، عَلاقتها بأنقرة صفرية، وستضغط عليها بكل الوسائل للقبول بنظام الأسد، بدليل أنه رغم توافقها الظاهري مع تركيا في تصنيف التنظيمات الكردية بالإرهابية، والتوافق على وحدة التراب السوري، فإنها ترفض القيام بأي عمليات عسكرية ضد هذه التنظيمات، كما تعلم بوجود تنسيق بينهم وبين نظام الأسد، وتتحجج بأن ذلك سيؤدي إلى تأزيم الأوضاع وعدم الاستقرار ويصبّ في مصلحة الإرهابيين، فيما قامت هي بعديد من العمليات ضد التنظيمات الكردية في المنطقة الحدودية مع العراق، دون تنسيق مع الحكومة في بغداد، وفي حالتها تعتبر ذلك ضروريًّا لأمنها القومي، ولا يشكل أي خطر على الاستقرار في المنطقة!
منح الأسد طهران نفوذًا كبيرًا في المنطقة، وجعل سوريا خاضعة لإيران، وقد باتت الميليشيات الطائفية التابعة للحرس الثوري الإيراني أداةً لتوسُّع إيران في المنطقة، وأحد أهم عوامل عدم الاستقرار في دول الإقليم. وهنا تبرز حلقة الوصل بين الوجود الإيراني في سوريا والملف النووي، إذ كان المطلب الإيراني برفع اسم «الحرس الثوري» من قائمة التنظيمات الإرهابية في تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية أحد أسباب تعثُّر مفاوضات الاتفاق النووي. وسيكون من الصعب جدًّا على الولايات المتحدة الإقدام على خطوة من هذا القبيل، لأنها ستُقابَل برفض من الطرف الإسرائيلي، الذي باتت إيران موجودة على حدوده، ويشنّ بشكل مستمرّ ضربات صاروخية على أهداف عسكرية تابعة لـ«الحرس الثوري» في سوريا. كما ستدق واشنطن في هذه الحالة إسفينًا آخر مع حلفائها في الخليج العربي، الذين حزموا أمرهم في ضرورة تفهُّم الولايات المتحدة لمصالحهم، وبكل تأكيد لن يقبلوا هم أيضًا بأي اتفاق نووي على حساب أمنهم.
2. الحسابات الروسية والتركية:
لقد جرت الإشارة إلى جُل الحسابات التركية والروسية في العناصر السابقة، وما يمكن إضافته هنا أنه بالنسبة إلى روسيا سيكون من الصعب عليها مساندة إيران، واستعداء دول الخليج باتخاذ مواقف تهدد مصالحها، خصوصًا السعودية التي أظهرت حيادًا من الحرب الأوكرانية، وتملك ورقة النفط التي يمكنها تعميق حجم آثار العقوبات الغربية على موسكو. وتركيا سيكون من مصلحتها إضعاف الوجود الإيراني في سوريا، سواء كان ذلك عن طريق إسرائيل أو الولايات المتحدة أو غيرها. وإعلانها رفض العقوبات الدولية على طهران لا يقتضي بالضرورة مساندتها فيها في كل الأحوال، ففي حالة تعرُّض طهران لعقوبات أشد ستستغل أنقرة الفرصة لمضاعفة المبادلات التجارية معها، أما إذا كان لتلك العقوبات انعكاسات سلبية على أمن أنقرة واقتصادها، ففي هذه الحالة ستوظِّف إستراتيجية المساومة، وتجد مبررات للاستجابة للمطالب الدولية، وتستثمر انخراطها للتقرب من قوى أخرى.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة
تواجه الدول الثلاث عديدًا من التحديات التي تفرض عليها التعاون والتنسيق، كما تتضارب مصالحها في عديد من الملفات. وانطلاقًا من هاتين المفارقتين فإن السيناريوهات المتوقعة بينهم على المدى القريب والمتوسط تتمثل في ما يلي:
- سيناريو التحالف الإستراتيجي:
التحالف الإستراتيجي بشكل عامّ يهدف إلى وضع رؤى وخطط مشتركة بعيدة المدى تشمل مختلف المجالات، وتعاونًا وتنسيقًا بين أطرافه في مواجهة التحديات والمخاطر التي تهددهم. وفي هذا التجمع فإن هذا السيناريو يكاد يكون مستبعدًا، لأن الدول الثلاث بحكم تقاربها الجغرافي والنزعة التوسعية التي تميل إليها في سياساتها الخارجية تجعل القضايا الخلافية تميل في كثير من الأحيان إلى المعادلة الصفرية (رابح/خاسر)، وبالتالي سيكون من الصعوبة وضع إستراتيجية شاملة وبعيدة المدى في ما بينها.
2. سيناريو الصراع:
توجد اختلافات عميقة بين الأطراف الثلاثة، وفي كثير من الأحيان تهدد الأمن القومي للدولة، على غرار شمال سوريا بالنسبة إلى تركيا، والملف النووي بالنسبة إلى إيران، وحرب أوكرانيا وتوسُّع حلف الأطلسي بالنسبة إلى روسيا. لذلك، فإن المواقف تعتبر في بعض الأحيان ضربًا لأمن الدولة وتهديدًا لاستقرارها، كمخططات الاستخبارات الإيرانية لاستهداف إسرائيليين في إسطنبول، من بينهم دبلوماسيون، والاغتيالات التي قامت بها هناك لمعارضين. لكن هذا التباين من المستبعد جدًّا أن يتطوّر إلى مستوى الصراع والحرب المباشرة «بين دولتين»، لأن تكلفة ذلك ستكون كبيرة، فكل طرف يعلم الخطوط الحمراء التي يجب ألا يتجاوزها بالنسبة إلى الطرف الآخر. ورغم التعارض فإنه يوجد تخادُم بين هذا الثلاثي، فعلى سبيل المثال، رغم الأزمات التي مرت بها العَلاقات الروسية-التركية فإنّ من مصلحة روسيا بقاء النخبة التركية الحالية في الحكم، وعدم صعود نخبة موالية للولايات المتحدة كما حصل في أوكرانيا، وهذا ما يفسر موقفها من المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016م، إذ كان من المتوقع أن تصعد نخبة سياسية أقرب لواشنطن، وهذا ما لا يخدم مصلحة روسيا. لذلك رغم التباين بين بوتين وأردوغان يبقى حزب الأخير أقرب إلى الأول.
3. سيناريو التحالفات التكتيكية (أو سيناريو التخادُم المرحلي)
هذا السيناريو هو الأرجح، ويُعتبر استمرارًا للوضع القائم، إذ تدرك الدول الثلاث أنه من شبه المستحيل التوصل إلى توافقات كلية، وأنه في نفس الوقت يوجد عديد من مجالات التعاون، التي تتخادم فيها، سواء مجتمعة أو بشكل ثنائي. بالتالي يحدث فصل جزئيّ بين مجالات التعاون وغالبها اقتصادي، وهو ما تدلِّل عليه أرقام المبادلات التجارية بين الدول الثلاث، التي عززتها المشكلات الاقتصادية والعقوبات التي تعاني منها جميعها بنسب متفاوتة. أما القضايا الخلافية ذات البُعد الأمني والسياس فيجري التوصل فيها إلى تفاهمات جزئية، وتسيير المراحل حسب أولويات كل طرف، والتنسيق في ما بينها للحفاظ على الحد الأدنى من التوافق.
خاتمة:
يكشف تداخل الملفات الأمنية ومحوريتها بالنسبة إلى كل من روسيا وتركيا وإيران حجم التناقض بين هذه الدول في الشأن السوري، وفشل الأطراف الثلاثة في إيجاد حلول لملف واحد من الملفات الخلافية، بل تحوله إلى عامل من عوامل مفاقمة ملفات أخرى كالحرب الأوكرانية، والتوترات الأمنية بين إيران وتركيا في شمال العراق، وذلك يؤكد أن ما يفرِّق هذه الدول أكبر مما يجمعها. والمعضلة الأساسية تكمن في تباين أولويات وحسابات الدول الثلاث، وبالتالي تكون المعادلة صفرية بالنسبة إلى أحد الأطراف، على غرار شمال سوريا بالنسبة إلى تركيا، وأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا، وغير صفرية بالنسبة إلى أطراف أخرى. ويُلاحظ أن التوافق والتعاون في بعض الملفات يتزامن معه أعمال عدائية في الوقت نفسه في ملفات أخرى تؤثر في ثبات العَلاقات. لذلك يمكن القول إن أقصى ما يمكن التوصل إليه هو تفاهمات تكتيكية، لمراحل مؤقتة، يكون الالتزام فيها بالحد الأدنى، وتحت ضغط القوة العسكرية. كما توظِّف مختلف الأطراف الأدوات غير المباشرة كالميليشيات والحركات المعارضة للالتفاف على تلك التفاهمات ونقضها ردًّا على طرف آخر نقض تفاهمًا حول مسألة أخرى، وبهذا تثبت الفرضية التي انطلق منها التقرير بأن التباينات بين روسيا وتركيا وإيران تجعل التحالف بينها أمرًا مستعصيًا. وفي ما يتعلق بكل دولة، فيمكن ختامًا الإشارة إلى ما يلي:
- بالنسبة إلى إيران: فقدفشلت القمة في التوصل إلى نتائج تُحدِث تقدُّمًا ولو بسيطًا في حل الأزمة السورية، التي اجتمعت مع تركيا وروسيا للتباحث حولها. والاكتفاء بالتعاون الثنائي يؤكد أن سياسة المحاور باتت غير مجدية، وذلك سيشكِّل ضغطًا على طهران لانتهاج مقاربة تعاونية تراعي مصالح القوى الإقليمية والدولية الأخرى، التي تمتلك بدورها الأدوات التي تستطيع من خلالها الضغط على إيران وحماية مصالحها.
- بالنسبة إلى تركيا: فإنإخفاق أنقرة في الحصول على تنازلات من طهران وموسكو بخصوص أمنها القومي في شمال سوريا، رغم بُعد الأخيرة جغرافيًّا عن البلدين، يعكس حجم التباعد والهوة بين الأطراف الثلاثة على المستوى السياسي والأمني، لذلك فإن استمرار تركيا في سياسات المساومة والقفز بين المحاور سيبقيها محل عدم ثقة من طرف كل القوى الإقليمية والدولية، وستكون أكثر عرضة للاهتزازات بسبب تقلباتها، وهو ما يستدعي منها مراجعة إستراتيجية «التحالفات التكتيكية» التي تمارسها مع إيران وروسيا، لأنها لا تتناسب مع كل الدول.
- بالنسبة إلى روسيا: كانت روسيا بصفتها قوة دولية تمارس الضغط على القوى الإقليمية دون أن تملك الأخيرة القدرة على المعاملة بالمثل، لكن الحرب الأوكرانية كشفت أن القوة الكبرى في مرحلة الأزمات ستكون في حاجة إلى حشد كثير من القوى الإقليمية إلى جانبها، بل على العكس مجرد حيادها يعتبر إنجازًا كبيرًا، مثلما تنظر إلى موقف المملكة العربية السعودية. وقد بيَّنت الحرب أيضًا أن لتركيا أوراقًا يمكنها أن تساوم بها للحصول على تنازلات تتعلق بالأمن القومي التركي، على سبيل المثال. من هنا فإنه يتوجب على روسيا الأخذ بعين الاعتبار هذه الزاوية عند تعاملها مع القوى الإقليمية.
- بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية: تبقى قمة طهران في أحد أبعادها ردًّا على قمة جدة، خصوصًا أن الولايات المتحدة قد حاولت دفعها باتجاه سياسة المحاور. ولعل مخرجات قمة جدة، التي لم تتوجه بأي خطاب مُعادٍ لإيران وروسيا، وأظهرت وجود مسافة في الرؤى الخليجية-الأمريكية، قد انعكست على قمة طهران. وانطلاقًا من السيناريوهات المُشار إليها في التقرير، فإن سياسة المحاور في هذه المرحلة تكاد تكون مطلبًا إيرانيًّا، حصرًا. لذلك فإنّ استمرار السعودية ودول الجوار الإقليمي في الابتعاد عن سياسة المحاور وتبنِّي مواقف تخدم المصالح المستقبلية لدول المنطقة، الذي بدأت تتشكَّل ملامحه في قمة جدة، يُعتبر الأفضل في هذه المرحلة.